(بمناسبة الاربعين على رحيل القائد الفلسطيني المعروف توفيق طوبي)
* *
برحيلك ، يا معلم الأجيال ، يكون زمن الفرسان المخضرمين في تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية الفلسطينية والعربية ، قد وصل نهايته . واذا كنت آخرهم في الرحيل ، فلم تكن كذلك في ميدان المعركة ؛ بل كنت دوما في الصفوف الاولى ، تحمل راية الطليعة ، في دروب شائكة وغير مطروقة.
كان ذلك ، على وجه الخصوص ، حين تخلت القيادة الفلسطينية السابقة عن مسؤولياتها في قيادة شعبها ، في أدقّ واخطر مراحل تاريخه ، عشية النكبة ، حيث تركته هائما بلا دليل . حينها ، لم تتردد انت وتلك الكوكبة من الفرسان الميامين: فؤاد نصار واميل توما وغيرهما ، عن التصدّي لمهمة تبدو اليوم نوعا من تحدي السماء ، في محاولة لتجنيب الشعب الفلسطيني النكبة وتداعياتها.
ومن يصدق اليوم انكم ، حين تقدمتم لحمل تلك المسؤولية الاعجازية كنتم ، حينها ، في بواكير الشباب ، في العشرينيات من العمر ، واكبركم سنا ، فؤاد نصار ، في الثلاثين من عمره . ألا تعيد ثورة التغيير التاريخية التي تغطي العالم العربي ، اليوم ، والتي فجّرها شباب في مثل عمركم ، آنذاك ، التذكير بصورتكم ، حينها ، وترمز الى انكم كنتم روّادا في هذا المجال ايضا ، على الأقل بروح التحدّي والإقدام ؛ ولكن مع فارق جوهري ، وهو انكم كنتم تسبحون ضد تيار طاغ من التضليل والتهريج ، بينما شباب ثورة التغيير رفعتهم موجات الملايين العاتية ، التي اكتسبت المناعة ضد التضليل والتهريج، خلال عقود من القهر والاحباط والتجويع .
وفي ايلول 1948 ، ومنذ ذلك الوقت المبكر ، كتبت في حيفا ، كراسة بعنوان "لماذا يجب ان نناضل في سبيل الدولة العربية الديمقراطية" ، (أي وفق قرار الامم المتحدة) وفيها الكثير من التنبؤات التي أكدتها الحياة ؛ ففيما يتعلق بقضية اللاجئين الفلسطينيين ، تقول فيه : ".. وتتخذ الرجعية اليهودية من حالة الحرب القائمة سببا تتذرّع به لمنع اللاجئين من الرجوع الى مدنهم وقراهم ، وهل ترغب الرجعية اليهودية في امر اكثر من استمرار الوضع القائم بالنسبة لتشرد السكان العرب وغيابهم عن أملاكهم وأرزاقهم وأعمالهم ! إنها ترغب في ان يكون هذا الغياب ابديا "؛ وتضيف" إن الحالة القائمة حاليا لا تبشّر بأية امكانية لرجوع اللاجئين العرب الى مدنهم وقراهم بل على العكس من ذلك تماما . ان استمرار هذه الحالة يهدد بانقطاع جميع العلاقات بين أولئك اللاجئين وبين وطنهم ومثوى أجدادهم".
أما حول مستقبل اسرائيل فتقول: "إن نجاح هذه المشاريع الاستعمارية لا يسلب عرب فلسطين استقلالهم وحريتهم فقط ، بل يتهدد ايضا ، وفي الوقت نفسه ، استقلال سوريا ولبنان ويقود الى تقوية النفوذ الاستعماري في البلاد العربية الاخرى، ويرمي الدولة اليهودية في احضان الاستعمار الأنجلو – اميركي نهائيا ، عندئذ تصبح الدولة اليهودية خطرا حقيقيا يهدد مستقبل السلم والحرية في الشرق الاوسط" . واية تنبؤات لشاب في العشرينيات من عمره!
واذا كان طوفان التطهير العرقي الصهيوني ، قد اقتلع الغالبية العظمى من أبناء شعبنا، من المناطق التي اصبحت تعتبر اسرائيلية ، فقد بقيت مزروعا ، يا توفيق ، كشجر الصبّار ، عصيًّا على الاقتلاع ، وتحوّلت مع رفاقك الذين افلتوا من التطهير العرقي للعمل المضني ، لإيقاف نزيف الهجرة والتهجير للبقية الباقية. وبعدها ، لم تكن المهمة اسهل حالا ، ولا سيما تحت وطأة الحكم العسكري الفاشي الطويل . في تلك الظروف البالغة الصعوبة والتعقيد ، كنت على رأس المناضلين لتجميع وتنظيم البقية الباقية من المشتتين ، المفزوعين من جرائم الصهاينة الطامحين بأن لا يبقى أي عربي فلسطيني في ارض وطنه التاريخي ، وكان لكم وحدكم شرف الاضطلاع بهذه المهمة المقدسة ذات الابعاد التاريخية . كانت مسيرتكم تلك نوعا من المعجزة .. كانت كالسير على حافة السيف . فأيّ جنوح الى المغامرة كفيل بتقديم الغطاء لنوايا حكام اسرائيل الصهاينة لاستكمال عملية التطهير العرقي ، وايّ انحراف الى المهادنة كفيل بذوبان تلك الاقلية القومية من شعبنا الفلسطيني ، لغة وثقافة وانتماء وهوية . وبشهادة الخصوم انه لولا صحيفة "الاتحاد"، التي لا تزال تحمل اسمك، محرر مسؤول... لولاها، لنسي فلسطينيو اسرائيل اللغة العربية ! وغنيّ عن القول ان حجر الاساس المتين هذا أمّن بنية الاقلية القومية العربية المناضلة التي تقضّ ، اليوم ، مضاجع حكام اسرائيل الصهاينة.
وبعد وقوع النكبة الثانية ، في حزيران 1967، باسابيع معدودة، تسللنا رفيق من قيادة حزبنا وانا وقضينا الليل بطوله معك في بيتك ، نقلب الوضع المأساوي الناجم عن الهزيمة، من مختلف وجوهه؛ وكان ان تطابقت مواقفنا في ان المهمة المركزية المباشرة هي تصفية آثار عدوان حزيران 1967 الاسرائيلي المدعوم اميركيا .
وحيث بدا ان اقسام الشعب الفلسطيني المقيمة في فلسطين التاريخية: الضفة والقطاع وداخل اسرائيل قد توحدت من جديد، في ظل الاحتلال الاسرائيلي؛ فقد التبس هذا الواقع الجديد على البعض، واعتبر ان مهام هذه الاقسام من الشعب الفلسطيني، بل حتى قياداتها السياسية، بدورها قد توحدت؛ مع التجاهل، عن وعي او بدونه ، للتمايز النوعي بين وضع فلسطينيي اسرائيل ، قيادة ومهام، وفلسطينيي الضفة والقطاع. فنضال الاخيرين ضد الاحتلال الاسرائيلي.. وصولا الى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الاراضي التي احتلت في حزيران 1967، بينما نضال فلسطينيي اسرائيل ، ضد هذا الاحتلال يمثل جزءا لا يتجزأ من برنامجهم العام، في سبيل رفع التمييز العنصري الصارخ ضدهم وفي سبيل المساواة والديمقراطية الحقيقيتين في اسرائيل، وفي سبيل تحويل اسرائيل عن نهج الحرب والعدوان ضد البلدان العربية. ومعلوم انه منذ مباشرة هذا النضال، من الايام الاولى لقيام دولة اسرائيل، تشكلت لفلسطينييها قيادتهم التاريخية ذات الهوية الاممية، لتوحيد نضال العرب، واليهود الديمقراطيين ، لتحقيق هذا البرنامج.
وقد كان لك، يا توفيق، دور مميز مع رفاقك ، في ترتيب الترابط الكفاحي السليم بين هاتين الساحتين المتميزتين بعد عدوان حزيران 1967، رغم انه كان لهذا الخلط، ولا سيما في البدء، بعض الضحايا، مع الاسف . ومعلوم انه ومنذ اليوم الاول لاحتلال بقية الارض الفلسطينية في حزيران 1967 دعّمتم ، بأشكال متنوعة نضال شعبنا لتصفية هذا الاحتلال. وكان من ضمن اسهاماتكم في هذا الدعم ما استخلصناه من تجربتكم الغنية في الصراع مع حكام اسرائيل العنصريين ، هذه التجربة التي كانت ذات اهمية كبيرة لنا.
وقبل ذلك، وحين أقدم حكام اسرائيل، عشية العدوان الثلاثي، مباشرة ، في خريف العام 1956، على تنظيم مذبحة كفر قاسم المروّعة، وساد جو من الارهاب الدموي، كنت ورفيقك الطيب الذكر ماير فلنر فقط من تصدي لاختراق اسوار هذا الارهاب وفضح تلك الجريمة الوحشية. اما توقيت تلك المجزرة ومستوى وحشيتها، فلم يكونا من باب الصدفة؛ بل تحضيرا لترحيل البقية الباقية من فلسطينيي اسرائيل، في أجواء ذلك العدوان، الذي مثلت اسرائيل فيه سنان الرمح؛ حيث كانت تسيطر على حكامها الشهوة العارمة بضم سيناء بكاملها الى دولة اسرائيل. اذ ما ان وصل الجيش الاسرائيلي المعتدي الى قناة السويس حتى اعلن بن غوريون، متعجّلا ، في الكنيست الاسرائيلي، قيام " مملكة اسرائيل الثالثة" . وبهذا فضح نواياه المبيّتة. لكن، كما هو معلوم ، كان عليه بعد ستة اسابيع فقط من ذلك ان يعلن الانسحاب الكامل من سيناء وان يطوي حلمه الشيطاني بقيام "مملكة اسرائيل الثالثة".
وحين وقع الزلزال الكبير، وانهار الاتحاد السوفييتي، واختلّ توازن البعض وفقدوا رؤوسهم وغيّروا جلودهم، لم يتزعزع إيمانك بالماركسية ومستقبل الشعوب الطامحة للعدالة الاجتماعية والاشتراكية، رغم انك كنت اكثرهم ألما وفجيعة ؛ وليتك ، يا توفيق تمهّلت قليلا في الرحيل ، لتكتحل عيناك ببعض ثمار ثورة الملايين، التي تجتاح العالم العربي من أقصاه الى أقصاه، بعد ليل طويل ودامس من الارهاب والهزائم والخنوع.
واذا رحلت عنا جسدا ، يا رفيق الدرب والعمر ، فقد تركت وراءك ذخيرة بالغة الغنى من التجارب والمواقف المسؤولة والمبدئية والاممية، التي ستظل ذخرا للأجيال تهتدي بضوئها المنير. وهذا لعمري هو الخلود الحقيقي ، وإلا ما عساه ان يكون !
الثلاثاء 24/5/2011