ثعلب من هذا الزمان

ألخطوة التي لجأ اليها الثعلب العجوز شمعون بيرس بانسحابه من حزب العمل، وانضمامه الى "حزب" شارون الجديد "كديما"، هي آخر ما في جعبة هذا الرجل، ولانها كذلك فقد عرّته تماما ووضعته على حقيقته وليس كما حاول ان يظهر على الدوام منتحلا شخصية رجل السلام ولسخرية الاقدار نال جائزة نوبل للسلام مع الرئيس ياسر عرفات ويتسحاق رابين بعد توقيع اتفاقية اوسلو، كما ان هذا الرجل اقام في السنوات الاخيرة ما يسمى "مركز بيرس للسلام" امعانا في الخداع والتضليل، وايهام الرأي العام المحلي والدولي بأنه داعية سلام كبير، فهو صاحب مشروع الشرق الاوسط الجديد، الذي اصبح الآن "الشرق الاوسط الكبير"، وبيرس استطاع بذكاء شديد، وبالقدرة الفائقة على القاء الخطب ذات الكلام المعسول، والنبرة البلاغية البارزة، واللهجة الدبلوماسية المميزة، وكل هذه الاشياء جعلت منه ثعلبا ماكرا مثّل ادوارا ناجحة، وقد لجأت اليه حكومات اسرائيل المتعاقبة لتبييض صفحتها امام المجتمع الدولي، وللاسف الشديد فان خداعه وتضليله اثمرا كثيرا فقد لقيت دعايته آذانا صاغية، فالرجل يقول بلسانه كلاما جميلا يستطيع ان يخدع به حتى اعداءه.
وان استعراضا سريعا لتاريخ هذا الرجل يمكن ان يكون مفيدا في فهم خطوته التي لجأ اليها، وهي منسجمة تماما مع تكوينه النفسي وخطه الايديولوجي. وهو من بقايا الجيل المؤسس للدولة العبرية. وكان وراء اللقاء الفرنسي – الاسرائيلي الذي قاد الى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وقد استغل العلاقة المميزة التي اقامها مع فرنسا في ذلك الوقت لاقامة المشروع النووي الاسرائيلي، وفرن ديمونا الذري ينسب الى شمعون بيرس.
كان تلميذا نجيبا لبن غوريون، وهو كأستاذه احد الصقور الكبار في تاريخ اسرائيل، كان احد ابوات الاستيطان في الضفة الغربية وكان من اوائل المشجعين له، عمل مع كل حكام اسرائيل لفرض الامر الواقع، والاستسلام على الفلسطينيين والعرب مستخدمين العصا والجزرة، لم يختلف عن الحكام الذين سبقوه او اتوا بعده في التنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، والحق العربي بشكل عام حتى وان غلّف لهجته احيانا بعبارات تتحدث عن السلام الذي ضيّع كل فرصه، وقوّض اركانه مع القادة المتطرفين المتعجرفين الذين اثبتوا ان وجهتهم ليست نحو السلام، وانما ترسيخ واقع الاحتلال، وفرض الامر الواقع حتى وان اقتضى ذلك ان يعيش المواطن الاسرائيلي كل عمره في بروج مشيدة، ووراء الاسوار الواقية، وخلف حصون "صليبية". شمعون بيرس هذا صاحب مجزرة "قانا" عام 1996 في الجنوب اللبناني والحليف الطبيعي لشارون وشريكه في الحكومة التي ارتكبت المجازر المتتالية بحق الفلسطينيين في انتفاضة الاقصى، وليس في تاريخ هذا الرجل ما يدل على اقترابه من السلام الحقيقي ولو بوصة واحدة رغم الحديث الفضفاض الذي يتشدق به حول الموضوع في المناسبات المختلفة، الرجل بياع كلام جميل لا اكثر ولا اقل ولهذا كان خداعه كبيرا، وضرره ماثلا، وخطره ممتدا، لم يأت ارتباطه بشارون من فراغ، هناك وحدة الهدف، وهناك اللقاء الفكري والروحي، وهناك الطموح والغاية المشتركة، ثم هناك الدور الوظيفي الذي يقوم به الرجلان خدمة للدوائر الاستعمارية العالمية وفي المقدمة منها دوائر المحافظين الجدد في امريكا، ولهذا جاء انضمامه الى حزب شارون امرا طبيعيا رغم السلوك الشائن وصولا الى ذلك، ومع ان القرار كان قد  اتخذ قبل مدة طويلة من خلال تفاهمات مع سيده شارون فلماذا نافس على رئاسة حزب العمل اذا؟ ولماذا انتقل الى مكانه الجديد مكفولا برعاية شارون، ومضمونا في الحكومة القادمة بعد هزيمته في حزبه؟
واني لا اعتقد ان الذين تعز عليهم كرامتهم يقبلون بمثل هذه المهزلة التي لا تجلب لصاحبها أي رصيد بل العكس هو الصحيح، ولن يشفع لبيرس ادعاؤه انه يفعل ذلك من اجل دفع عملية السلام، فاي دفع يا شمعون بعد كل الموبقات التي ارتكبتها الحكومات التي شاركت فيها، أي سلام هذا الذي تتحدث عنه وخطوتك الاخيرة ترشح منها رائحة العنصرية الكريهة ليس على العرب فقط، وانما على عمير بيرتس ابن جلدتك لانه من اصول شرقية عربية!!
لقد كان اخوك "جيجي" اكثر وضوحا منك حين عبر عن عنصرية بغيضة بعد فوز السيد عمير بيرتس، وهل يعيبك ان يكون قائدك يهوديا شرقيا لهذا قررت ان تنتقل الى معسكر قائدك الاشكنازي ارئيل شارون!!
وللاسف الشديد هناك قطيع اسرائيلي كبير حجب عن عينيه ضوء النهار، وارتضى لبصيرته العمى التام حين قرر الالتحاق بهذا الركب الكارثي، واعطاه الدعم ولا يزال يعطيه كما تظهر نتائج الاستطلاعات المتكررة!
ان هؤلاء الدجالين اللاهثين وراء "لطش" المزيد من مقاعد الكنيست القادم ليس سعيا وراء السلام السراب الذي يروج له احد قطبي الرحى شمعون بيرس، وليس سلام "خارطة الطريق" الذي يردده قطب الرحى الآخر اريئيل شارون، هذان الرجلان لم نعهدها صادقين في اقوالهما في يوم من الايام، وقد اتيحت لهما الفرص الكثيرة للتدليل على "صدقيتهما" لكننا نرى اليوم ان السلام ابعد ما يكون لان من يبني جدران الفصل العنصري يدرك في قرارة نفسه انه غير متجه نحو السلام، كما ان الذي ينفذ الخطوات من جانب واحد فرضا على الآخرين بعد ان فشل في املاء شروطه عليهم لا نستطيع ان نتوسم فيه أي خير... فلا تتفاجأوا اذا اضافت حكومة شارون – بيرس القادمة تعقيدات للوضع المأزوم اصلا لان هذا هو الدور الحقيقي لاقطاب حزب المنشقين الجديد "كديما" ولا يهم أي واحد منهم ان يكون الطوفان من بعده، فقد نجحوا في جر المنطقة الى الحروب الدائمة وأبعدوا عنها أي فرصة لتحقيق السلام والاستقرار.

(ام الفحم)

أحمد كيوان *
الأربعاء 7/12/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع