"إسأل مجرب ولا تسأل حكيم"

كانت سهرة جميلة وممتعة جدا، جمعت الاحبة والخلان، والحديث ذو شجون، لكن الساعة قاربت منتصف الليل فأخذ النعاس مني كل مأخذ، وعبثا حاولت ابعاده عني الا انه تعلق بجفني يشدهما الى الغموض فأحرجت.
وبينما انا في صراع بين النعاس واليقظة سمعته يقول: قاتل الله الفقر والجهل انهما اشد الآفات فتكا في المجتمع.. فكانت هذه الجملة كافية لتنفض النعاس عني واردت ان اسمع ذلك الكهل المحترم يشرح لحفيده قصة رجل دب الشيب فيه.
اسمع يا جدي، اضطرتني الظروف ان اتطوع للخدمة العسكرية سنة كذا وكذا وكان عمري آنذاك حوالي الثلاثين عاما، حيث كانت خدمتنا ضربا من ابواب المعيشة اغرانا بها الاجر الحسن نسبيا لما كان متوفرا في ذلك الوقت من ابواب العمل، واقولها وبكل صراحة، ان عملنا كان عبارة عن حراسة لا اكثر ولا اقل لمنع من سموهم الدخول الى البلاد، قضيت في الجيش سبع سنوات اقسم لك انني لم اطلق ولو طلقة واحدة باتجاه أي رجل.
واليوم وانا اتذكر تلك الفترة اكره كل ساعة بل كل ثانية منها وصرت اكره السلاح كل السلاح ما عدا سلاح الصيد.. يركاوي وللا لأ.
ولكن الم يكن من الافضل لو بقيت في خدمة ارضك بدلا من ان تلتحق بالجيش، يا جدي؟
بالف الف مرة، لو بقيت اعيش على الزيت والسعتر والزيتون والجبنة، وحافظت على ارضي لكن قاتل الله الطمع والاغراء، فكما تعلم يا بني ان الفلاحة وخاصة البدائية مثل التي هي عندنا وارضنا الشائكة الوعرة، لم تكن لتكفي سد رمق الحياة، زد على ذلك ان الحسد والغيرة غزت كل قرنة في قرانا، فلان بنى دارا كبيرة واشترى اثاثا كذا وكذا، الخ، فعليك ان تفعل مثله او اكده.
الا تظن يا جدي: ان الاغراءات للخدمة – التي اصبحت فيما بعد الزامية - العسكرية بانواعها المختلفة، حرس حدود، شرطة مدنية او في مصلحة السجون، كانت نوعا من سياسة مبرمجة لنترك ارضنا فتصادر بالف حجة وحجة، وعن طريق سماسرة من ابناء جلدتنا مقابل حفنة قذرة من النقود؟
آه آه هذا ما كنت ساقول لكم بالضبط، وهذه هي النتيجة الحتمية ففي تقديري ان اكثر من 65% من اراضي القرى العربية الدرزية صودرت بالف ذريعة وذريعة او بيعت بابخس الاثمان والانكى من ذلك انه بدلا من ان يلتحق ابناؤنا بالمعاهد العليا للتعليم ليتخرجوا مهندسين واطباء وغيرذلك، اصبحت الوظيفة بالنسبة لهم نهاية المطاف، والنتيجة الحتمية اليوم اننا في اسفل الدركات في التعليم الجامعي، الله يخلف على الحزب الشيوعي في وقته الذي ارسل بضع عشرات من ابنائنا لدراسة الطب وغيره في بلاد شرق اوروبا آنذاك والا لبقيت قرانا في اغلب الاحيان دون اطباء او محامين او مهندسين.
يقولون، استزاد ايضاحا ذلك الحفيد ان في هذه البلاد الحقوق مربوطة بالواجبات فهل حصل اولادنا على حقوقهم المدنية، باعطائهم فرص العمل حسب كفاءاتهم ام ان قرانا نالت قسطها الصحيح من التطوير العمراني والصناعي وغيرها.
ضحك ختيارنا بكآبة ويأس، وقال بالعكس يا بني، كأن خدمتنا القسرية اعطت السلطات الفرصة لمصادرة اراضينا "مكافأة" وتعويضا لما يسمونه وبوقاحة ضريبة الدم، وابقينا في المؤخرة من موكب العلم، زد على ذلك انهم حاولوا فاشلين مصادرة هويتنا وقوميتنا لسلخنا عن مجتمعنا العربي، واستغلوا بعض ابنائنا المساكين ليظهروا انهم صهاينة اكثر من اليهود.
وطال الحديث عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية كانت نتيجتها انه اليوم لم تكن السلطة لتستطيع تمرير قانون التجنيد الاجباري على ابنائنا بسبب القوى مصادرة والوعي المتزايد بين الاغلبية الساحقة من ابناء طائفتنا العربية الدرزية.
تذكرت تلك السهرة وانا اطالع ما يكتب عن اصوات بين اخواننا المسيحيين في البلاد اثر الاحداث المؤلمة والمخزية التي كانت في قرية المغار، والتي شجبها ولا زال كل ذي ضمير حي بغض النظر عن دينه او طائفته، والاصعب ان من بين تلك الاصوات اولئك الذين يفكرون في الخدمة العسكرية كملجأ للدفاع عن النفس والكيان.
واذا سمح لي ان اوجه للاخوة هذه الكلمات، لا والف لا ايها المحترمون، لا تغتروا ولا تيأسوا، حكموا العقل بدل العاطفة، ولا تنجروا وراء قلة مهوّسة قد تكون دخلت صفوفكم الموصوفة بالعلم والتعليم ولا تتركوا ساعات الغضب ان تتحكم بعقولكم واسمعوا للعقلاء وهم والحمد لله الاكثرية الساحقة من قيادتكم وشعبكم.
لا تنسوا، بربكم، انكم كنتم ولا تزالون الطلائعيين من حملة مشاعل العلم والمعرفة في هذا الشرق الحبيب وكفانا وكفاكم فخرا واعتزازا ان اقلامكم هزت عروش الظالمين وحطمت حواجز الجهل والظلام.
لا تسمحوا لتلك الغمامة السوداء من المغار ان تكون سببا او حافزا للانتهازيين الضعفاء في نفوسهم والمستغلين السلطويين لدق اسافين الفرقة بين ابناء شعبكم، ولتبق اقلامكم اقوى من بنادقهم وقنابلهم، والسنتكم الادبية الاديبة احدّ من شفرات سيوفهم.
ان قوتكم وقوتنا هما من وحدة عروبتنا، واذا كان قد قيل: ما انقسمت امة على بعضها الا وضعفت فنحن نزيد على ذلك ونقول الا واستهدفت.
وقد صح المثل العربي: اسأل مجرب ولا تسأل حكيم.

(يركا)

محمد رمال *
الخميس 7/4/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع