ألاخلاق والسياسة

لا نبالغ القول بان الحالة السياسية في عالم اليوم.. عالم العصر الامريكي فاسدة. ولا نحتاج الى براهين واقعية ومادية حتى نثبت ما نقول. لكننا نقف على ثابثين هامين تشيران بوضوح الى وضع السياسة العالمية التي اصبحت في الحضيض بعيدة عن كل القيم الاخلاقية.
اول هاتين الثابتتين: غياب الايديولوجيات الجميلة من مسرح السياسة العالمية بعد ان غابت الايديولوجية الاشتراكية الواقعية مع افول نجم الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في شرق اوروبا.
ثاني هاذين الثابتتين: سيطرة النظام السياسي النيوكولونيالي الرأسمالي، التي تفرضه على عالم اليوم بالقوة متعددة الصور الولايات المتحدة الامريكية، مع شريكاتها الغربيات وخاصة بريطانيا ذلك الذيل الامريكي القديم، وفرنسا التي تحولت مؤخرا الى ذيل امريكي آخر فاعل لسياسة العولمة الامريكية، بعد ان قلبت ظهر المجن للحرية والاخاء والمساواة ولكل مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى. هذا ما شاهدناه على شاشات التلفزيون وبالبث الحي والمباشر من ضواحي باريس والمدن الفرنسية الاخرى، حيث يعيش الفقر والكبت والتفرقة العنصرية مع الفقراء والمهاجرين، وخصوصا العرب والمسلمين والافارقة على هامش المجتمع النيولبرالي الاستهلاكي، الذي تعيشه فرنسا وعالم اليوم الغني برمته بعيدا عن الاخلاق والايديولوجيات.
حاولنا ونحن نحلم مع زخات المطر الشتائية التي تضرب ضربا عاصفا زجاج النوافذ، وبحثنا مع ومضات البرق المتتالية عن "مدينة فاضلة" ولو لبرهة من هذا الزمن العجيب، ولم نجد ولا حتى بقايا لذلك الحلم.
ضاع الحلم وضاع الحب وعشعشت الكراهية، وها نحن من جديد نعيش مرحلة بائسة من الزمن حسبناها لوهلة ما انها اصبحت خلفنا. شراع الحق حطام في كل مكان وشرائع الغاب تسيطر على النفوس وعلى الدول.
لا شك اذا بان الحالة السياسية زمن الحكيم الاغريقي القديم افلاطون كانت ايضا فاسدة، الامر الذي دفعه الى التفكير والبحث في السياسية بحثا فلسفيا حيث حدد في كتابه عن "المدينة الفاضلة" الحكومة والمجتمع الصالحين، واعتبر في المجتمع المثالي الفرد عضوا حيا في جسد الدولة، كما اعتبر الدولة حيوية كالاجساد الحية وعلى هذا وذاك حدد وظيفة الدولة ووظيفة الفرد فيها والعلاقات العضوية بينهما.
نحن نؤمن بحق ان الانسان مدني بطبيعته ولا بد ان يعيش في جماعة وان تكون له مع هذه الجماعة مقتضيات الحياة السعيدة. للمجتمع وظيفة يمارس بها الواجبات المفروضة عليه لكل فرد من افراده، وبالمقابل لكل فرد من الافراد كذلك وظيفته يمارس بها ما يجب عليه من واجبات لهذا المجتمع.
من هنا كانت الحاجة الماسة الى الاخلاق لتنظيم علاقة الفرد بالفرد ثم بالمجتمع وعلى السياسة، لتضع نوع الحكم الملائم لهذا المجتمع وتضمن له ان يعيش في سلامة اذا وُجب التكامل التام بين السياسة والاخلاق. من كل ما تقدم نصل الى السؤال الذي رغبنا بطرحه في بداية المقالة.
أين الاخلاق من السياسة وأين السياسة من الاخلاق اليوم ؟؟
اين هو السياسي الذي يتحلى بالاخلاق العالية التي يفرضها عليه بصورة تلقائية وانتقائية المجتمع الذي اوصله لمقعد في طبقة "الصفوة" حسب افكار افلاطون في "المدينة الفاضلة" الآنفة الذكر.
السياسة الفاسدة كما واضحنا في البداية افسدت الاخلاق بصورة عامة وافسدت اخلاق السياسيين بصورة خاصة. فلا اخلاق في عصر غياب الايديولوجيات ولا اخلاق في عصر العولمة النيولبرالي واتفاقية التجارة الحرة وفلسفة نهاية التاريخ وصراع الحضارات والسفاسف الاخرى التي تحاول فرضها الدوائر الاستعمارية النيولبرالية وفلاسفتها ومؤرخوها على عالم اليوم. هذه السفاسف الفلسفية التي ترتكز على نظريات ورؤى مهزوزة جلبت الكوارث على الانسانية في مشارق الارض ومغاربها وخلقت جحيما حقيقيا لشعوب الارض الفقيرة اينما حلت.
هذه السياسة لا تحترم وجود الغير وحقوقه بل تهدد وجوده المجرد وحقه الاساسي للعيش بأمان وسلام. ها هو عالم اليوم يرقص رقصاته ربما الاخيرة في طريقه نحو نهاية غير معلومة على برميل بارود.. او قنبلة نووية على وشك الانفجار.
النشاط النيولبرالي الجديد لم يكتف بقتل البشر وسرقة حقوقهم وثرواتهم اينما حل بل اهان الكرة الارضية وفجر ثورانها البيئي الخطير الذي لم تعرفه من قبل.
اصبحت الكرة الارضية مكان خطر للعيش فيه بعد ان لوثت انهارها وبحارها وارتفعت درجات حرارتها وذوبت الجليد وكونت ظروفا بيئية صعبة قابلة وقادرة للقضاء على الاشكال الحية المتعددة.. او تهجينها على الاقل ربما تكون صالحة للسكن والعيش في عالم غير هذا العالم. نحن جزء من هذا العالم السياسي اللااخلاقي الذي تعيشه البشرية في كل مكان. نحن العرب الفلسطينيين في اسرائيل جزء من هذا العالم النيولبرالي- الاستهلاكي الجشع اللااخلاقي الذي مهد الطريق الى الانعزالية الاستهلاكية البعيدة عن حقوق الدول وحقوق الافراد والتي وفرت ظروفا مثلى للحروب والاقتتال وقتل الذات الانسانية وما تحلت به من اخلاق. نحن ايضا جزء من امة عربية كبيرة قيمها وتراثها وثرواتها اصبحت مستباحة ورخيصة بعد ان ماتت فينا الاخلاق وابتعدت عنا الايديولوجيات الجميلة التي اهتمت بحق الفرد في العيش فوق هذا العالم بكرامة وبحقه ان يموت بكرامة. هذه الامة دون غيرها في العالم المعاصر ارخت اوصالها واستكانت ومكنت زعماء رجعيين ضعفاء لا اخلاقيين يستبيحون حرماتها ليلا ونهارا ويستغلون مواردها الهائلة لغاياتهم الشخصية الدنيئة وهم صاغرون يهللون للرب اللا اخلاقي القادم الى الشرق العربي لتاديبه على أسنة الرماح من البيت الابيض والذي اكدت افعاله المجرمة بانه لا يبقي ولا يذر من شرف هذه الامة ومن تراثها وثرواتها ويترك لها فضلاته التي مضغها حتى بصقها في وجه حضارة عربية- اسلامية قائمة منذ آلاف السنين فارضا بدلا منها حضارة استهلاكية ضحلة تؤمّن له ارباحه السريعة على حساب ملايين الغلابى في الوطن العربي الكبير. نحن ايضا جزء لا يتجزء من الشعب العربي الفلسطيني الذي ما زال يبحث عن دولته التي ضاعت في نكبة لم يعرفها التاريخ البشري من قبل. هذا الشعب رغم التضحيات الكبيرة التي بذلها على طريق الخلاص ما زال مشتتا في الوطن وفي الشتات لم يتعلم من تجارب الثورات التي حدثت ووصلت وعرفت طريق الخلاص. ما زالت هناك فوضى السلاح وما زالت التعددية السياسية المذهبية التي لا يتحملها شعب مشتت ومعذب في طريقه الى الخلاص. الهدف واحد ولكن الطريق مبعثرة ومتشعبة ومترددة وحائرة ولم تصل نقطة البداية بعد. لا يمكن لشعب ان يتحرر الا بوحدة الهدف ووحدة المصير ووحدة الطريق ووحدة المقاومة. وحدة التيارات المختلفة الآراء مهمة وقاعدة اساسية للوصول الى الغاية الى الدولة العتيدة التي ما زالت في مرحلة الحلم ملفوفة بشرنقة لا يعرف احد متى تتفتق عن جناحي فراشة ترقص في اجواء هذا الوطن الضائع.
بالوحدة انتصرت الثورة الفيتنامية وبالوحدة هربت فلول الامريكان من سايغون وتحقق حلم الشعب الفيتنامي وتحققت نبوءة زعيمه التاريخي هوشي منّه. بالوحدة انتصرت ثورة المليون شهيد في الجزائر العربية واندحر الاستعمار الفرنسي ولم تسعفه كل كتابات المستوطن هناك البرت كامو وبقيت جميلة بوحيرد رمزا اخلاقيا عاليا لحركات التحرر في العالم اجمع.
بالوحدة صمد كاسترو نصف قرن امام ضغط الحصار الامريكي من كل نوع وبالوحدة نرى حلم جيفارا يتحقق وتنتصر الثورة الاشتراكية العمالية في المكسيك وفنزويلا وبوليفيا وغدا في الارجنتين والبرازيل وكل امريكا اللاتينية.
نحن هنا ماذا عنا؟ نعيش بدولة لا تعترف بنا الا اقلية عرقية مهزوزة الانتماء ومنعزلة وغير ذات شأن، تعاني من مشاكل الوجود كلها فوق ارضها الاصلية وتحت سمائها. ستون عاما ونحن نبحث عن هوية حقيقية ونلاحق سراب المساواة في الحقوق والواجبات ونطالب بدولة ثنائية القومية تعطي لمواطنها حقه بغض النظر عن انتمائه ودينه وقوميته وجنسه. بعضنا يصبو الى دولة مساواة لشعبين وبعضنا يرغب بدولتين لشعبين على اسس سلام عادل وحقيقي ونهائي. هدفنا كلنا بمختلف تياراتنا السياسية واحد وهو البقاء... نعم البقاء والتطور في ارض الاهل والاجداد كباقي شعوب الارض. لم نتفق بعد على طريق واحد نحو هذا الهدف السامي الواحد. تعدد الآراء في مرحلة تبلورنا فيه من السلبيات كما من الايجابيات الكثير. من السلبيات تشرذمنا التي تفضحه الانتخابات البرلمانية فنعود بلمحة عين عودة الابن الضال الى حرب داحس والغبراء. اصبحنا كغيرنا نركض الى انتهازية النفوذ الشخصي وعلى حساب المصلحة العامة.
اصبحنا في حالات كثيرة سياسيين لا اخلاقيين همنا المنفعة الشخصية الذي تؤمن لنا حياة استهلاكية ضحلة وغبية. اصبحنا نبحث عبثا عن مدينة فاضلة لن نصلها ابدا. رغم الهذر الاستهلاكي ورغم الجو النيولبرالي لن نصل الى هدفنا اذ لم نتحد على الاقل حتى وصولنا الى ذاك الهدف مهما تعددت الآراء والايديولوجيات الباقية على جناح عصفور يحلم يوما ما بحقه في الطيران من جديد.
ما المانع اذا لو اتحدت كل الحركات والاحزاب العربية العَلمانية في الانتخابات القادمة التي يقر بها معظمنا بانها مصيرية بعد رفع نسبة الحسم على قاسم مشترك كبير وهدف واحد، وهو كما اشرنا اليه حقنا بالبقاء والتطور وحقنا في خلق واقع جديد لاجيالنا الباقية والقادمة التي باتت على شفير الهاوية معرضة للغرق في بحر الاستهلاكية و "الخدمة الوطنية" والانتهازية الفردية والعدمية القومية والضياع الايديولوجي الفكري. السبب لتشرذمنا يدور في نوع من اللا اخلاقية السياسية التي تحدثنا عنها في بداية المقالة غايتها كما قلنا ومبررات وجودها ضمان الكرسي البرلماني والمنفعة الشخصية مستدلة على وجودها بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" بتوافق وتطابق دون ان تدري مع سياسة ميكيافيللي البرجماتية النفعية الذاتية كما ظهر في كتابه "الامير". هذا بالطبع لا ينفي وجود سياسيين بيننا مخلصين وجادين ومثقفين وضعوا نصب اعينهم في المكان الاول مصلحة شعبهم قبل مصلحتهم الشخصية ولم يبدلوا بديلا. وهذا لا ينفي اننا اصبحنا شعبًا واعِيًا صنع المستحيل بعد المستحيل من اجل البقاء والتطور والكمال شأننا شأن الشعوب الحية كلها. لنجد طريقنا كلنا سوية الى هدفنا المشترك ولنبحث بصدق وطني عام عن حبل نجاة مشترك في هذا الزمن العاصف... للزمن وللكتابة ايضا بقية.

(شفاعمرو)

د. فؤاد خطيب *
الثلاثاء 3/1/2006


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع