لكي لا يصبح الاضراب العام ضريبة كلامية

*هل كان قرار الاضراب في يوم الارض صادراً من الشارع، وهل استدعت الاجواء لاعلان الاضراب *اي قرار بعيد عن مزاج الشارع لن يجد التجاوب الذي يجب ان يكون* نقاش حول موضوع اصبح ماضياً، ولكنه من اجل المستقبل*

فضلت ان اكتب مقالي هذا بعد ان مرّت ذكرى يوم الارض، لكي لا تعتبره فئات انتهازية وكأنه ضد قرار الاضراب، و"تحريض على عدم تنفيذه"!.
لقد قررت لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية في البلاد اعلان الاضراب العام في يوم الارض في هذا العام، وكان نقاش حول هذا الموضوع قد ظهر في اجتماع سكرتارية اللجنة في الخامس عشر من شهر آذار الماضي، وتم الاتفاق في حينه على تأجيل موعد اقرار الاضراب، خاصة وان غالبية القوى الممثلة في اللجنة لم تؤيد الاضراب في حينه، ثم جرى تحول في المواقف، لاسباب لا استطيع اعتبارها، على الاقل مقنعة لي، ليكون القرار باعلان الاضراب.
الغالبية الساحقة من جماهيرنا، والى درجة الاجماع نوعا ما، تعتبر الاضراب كأشد وسيلة نضالية بايدينا في نضالنا المشروع ضد التمييز العنصري وسياسة الحرب، وغيرها من القضايا التي واجب علينا ان نناضل من اجلها.
وحين تقرر مجموعة ما الشروع بنضال ما فإن عليها ان تختار الوسيلة الانجع والانجح التي بامكانها ان تجمع حولها اكبر قاعدة جماهيرية، وان تكون هذه الوسيلة فعالة من اجل الوصول الى هدف، وليس فقط التعبير عن موقف، مع ان هناك اشكالا نضالية مختلفة هدفها فقط التعبير عن موقف.
فمثلا حين نتظاهر ضد الحرب الارهابية على العراق، ويهب الآلاف، ولو حتى المئات، فأيا من المتظاهرين لا يخطر بباله ان ترتعد الجيوش الغازية وتنسحب من ارض المعركة بسبب هذه المظاهرة ومظاهرات العالم، ولكن بنفس الوقت فإن هذه المظاهرات هي تحرك نبيل يجب ان يستمر ويتصاعد.
ولنعد الى حكاية يوم الارض. في كل عام تطرح فكرة الاضراب العام في يوم الارض، وفي غالب الاحيان كان يتم الاعلان عن اضراب عام بحكم الظروف التي كانت تستدعي الاضراب العام، فللاضراب العام يجب ان تكون شروط ميدانية واجواء بين اوساط الجمهور الواسع تستدعي استخدام هذه الوسيلة النضالية. واحيانا حين تقع كوارث انسانية كان الاضراب العام ينفذ خلال 24 ساعة، وكان يكون ناجحا، ولكن في بعض الاحيان كان الاضراب العام مبتذلا، ولم يلق التجاوب الكامل.
وهناك من يقس نجاح الاضراب بالمحلات التجارية على الشارع الرئيسي في هذه المدينة او تلك وفي القرى الكبيرة الى جانب المدارس، ولا يتم فحص مدى التجاوب بين العمال والموظفين الذين يعملون خارج مدنهم وقراهم. اليسوا هؤلاء ايضا جزءا من الجمهور الواسع، ألا توجد قرى تصل فيها نسبة العمال الذين يعملون خارج اماكن سكناهم الى اكثر من 70%.
لقد ظهر النقاش حول اعلان الاضراب في يوم الارض منذ اواسط الثمانينيات، خلال الفترة التي كانت فيها ناشطة الحركة التقدمية، والتي رفعت شعارا سخيفا، في حينه، يقول "الموقف هو الاضراب"، فهل الاضراب هو موقف ام وسيلة؟. وحين كان يتم اعلان الاضراب العام، حسب الظروف، فلم نكن نلحظ "نشيطي" الحركة التقدمية او غيرها من الحركات السياسية الصغيرة مثل ابناء البلد، او الحركة الاسلامية مع بداياتها ينزلون الى الشوارع في ساعات الصباح الباكر لاقناع بعض العمال (قلّة) بالعودة الى بيوتهم واحترام قرار الاضراب، ومن كان يقوم بهذا طوال عشرات السنوات هم الشيوعيون والجبهويون، الذين كانوا يتحملون مسؤولية احترام قرارات الهيئات الشعبية، وهذا من اجل اضفاء هيبة على هذه القرارات واعطاء زخم للنضال، يكون مؤثرا بقدر كبير امام السلطات الرسمية.

آلية اتخاذ القرار ولجنة المتابعة

في الماضي كان القرار الاولي يصدر عن لجنة الدفاع عن الاراضي، ومن ثم يتم بالتنسيق مع لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية. ولا يعلم الجمهور الواسع كيف كانت، وما زالت، تدور جلسات لجنتي المتابعة ورؤساء السلطات المحلية العربية، وتجد نفسك في كثير من الاحيان امام سوق مزاودة، فـ "قمة الوطنية والاخلاص الكفاحي"، بالنسبة لقلة ما، هو ان تبادر للمطالبة باستخدام اشد الوسائل النضالية، حتى يتحول النقاش الى "طك حنك".
والمضحك المبكي ان المزاودة كانت في الماضي تأتي من طرفين متناقضين، فإما من حركات سياسية ليس لها اي أثر في الشارع، او انها تظهر كل اربع سنوات مرة في مواسم الانتخابات، وإما من شخصيات مذدنبة لاحزاب صهيونية تحاول تنظيف نفسها بخطابات رنانة وجوفاء. فإن طالب احد بيوم اضراب يطالبون بيومين، وإن طالب بمظاهرة يطالبون باثنتين، وهذا الامر ليس مجرد كلام وإنما موثق وهناك اسماء قد يستدعي تسجيل التاريخ ذكرها ليعرفها الجمهور الواسع.
ومع مر السنين استفحلت هذه الظاهرة، وباتت المزاودة السياسية تأتي من جهات سياسية لها حضور في الشارع، ولكنها لا تحترمه اطلاقا، ولديها بيانات جاهزة وقرارات فورية لكل مناسبة، ولكن هذه البيانات والقرارات لا تتغير ولا تتبدل، لانها دوما على الطون العالي.... اضراب كل يوم.... على كل حدث، فهل يعكس هذا مستوى مسؤولية تجاه الجماهير.
باعتقادي المتواضع فإن الظروف في هذه الايام لم تستدع الاعلان عن الاضراب العام بين صفوف جماهيرنا العربية، وكان بالامكان احياء ذكرى يوم الارض دون اعلان الاضراب، على الرغم من كل المآسي الجارية في البلاد والمنطقة، فهل هناك احد شعر ان هناك توجها في الشارع يطالب باعلان الاضراب، ام ان المسألة هي من يسبق ويعلن لكي لا يسبقه احد في طلب الاضراب... "ذروة الوطنية"!!.
إن الجواب الاكبر على هذا السؤال نجده في مدى تطبيق الاضراب، إذ ان العديد من المحال التجارية لم تغلق ابوابها، والعمال الذين يعملون في الوسط اليهودي بمعظمهم توجهوا الى العمل، وكذا الامر بالنسبة للموظفين العاملين في مؤسسات الدولة.
ربما ان من انقذ ما تبقى من ماء الوجه هو ان ذكرى يوم الارض وقعت في هذه السنة في يوم الاحد، والى جانب مدينة الناصرة هناك العديد من التجمعات السكانية بالنسبة لها يوم الاحد هو يوم عطلة، ولكن حتى في الناصرة والقرى المجاورة فإن جميع المحلات التجارية التي اعتادت على فتح ابوابها ايام الاحد، لم تتأخر في فتحها، فعلى طول الشارع الرئيسي في الناصرة ويافة الناصرة وجدنا منذ ساعات الصباح محلات البقالة والمخابز ومحطات الوقود ومواد البناء والزهور والبناشر وغيرها قد فتحت ابوابها على وسعها، اما في الاحياء الداخلية فحدث ولا حرج.
واكثر من هذا، ففي ساعات الصباح الأولى كان مشهد العمال المتوجهين الى اماكن عملهم واضحا لا نقاش حوله. اضف الى ذلك ان الكثيرين ممن عطلتهم هي يوم الاحد قد توجهوا الى الرحلات، وكانت شواطئ طبريا والاحراش في منطقة الشمال مليئة بالمتجولين، فهل بهذا الشكل يتم تطبيق قرار نضالي، لا تقولوا لي انهم توجهوا الى الطبيعة في يوم الارض، فهل يتماشى هذا مع ما تضمنته هذه الرحلات؟!.
أنا لا الوم الناس، بأي حال من الاحوال، فمنذ البداية كان واضحا انه لا توجد بين اوساط جماهيرنا اجواء تدعو الى اضراب.
إن من يريد ان يقود الناس عليه ان يحترمها، فالناس ليست مجتمعة حول طاولة هذا الزعيم او ذاك على غلاية قهوة. الناس بغالبيها الساحقة طيبة وبسيطة ليست منشغلة بالسياسة يوميا، ولكن لديها حس وطني يضاهي الكثير من الزعامات، فلا احد يزاود على الناس، وحين تكون الاجواء تستدعي اضرابا، فإن من يُنجح الاضراب هو الجمهور الواسع الكبير، الناس، كل الناس، دون جهد خارق.

شيء من التاريخ القريب

تحضرني هنا الانتفاضة الاولى في الضفة الغربية وقطاع غزة، في الثمانينيات، فحين بدأت، طالبت جميع الفصائل الفلسطينية باضراب عام مستمر دون اي توقف. إلأ ان الحزب الشيوعي الفلسطيني، ذي الرؤية الصحيحة وبعيدة المدى الملتصقة بالناس، رأى خطورة في هذا المطلب، لأن من يريد استمرارية وديمومة النضال يجب ان يتفهم احتياجات الناس اليومية، ويساعدها على تحمل عبء النضال، ولهذا فقد اكد الحزب الشيوعي الفلسطيني على انه لا يمكن الاستمرار لاسابيع واشهر باضراب عام، بل هناك احتياجات للناس، يجب احترامها ليكن بمقدورها تحمل عبء النضال. فـ "قامت القيامة" وهاجموا الحزب الشيوعي والشيوعيين، واتهموه بأقذر الاتهامات والمزاودة. وقد عايشت هذه الفترة خلال الدراسة في الخارج ومن خلال المخالطة اليومية والدائمة مع نشيطين من جميع التنظيمات الفلسطينية، وكان النقاش معها ساخنا جدا يصل الى وتائر عالية.
ولكن في المحصلة ما الذي كان؟ كان ان الناس احبت الحزب الشيوعي، لانه فهم احتياجاتها، وما تم في نهاية المطاف هو برنامج الشيوعيين، وان يتم فتح المحال التجارية جزئيا وخلال مواعيد محددة، وبين الحين والآخر كان يُعلن اضراب عام محدود. واستطاعت الانتفاضة ان تستمر حوالي خمس سنوات لتنتهي بمسار اوسلو الذي اثمرته الانتفاضة الاولى.

وضع مقلق

اكتب هذه السطور في فترة يدور فيها نقاش حول شكل لجنة المتابعة العليا، وهناك من يريدها "برلمانا للجماهير العربية"، ولكن هذا موضوع كبير سآتي عليه لاحقا، ولكن إذا اعتقد البعض ان باستطاعته فرض هيئة شعبية على الجماهير الواسعة ليحدد برنامجها اليومي فإنه سيكون مخطئا، لا احد يستطيع ان يفرض على الجماهير ما لا تريده. والقرار الأخير الداعي للاضراب وشكل تنفيذه هو اكبر جواب.
هناك حركات سياسية متواضعة جدا من حيث الحجم، لا أقلل اطلاقا من احترامها، ولكن عليها ان تعي جيدا حجمها، وان لا تبحث عن اطار يُضخم حجمها بشكل مصطنع. وهناك احزاب سياسية لها حضور في الشارع ولكنها تواصل نهج المزاودة، وهذه وصفة جيدة للزوال.
انا شخصيا عضو في اطار حزبي، الحزب الشيوعي والجبهة الدمقراطية، هذا الاطار عرف جيدا كيف يقرأ الشارع ويفهمه، وفي الايام الاخيرة اتخذ قرارا حفاظا على وحدة لجنة المتابعة، على الاقل كما فهمت انا هذا القرار. واقول كشخص عادي، فقد قررت ان اخوض الحياة السياسية، وها أنا اعيشها، واخترت طريقا سياسية واحدة، ولا استطيع ان اسلك طريقين في آن واحد، ولهذا فأنا لن انصاع لقرارات سياسية ليست حسب مزاجي السياسي، وفهمي للسياسة، تأتي من هيئات اخذت صبغة الشعبية، ولكنها تنفصل شيئا فشيئا عن الشعب.
وهناك اناس اطياب، وطنيون لا اقل، ولكنهم اختاروا لانفسهم ان لا يقحموا انفسهم في الاحزاب، ويجب احترام رايهم، وان لا نبرمج حياتهم ونفرض عليهم التأطر السياسي. هذه الناس وكما ذكرت، لا اقل وطنية من اعضاء مختلف الاحزاب، وهم الذين ينجحون النشاطات النضالية حين يكون لها اساس، وهي ليست بحاجة الى هيئة "برلمانا" يفرض عليها برنامجها اليومي.
ولهذا فعلى لجنة المتابعة ان تبقى على حالها لجنة تنسيق، و"توفيق"، لا اكثر، ومن اراد تسييس الناس فليفعل هذا من خلال نشاطه الحزبي، ولا اكثر من هذا.
بقلم: برهوم جرايسي


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع