خواطر انتخابية

* نرى اليوم رموز السلطة تتهم نواب "الجبهة" والكتل العربية بـ"الانشغال بالقضية الفلسطينية على حساب قضايا منتخِبيهم" * هذا الإتهام مرفوض: لأن القضية الفلسطينية هي قضية جماهيرنا بامتياز، على الصعيد الرمزي والتمثيلي، كجزء من الشعب العربي الفلسطيني ومن قوى السلام داخل المجتمع الإسرائيلي، أيضاً كتناقض أساسي له انعكاس مباشر على قضايانا كمواطنين؛ ولأن هذه فرية كبيرة، فأي مراقب موضوعي يعرف جيداً مدى نشاط هؤلاء النواب في قضايا الناس اليومية والحياتية *

منذ عشر سنوات ونيِّف، تشنُّ السلطة وأحزابها، بـ"يسارها" ويمينها ويمينها المتطرف والأكثر تطرفا، حملة ماكرة ومدروسة لتقويض شرعية المواطنين العرب الفلسطينيين وشرعية مواطنتهم ووزنهم في القرار السياسي الإسرائيلي. ومن السذاجة الإعتقاد براهنية هذه الحملة في ضوء ما يمكن الإشارة إليه من ظواهر خطيرة بدأت تطفو على ساحة مجتمعنا السياسية، سواء من حيث التوقعات تدنّي نسبة التصويت، أو ارتفاع نسبة تأييد الأحزاب الصهيونية وخصوصا "كاديما" و"العمل". فهذه الظواهر هي استمرارية مباشرة ونتيجة متوقعة لسياسة الترانسفير السياسي التي مورست تجاه المواطنين العرب وقيادتهم السياسية منذ توقيع معاهدة أوسلو وبلغت أوجها في أكتوبر 2000 الأسود (القتل والاعتداءات السلطوية الجسدية والمادية، والتحريض العنصري، وتضييق الهامش الدمقراطي، وفشستة المجتمع الإسرائيلي)، وسياسة التهميش والإفقار الإقتصادي التي تصاعدت باضطراد بعد أكتوبر 2000 وتولّي "الليكود" واريئيل شارون دفّة الحكم في إسرائيل (إشتداد الأزمة المعيشية، وارتفاع نسب البطالة، وعيش نصف المجتمع العربي وستين بالمئة من أطفاله تحت خط الفقر).

*

لقد كان أحد أبرز أساليب هذه الحملة، التحريض المنهجي الأرعن على قيادة المواطنين العرب السياسية، وبالأساس على أعضاء الكنيست. ونرى اليوم رموز السلطة تتهم نواب "الجبهة" والكتل العربية بـ"الانشغال بالقضية الفلسطينية على حساب قضايا منتخِبيهم"! وهذا الإتهام مرفوض لسببين: الأول هو أن القضية الفلسطينية هي قضية المواطنين العرب بامتياز، على الصعيد الرمزي والتمثيلي، كجزء من الشعب العربي الفلسطيني ومن قوى السلام داخل المجتمع الإسرائيلي، لكن أيضاً كتناقض أساسي في المجتمع الإسرائيلي، له انعكاس مباشر على قضايا الناس اليومية، كقانون المواطنة العنصري (الذي يمنع لم الشمل في حال كان أحد الزوجين من سكان الأراضي المحتلة عام 67)، وإغلاق الأراضي المحتلة ومنع العمال الفلسطينيين من الوصول إلى أماكن عملهم داخل "الخط الأخضر"، والقائمة طويلة. أما السبب الثاني فهو أن هذه فرية كبيرة، لأن أي مراقب موضوعي يعرف جيداً مدى نشاط النواب العرب في قضايا الناس اليومية والحياتية. ومن يتابع نشاط هؤلاء النواب عموماً، وفي اللجان البرلمانية المختلفة خصوصاً، يعرف مثلاً أن محمد بركة هو رأس الحربة في كل ما يتعلق بالتعليم العربي، وليس ليمور لفنات أو يوسي سريد؛ ويعرف أن عصام مخول لعب دوراً أساسياً في معركة فك الدمج القسري عن القرى العربية الدرزية الخمس، وليس أيوب قرا أو إيلي يشاي؛ والقائمة هنا طويلة جداً. لكن هذه القضايا لا تهم الإعلام الإسرائيلي على ما يبدو، لذا لن ترونها أو تسمعوا عنها في "يديعوت أحرونوت" أو "القناة الثانية" أو "ريشت بيت".

*

التحريض على القيادة السياسية العربية واتهمامها بالفشل أو بالمسؤولية عن أوضاع مجتمعنا المزرية، يصبح أكثر خطورة ووقاحة حين يصدر عن ساسة السلطة الذين نفّذوا السياسات العنصرية. أما حين يصدر عن عرب قضوا جلَّ حياتهم في أحضان المؤسسة الإسرائيلية، واعترتهم مؤخرا "وطنية الجمعيات"، فيصبح أقرب إلى الدعارة السياسية الرخيصة منه إلى أي شيء آخر.
إن ما تريده السلطة وأحزابها (ومن يتواطأ معهم) هو مسخ هُوية جماهيرنا السياسية والكفاحية، وإعادتنا إلى مرحلة ما قبل يوم الأرض الخالد على ثلاثة أصعدة: الأول هو أن نتخلى طوعا عن إمكانية الإسهام النوعي في معركة تحرُّر شعبنا (ما يسمونه "الإهتمام بشؤوننا")؛ والثاني هو التنازل عن حقوقنا القومية الجماعية والاكتفاء بهامش الهامش الذي تتيحه لنا الدولة "اليهودية والدمقراطية" (ينظر إلى مشروع الدستور الذي يكرّس دونية مواطنتنا)؛ والثالث هو أن نستجدي حقوقنا اليومية على شكل مصلحة انتخابية هنا ومكافأة على ولاء للسلطة هناك، وكأننا رعايا وليس مواطنين متساوين.
ومن هنا فإن الأمر يتعدّى مسألة حجم ونوع تمثيل القوى الوطنية في الشارع العربي. صحيح أن هذه المسألة هامة وأن الفارق بين سبعة نواب وعشرة نواب كبير لأن كل نائب إضافي هو صوت إضافي لقضايا السلام والمساواة وعنوان إضافي لقضايا الناس اليومية؛ لكن المسألة الأهم تبقى الخطر المحدق بوجهة مجتمعنا وهُويته السياسية والكفاحية: فهل سنسمح للسلطة، في آذار 2006، بإعادتنا إلى ما قبل آذار 1976؟

*

لكن هذا كلَّه لا يعني، من جهة أخرى، الامتناع عن مناقشة وانتقاد سلوكيات بعض النواب العرب.
فأنا لا أفهم، مثلاً، عدم التزام نائب ما بقرارات اتخذت بالإجماع في لجنة المتابعة العليا، فقط لأن "نجوميته" لا تسمح له بخوض نضال مشترك. ولا أفهم، أيضا، استعداد نائب للتفاوض مع الحكومة على تأييد مشروع الميزانية مقابل بعض فتات لا يسمن ولا يغني عن جوع. أو أن "يكتشف" نائب مواهبَه الأدبية الدفينة وهو في الكنيست (بغض النظر عما يردِّده بعض الخبثاء حول "الدوافع النفسية-التاريخية" لتلك الإكتشافات). ولا أفهم زيارة نائب عربي إلى "دولة معادية"، فقط من أجل ابتزاز لائحة اتهام تخدم مآربه الانتخابية (نعتبر أن إعادة رفات "شهداء جيش الدفاع" لم تكن سوى ذريعة إعلامية)، دون الاهتمام بما سيترتب على هذه الزيارة من إسقاطات غير انتخابية. ولا أفهم حق أن يصير نائب مضربٌ عن الطعام على خلفية قضية ما موضوعا للتضامن، فيلبث هو بذاته (أو ربما بذاتيته) القضية والخلفية.
ودعونا نتذكر، أيضا، انتخابات رئاسة الحكومة عام 2001 (حين تنافس شارون وبراك)، حين فضَّلت بعض القوى السياسية "مجاراة الشارع"، بانتهاج طريقة الإقصاء الذاتي، من خلال مقاطعة الانتخابات (ليس مقاطعة مبدئية، كما تبيَّن لاحقا حين وُضعت مسألة التمويل على كفة الميزان ورجَّحتها)، وهو ما مهَّد – مع عوامل أخرى طبعاً – لنسبة التصويت المنخفضة في انتخابات الكنيست عام 2003، ناهيك عن منطق "عليَّ وعلى أعدائي" إبَّان مسرحية الشطب.
إن المعادلة المطلوبة في هذا السياق هي أن القيادة الحقيقية والجديرة بالثقة هي التي تحمي الجماهير وتخدم قضاياها، وليس تلك التي تحتمي بالجماهير وتمتطي قضاياها لخدمة ذاتها. وهذه هي المعادلة التي ميَّزت النواب الشيوعيين والجبهويين تاريخيا، والتي نقدِّمها للناس كبديل للسلوكيات أعلاه.

رجا زعاترة
السبت 7/1/2006


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع