توفيق طوبي مدرسة في السياسة والفكر والتنظيم


أسعد يوسف كنانة


رحل عنا توفيق طوبي في فترة نحن بحاجة فيها، أكثر من أي وقت مضى، إلى حكمة هذا المناضل العظيم، الذي قاد حزبنا الشيوعي خلال عقود من الزمن، وقعت فيها أحداث عظمى. ولولا وجود هذه الكوكبة من الرفاق، التي احتل الرفيق توفيق طوبي موقع المركز فيها لكان من الصعب علينا تخيل وضع الجماهير العربية اليوم. هذه الجماهير كانت دائمًا وأبدًا، شوكة في حلق حكام إسرائيل الذين سعوا بكل قواهم للتخلص منها ومن وزنها الهام في النضال الديمقراطي في إسرائيل.  
توفيق طوبي هو ليس فقط رمزا نضاليا شامخا بالنسبة لحزبنا وشعبنا والنضال الديمقراطي العربي- اليهودي؛ توفيق طوبي هو أيضًا مدرسة في السياسة والفكر والتنظيم؛ توفيق طوبي هو شخصية عالمية، فمن خلال نضاله المحلي ونموذج قيادته الأصيل والمسؤول، استطاع أن يكسب حب واحترام وتقدير الحركة الشيوعية العالمية وحركات التحرر العربية وفي مقدمتها حركة التحرر الفلسطينية. ولذلك ليس صدفة أن يقوم القائد الراحل ياسر عرفات بتكريم توفيق طوبي في حفل تكريم خاص، وذلك تقديرًا لدوره الهام في تطوير نهج منظمة التحرير نحو الواقعية والموضوعية، وقد كان لي الشرف بحضور هذا التكريم مع الرفيقين زاهي كركبي وعصام مخول.
ولذلك عندما تغيب هذه الشخصية العظيمة اليوم، هنالك واجب علينا في هذا الحزب العريق، الذي أفنى توفيق طوبي حياته من أجل انتصار برنامجه السياسي والفكري ومُثله السامية، أن نعمل على دراسة تراثه العظيم ومسيرته الشخصية التي تميزت بالتواضع والعطاء وحسن الإصغاء والأهم عدم التفريط برفاق هذا الحزب، وكل ذلك لتنفيذ برنامج الحزب من أجل حرية الشعب الفلسطيني في الوطن وفي جميع أماكن تواجده، وتمسكه العنيد بالموقف الأممي  وبالوحدة اليهودية العربية لحزبنا الشيوعي.
هذا التراث ليس ملكًا للحزبيين وحدهم؛ إنه التراث الموجّه لكل أبناء شعبنا وللديمقراطيين اليهود ولكل القوى المناضلة من أجل التحرر والسلام والعدالة الاجتماعية في العالم.
في الخمسينيات والستينيات عرفت الرفيق توفيق طوبي عن بعيد، عندما كنت شابًا في الحزب الشيوعي، وبسبب اختلاف مواقعنا لم نلتق كثيرًا، وكان طوبي يثير فينا، نحن الرفاق الشباب آنذاك، الإعجاب بمواقفه الصلبة وبشجاعته وخاصة بعد مجزرة كفر قاسم وكيف استطاع مع رفيق دربه، فقيدنا الغالي ماير فلنر، اختراق الطوق وكشف تفاصيل مجزرة كفر قاسم الرهيبة.
وعرفته فيما بعد عن قرب، عندما تسلمت مناصب قيادية في منطقة الناصرة وفي عضوية المكتب السياسي. وبودي هنا الاعتراف أن هنالك من القياديين، من المفضل أن تعرفهم من بعيد فقط، لكي تبتعد عن جوانب شخصية غير مريحة في نهجهم. ولكنني عندما تعرفت على توفيق طوبي عن قرب أكثر قدّرته أكثر واحترمته أكثر. لقد رأيت في نهج حياته المتواضع وتوجهه الدمث واستماعه للرفاق، الجانب المكمل لشخصية توفيق طوبي المناضل الجسور.
من خلال موقعي في قيادة منطقة الناصرة الحزبية، التي شملت آنذاك منطقتي شفاعمرو والبطوف الحاليتين، التقيت بالرفيق توفيق طوبي أسبوعيًا، صباح كل يوم أحد في بيته في حيفا. في هذه الاجتماعات ناقشنا مواضيع حزبية وتنظيمية وسياسية وجماهيرية، وأستطيع أن أقول انه من خلال هذه الاجتماعات تعرفت على جانب آخر من توفيق طوبي، وهو الجانب الإنساني.
إن نهج توفيق طوبي في العمل التنظيمي والسياسي يناقض المقولة ان السياسة هي نهج القوة. بالعكس تماما، فمن يؤمن بأن السياسة هي وسيلة لتحقيق المثل العليا من أجل مصالح الشعب ومن اجل إحقاق العدالة، فهو يتصرف بشكل مختلف، وهكذا كان توفيق طوبي، يُخضع كل الاعتبارات لمصلحة القضية.
لم يهتم توفيق طوبي يومًا أين سيكون موقعه، وأين هي مصلحته الشخصية. كان يهتم بالمحافظة على وحدة الحزب. كان كبير العائلة إذا صح التعبير، الذي ينسى نفسه، لكي يحافظ على وحدة البيت. في المقابل نجد في حالات أخرى أن ما يهم البعض في العمل السياسي هو فقط موقعه وارتقاؤه إلى مواقع أعلى، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة.
عاش توفيق طوبي حياة الحزب بكل قواه. لم تكن هنالك قضية مهما كان حجمها إلا واهتم توفيق طوبي بمعالجتها. وفي كل لقاء بيننا كان يسأل عن حال الرفاق العاديين في الحزب والأصدقاء، وعن القضايا التي أثرناها سابقًا، وكيف تم معالجتها. كان يسألني عن حالات شخصية وكان يؤكد ضرورة مساعدة الرفيق في تخطي أزماته، وأحيانًا الشخصية والعائلية، لأن توفيق طوبي آمن أن الرفيق هو رأس مال الحزب. نعم. الحزب الشيوعي ليس قيادة فقط، وليس موقفًا صحيحًا فقط وليس نظرية صحيحة فقط؛ الحزب الشيوعي هو بالأساس الرفاق العاديون الذين يحملون فكر هذا الحزب وينشرونه بين الجماهير، ويثبت ذلك  من خلال الممارسة والتطبيق وليس فقط في إطلاق الشعارات الرنانة.
هذا الرفيق يجب أن يحظى باهتمام قيادة الحزب، بتثقيفه لتوسيع مداركه السياسية والأهم أن يشعر هذا الرفيق في القرية والمدينة والجامعة والمصنع، أنه شريك في صنع القرار وفي تنفيذه وفي صيانة وحدة الحزب والحفاظ عليه. وعلى هذا النهج، نهج مشاركة الرفاق، الذي اعتبر وبصدق أن الرفيق طوبي هو التجسيد الأبرز لذلك، شهدنا بطولات للرفاق في النضال ضد الحكم العسكري، في النضال ضد المصادرة، في قيادة الإضرابات والمظاهرات، وفي جعل الحزب قوة صدامية أمامية في مواجهة كل أشكال التعسف ضد جماهيرنا.    
الأمر الثاني الذي علينا تعلمه من الرفيق توفيق طوبي، هو حسن الإصغاء للرفاق وللأصدقاء ولأبناء الشعب، وأكثر من ذلك أن نستفيد من تجربتهم ومن حكمتهم، فالحكمة والرؤية الصحيحة وحل مسائل معقدة قد تجدها في نصيحة شيخ مسن، لا يعرف السياسة ابدأ، وقد تجدها لدى الكادح الذي يواجه يوميًا الاستغلال والمواجهة اليومية مع الظلم.
وفي الوقت نفسه عندما نقرر القيام بأي عمل نضالي من الواجب على الرفيق القيادي أن يستمع إلى الناس وأن يتعرف على قدراتها واستعدادها لتنفيذ برامج الحزب النضالية. من المهم أن لا نزج الجماهير في معارك غير مستعدة لها. واذكر الاجتماعات الطويلة التي عُقدت عشية مؤتمر الجماهير العربية الممنوع في العام 81، والتحضيرات ليوم الأرض الأول وغيرها من المعارك النضالية، وكل ذلك بهدف الاستماع أولا للرفاق والأصدقاء وثانيًا لتجنيدهم لهذه الفعاليات النضالية من خلال مشاركتهم في صنع القرار.
في هذه المناسبات كنت أرى توفيق طوبي يسجل كل كلمة، ويستمع إلى كل رأي، ولدى التلخيص لا يهمل ملاحظة واحدة من ملاحظات الرفاق. ولذلك ليس صحيحًا ما كان يُقال ان قيادة الحزب الشيوعي كانت تأتي بالقرارات جاهزة و"خالصة" وتمليها على الكوادر. بودي القول هنا، وعن معرفة تامة انه في الأمور المصيرية كان القرار هو نتيجة نقاش متبادل ما بين الكوادر وما بين القيادة.
المقدمات الصعبة لأي قرار من القرارات المصيرية التي شكلت طريق هذه الجماهير الباقية في وطنها، ستجدونها في دفاتر صغيرة في مكتبة الرفيق توفيق طوبي. استطاع هذا الإنسان أن يستمع للعشرات والمئات، وعلى هذا الأساس كان يقرر فيما إذا كان باستطاعة هذا الشعب أن يقوم بهذا الفعل النضالي أو ذاك. لقد تمتّع الرفيق توفيق طوبي بخصلتين أساسيتين، الأولى هي الحرص على حياة الناس ومصالحها بتوفير أسباب الصمود لها، والأمر الثاني هو الشجاعة في اتخاذ القرارات، لأن كل نضال يتطلب التضحيات، والسؤال هو كيف من الممكن أن نحقق الإنجازات لشعبنا من خلال النضال مع أقل ما يمكن من التضحيات. هذه المعادلة هي التي وجّهت هذا الحزب طوال مسيرته المشرفة. ومن هنا حب الجماهير وثقتها بهذا الحزب.
لقد كان توفيق طوبي خلال مسيرته القيادية جسر الحزب. ومن يعمل في البناء يعرف أنه بدون جسر الحديد في سقف الباطون، سينهار السقف، فهو الذي يجمع الأطراف ويعزّز من  متانتها. وهكذا كان توفيق طوبي. لقد استطاع بعمل متواصل، عمل النملة، أن يحقق وحدة الحزب وأن يُظهر هيبة القيادة، وهذه الهيبة هامة للكوادر وللجماهير وحتى للأعداء. كان هذا الأمر يكلفه الكثير، ليس فقط الجهد الجبار الذي يبذله وقضاء الساعات الطويلة خارج البيت، بل أيضًا من حيث كونه العنوان لكل تظلمات الرفاق. كان توفيق طوبي يمتصّ غضب الرفاق وثورتهم ويسوّي الأمور بينهم، ويستدعي هذا الرفيق أو ذاك ممن لهم تأثير على الرفاق من أجل تسوية الأمور.
هل هي صدفة أن الحزب الشيوعي محافظ على وحدته طوال هذه السنين، وهذا الحزب كما يعرف الجميع تمتع بوجود طاقات هائلة من السياسيين والمفكرين والأدباء والشعراء والصحافيين، ولكل منهم ميزاته الشخصية ولكل منهم طموحاته ولكل منهم إبداعاته ولكل منهم رأيه في كل قضية وقضية.يجب أن أقول هنا وبصدق ان الحال كان سيكون مخالفًا لو لم يكن لدينا توفيق طوبي.
لقد رأينا، للأسف، حركات تحرر ورأينا أحزابا شيوعية في منطقتنا وفي العالم وهي تنهار نتيجة صراعاتها الداخلية، وبالتالي لم تقم بدورها النضالي في حياة جماهيرها. لقد شاهدت الرفيق توفيق طوبي يعمل بكل قوة حتى اللحظة الأخيرة من أجل مواصلة مد الجسور مع كل رفيق، وبجهوده حافظنا على وحدة الحزب. كان الرفيق توفيق طوبي يقول: "كل رفيق قيادي يتمتع بصفات ايجابية وعلينا تعزيز هذه الصفات ومحاربة نقاط الضعف لديه". لقد أثبتت التجربة صحة نهجه.
باعتزاز أقول انني كنت من مؤيدي هذا النهج، نهج توفيق طوبي واسع الصدر. وفي أحيان عديدة وقفت في المكتب السياسي واللجنة المركزية، باتجاه عدم التفريط بأي رفيق، وكان توفيق طوبي يؤيد مواقفي ويقول ان الأمر الأساسي هو وحدة الحزب، وبرأيي أن هذا النهج هو الذي حافظ وما زال على الدور الكفاحي للحزب.
وفي هذا الإطار يمكننا تسجيل العلاقة المميزة بين الرفيقين توفيق طوبي وماير فلنر. وأذكر أنه لدى انتخاب الرفيق طوبي سكرتيرًا عامًا للحزب في بداية التسعينيات، اقترحت استحداث منصب جديد في الحزب وهو رئيس الحزب، واقترحت أن يكون الرفيق ماير فلنر رئيسًا للحزب على أساس أنه يجب الاستفادة من الخبرة الهائلة للرفيق فلنر في المكتب السياسي، واذكر تمامًا كيف عبر الرفيق توفيق طوبي عن تأييده التام لهذا الاقتراح واعتبره خطوة هامة للتعبير عن التقدير للرفيق ماير فلنر.
هذه العلاقة بين ماير فلنر وتوفيق طوبي هي علاقة مميزة وغير عادية، وهي تعكس معدن هذين الرفيقين اللذين أحببناهما وقدرناهما، ولم يخيبا الآمال، بتصرفهما الواعي وبصداقتهما وتعاونهما والتنسيق الدائم بينهما. لقد شعرنا دائمًا أن الواحد منهما يكمل الآخر ولا يمكن أن يكون منافسًا للآخر، وهذا النموذج الجماعي للقيادة هو ما يجب أن نتعلم منه.
لقد احتل النضال اليهودي العربي مكانة الصدارة في نهج توفيق طوبي، وذلك لإدراكه العميق لأسس وجوهر النظرية الماركسية اللينينية، بأن الإنسان يُقاس بمواقفه وبمدى انحيازه لقضايا الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والتحرر. ومن هنا حارب طوبي، وبكل قوة، مظاهر الانعزال بين الجماهير العربية. وكان النضال اليهودي العربي المبدأ الذي لا يتزعزع في فكره وممارسته. وشهدنا ذلك في المعارك الشعبية وفي موقفه الصلب لدى تشكيل قوائمنا للكنيست والهستدروت وفي كافة الهيئات الشعبية، بأن تعكس هذه القوائم، ليس فقط من حيث النهج بل من حيث التركيبة أيضًا، وجه الحزب الأممي، اليهودي العربي. هذا التوجه هو في صالح النضال العام، ولكنه بشكل خاص في صالح نضال الجماهير العربية، التي رفض توفيق طوبي، وبكل قوة، الأصوات القومجية الداعية لعزلها عن حليفها الطبيعي، أي القوى الدمقراطية اليهودية. في هذا الشأن يوجد الكثير مما ندرسه من توفيق طوبي ومن تراثه الثمين.
لقد توطدت علاقتي مع الرفيق توفيق طوبي خلال عملي الحزبي، وباعتزاز أذكر الاجتماعات التي جرت بيننا، حيث ناقشنا جميع الأمور. هذه الاجتماعات التي تعدت الجانب التنظيمي إلى مناقشة أمور كثيرة ومتعددة، وفي الأغلبية الساحقة من القضايا،، إن لم يكن جميعها، كان هنالك اتفاق بيننا في المواقف.
أمام هذه الشخصية الكبيرة، كان من الصعب رفض المهام التي طلبها طوبي من الرفاق. وأذكر في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي حيث تم التوجه إلي لأكون سكرتير منطقة الناصرة الحزبية، وقد أعلنت عن رفضي لذلك، لأنني آمنت وما زلت بضرورة تسليم المسؤوليات للأجيال الشابة، وخاصة أنني كنت ما زلت رئيسًا لمجلس محلي يافة الناصرة، وقد تحدث معي العديد من الرفاق القياديين الذين أحبهم وأعزهم ومع ذلك أصررت على موقفي. وأذكر أن الرفيق توفيق طوبي جلس معي، وأعاد الطلب قائلاً أن وحدة المنطقة هي الأمر الهام. هذا التوجه من الرفيق طوبي حسم الأمر لدي بالموافقة. 
توجهه الوحدوي والدافئ نحو الرفاق، لم يجعل توفيق طوبي يتنازل أبدًا في القضايا المبدئية. في منتصف الستينيات من القرن الماضي عملت أوساط في الحزب، قسم منها بطيب نيّة وقسم آخر بتأثير من الحركة الصهيونية، على تغيير موقف الحزب المؤيد لحركات التحرر العربية. في هذه المواقف كان توفيق طوبي، مع رفيقه ماير فلنر، صلبًا لا يقبل المهاودة، حتى بثمن الانشقاق، وهذا ما حصل في العام 1965.
إن ذكرى توفيق طوبي خالدة في قلوبنا، فهو تجسيد لنضال جماهيرنا على مدى عشرات السنين في ظروف تطلبت البطولة والحكمة وزرع التفاؤل في نفوس جماهير أصبحت أقلية في وطنها. واليوم نقول ان لحزب توفيق طوبي، وبالذات لهذا الجيل العريق من الشيوعيين الأبرار، الأثر العظيم في صمود هذه الجماهير وتطورها على أرض الآباء والأجداد، فتحية حارة للباقين على قيد الحياة من هذا الجيل العظيم والمجد والخلود لتوفيق طوبي وجميع رفاقنا الراحلين.

الأثنين 9/5/2011


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع