ابو خالد البطراوي، مسيرة حياة ونضال وثقافة



*ننشر فيما يلي هذه السيرة، الكلمات التي القيت في مسرح القصبة- رام الله، في حفل تأبين الرفيق والمناضل والمثقف محمد البطراوي "أبو خالد"، 23.4.2011**.    

وُلد محمد خالد البطراوي، في قرية أسدود عام 1928 من أسرة فلاحة ميسورة، وتعلّم في مدرستها، وأنهى الصف السابع، وانتقل إلى مدينة المجدل (عسقلان) لإكمال الصف الأول الثانوي فيها، وكان عليه إنهاء المرحلة الثانوية وأن يتوجّه إلى مدرسة الإمام الشافعي الثانوية بغزة، وهناك انتسب لعصبة التحرر الوطني – حزب الشيوعيين الفلسطينيين- سنة 1945، ولنشاطه السياسي الواسع بين الطلبة الذي أهّله لعضوية اللجنة المركزية لاتحاد الطلاب الذي كان واحداً من التنظيمات الجماهيرية لعصبة التحرّر، فصله مدير المدرسة ممدوح الخالدي، فتفرّغ للعمل الحزبي، وصار أحد محرّري صحيفة (الاتحاد) الناطقة باسم العصبة التي ما زالت تصدر حتى الان في حيفا، جنباً إلى جنب مع الراحل الكبير إميل حبيبي، وهو صبيّ، كما أسهم بدور بارز في تأسيس أول نقابة للعمّال في أسدود باسم (جمعية العمال العربية) التابعة لمؤتمر العمال العرب الذي أسّسته عصبة التحرر، كما نشط مع عدد من رفاق العصبة في قرية أسدود في تشكيل تنظيم للعصبة كان على رأسه المناضل الكبير الراحل محمد عبد الرحمن زقوت، وكان هذا التنظيم السياسي الوحيد في قرية أسدود.
وحين أقامت عصبة التحرر في منتصف عام 1946 مهرجاناً حاشداً في قرية أسدود ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية ومطامعها، واستمرار الهجرة اليهودية، وضرورة جلاء الاستعمار البريطاني عن فلسطين، وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة يعيش فيها الفلسطينيون العرب واليهود على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، خطّط لنجاح هذا المهرجان محمد خالد البطراوي، ورفاقه في أسدود، وهيّأوا كلّ ما يلزم لنجاحه من حشدٍ جماهيري واسع، ليس من قرية أسدود وحسب وانما من القرى المجاورة، وقد حضر هذا المهرجان فؤاد نصّار الذي تحدث باسم العصبة، وفائق ورّاد، وعبد العزيز العطي وفهمي السلفيتي وإميل حبيبي عريف هذا الحفل، ومسلّم بسيسو، وعبد الرؤوف خيال رئيس حزب الكتلة الوطنية الذي ألقى خطاباً أيّد فيه مواقف العصبة السياسية، ووجهة نظرها في حلّ القضية الفلسطينية، وحضر هذا المهرجان محمد نمر الهواري قائد حزب النجادة، واسماعيل الأزهري الذي صار فيما بعد رئيس وزراء السودان، وقد ألقى محمد خالد البطراوي كلمة ترحيب بالضيوف باسم أهالي قرية أسدود.
وبعد صدور قرار التقسيم الدولي في 29/11/1947 تغيّرت موازين القوى، ونشأت معطيات جديدة محلياً وعربياً ودولياً دعت قيادة العصبة إعادة النظر في موقفها، فانعقد (الكونفرنس) في مدينة الناصرة في شباط 1949 الذي أكدّ: ( أنّه رغم الإجحاف الكبير بحق الشعب الفلسطيني الذي مثَّله قرار التقسيم، إلاّ أن العصبة تدعو الشعب الفلسطيني الموافقة عليه) لأنها أدركت حينها خطورة المؤامرة الامبريالية الصهيونية الرجعية التي تستهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني بأسره من وطنه، إذ لم يكن الخيار الحقيقي بين إقامة الدولة الديمقراطية في فلسطين، وبين التقسيم، وانّما بين التقسيم وبين التطهير العرقي، وتشريد الشعب الفلسطيني، وتقسيم وطنه بين الضّم والالحاق وطمس الهوية الوطنية الفلسطينية، ولهذا وافقت العصبة على قرار التقسيم، وطلبت من أعضائها ومناصريها بذل أقصى الجهود والنشاط من أجل ثبات الجماهير الفلسطينية وبقائها في مدنها وقراها مهما كانت النتائج، وكان مُحصّلة هذا النشاط الوطني المثابر بقاء أكثر من (130) ألف فلسطيني في ديارهم، رغم التطهير العرقي وعنصرية الصهاينة ومجازرها.
وحين انسحب الجيش الملكي المصري من قرية أسدود ليلاً وبشكل مفاجئ، هبّ محمد البطراوي ورفاقه في حملة نشطة بين الناس يطالبونهم بعدم النزوح، ولكن معظم أهاليها أخذ ينزح نحو الجنوب، وفي 27/10/1948 دخلت القوات الصهيونية قرية أسدود فوجدت فيها (500) مواطن و (50) عضواً من اعضاء العصبة، فطردت المواطنين الى مجدل/عسقلان التي لم تسقط بعد في يد الصهاينة، وأخذت أعضاء العصبة أسرى حرب، وفي مقدمتهم محمد خالد البطراوي الذي مكث في الاسر حتى 24/3/1949 حيث أُفرج عنه، ورموه في القدس وغادر الى الخليل ومنها تسلّل الى غزة، والتحق باللجنة القيادية للعصبة التي لم يكن يوجد غيرها من التنظيمات السياسية الفلسطينية.
وفي هذه الفترة شنّ الحكام العرب وجيوشها حملة شرسة ضد الشيوعيين، وفرضت الإدارة العسكرية المصرية حكماً عسكرياً إرهابياً معادياً لأبسط الحريات، وحظرت التنظيمات السياسية والنقابية، وفرضت إجراءات قمع شديدة كالتوقيف الإداري، والاعتقالات بالجملة، وطبقت قانون الطوارئ الذي سنّه الاستعمار البريطاني عام 1936 لقمع الثورة الفلسطينية وتصفيتها، وفي 10/7/1949 اعتقلت الادارة العسكرية المصرية محمد خالد البطراوي، وعدداً من رفاقه، ورُحّلوا الى معتقل قنطرة شرق في سيناء، وأُفرج عنه وعن رفاقه بعد اعلانهم الاضراب عن الطعام عام 1951، ووضُع محمد خالد تحت الاقامة الجبرية، ولكنه استمرّ في نشاطه الحزبي من موقعه القيادي كاتبًا، ومحرّضًا، ومثقِفاً لرفاقه في خلاياهم السرية.
وفي العاشر من آب عام 1952، وبسبب النشاطات الواسعة التي قام بها رفاق العصبة، ومنظماتها السرية شنت الإدارة المصرية حملة واسعة اعتقلت فيها (400) مناضل من أعضاء العصبة، فاختفى أبو خالد، وتسلل لاحقًا إلى الضفة الغربية وتابع نضاله مع رفاقه في العصبة، وبعد جهد استطاع أن يحصل على جواز سفر أردني باسم (حسين خليل علي)، وغادر إلى الكويت قبل استقلالها، وتابع نشاطه السري مع عدد من رفاقه، وكان وهو في الكويت يرسل الى المعتقلين في السجن الحربي ومعتقل الواحات الخارجة مساعدات مالية ساهمت في تحسين ظروف حياتهم في هذين السجنين.

 

إن مسيرة حياة ونضال محمد خالد البطرواي طويلة، ومثمرة، وعميقة التأثير في رفاقه، ومن عرفوه من الشباب الفلسطيني والعربي، وسيرة حياته تحتاج إلى أكثر من كتاب لتسجيلها. ومحمد خالد البطرواي المربي والمعلم والعلَم ليس بمعناه الراية الخفاقة وحسب وإنما العلَم يعني أيضًا سيد القوم وكبير العشيرة، ولكن أبا خالد لم يكن كبير عشيرة أو سيد قبيلة، وإنما كان سيد الكلمة، والموقف الملتزم، والفكر التقدمي والثقافة المنطلقة من حب الناس والنضال من أجل حقوقهم، وحقوق شعبنا الوطنية والديمقراطية والاجتماعية، وبناء مجتمع الحرية والتقدم والعدالة والاشتراكية، هذا الحلم الجميل الذي ناضل من أجله أبو خالد طيلة حياته.
ستظل ذكراك خالدة يا أبا خالد في قلوب رفاقك ومحبيك.

 

 

 

محمد البطراوي.. اسم كبير في الثقافة الفلسطينية المعاصرة


*محمود شقير

 

ها هي ذي أربعون يومًا انقضت منذ رحل الرفيق محمد البطراوي "أبو خالد". رحل المثقف الكبير الودود المثابر المحتفي دومًا بالتقدم العلمي وبالثقافة التقدمية حتى اللحظة الأخيرة من حياته الحافلة بالبذل والعطاء، وبالإيثار والمحبّة التي كان يخصّ بها أفراد عائلته ورفاقه وأصدقاءه وزملاءه. هكذا هي سجايا أبي خالد، منذ تفتّح وعيه على الدنيا وانتمى يافعًا إلى عصبة التحرّر الوطني في فلسطين: اهتمام صادق بكلّ من عرفهم ومن عرفوه، ورعاية لم تنقطع لأجيال بعد أجيال من الكتاب والفنانين الذين كانت لأبي خالد علاقات راسخة معهم باستمرار، زادها رسوخًا انجذابه للأدب في أسمى تجلياته، وللفن في أجمل تشكيلاته، وللثقافة في أبهى معانيها.

وها هي ذي الأيام تنقضي ونحن لا نصدّق أن محمد البطراوي المثقف التقدمي الذي لم يغب يومًا عن ساحة الثقافة، قد غاب جسده في اليوم الذي اختاره الفلسطينيون لكي يكون يومًا للثقافة الوطنية الفلسطينية، وهو اليوم نفسه الذي يصادف عيد ميلاد محمود درويش. فأية مفارقة هذه، تلك التي يرحل فيها علم بارز من أعلام ثقافتنا المعاصرة في الذكرى السبعين لميلاد شاعرنا العظيم؟ وأية مفارقة هذه تلك التي يرحل فيها أبو خالد في عزّ اندلاع الثورات الشعبية العربية التي نتوقّع أن تأخذنا إلى مشارف عصر جديد، حيث الحرية والديمقراطية والدولة المدنية وتداول السلطة وحكم القانون والعدالة الاجتماعية والمساواة، وهي القيم التي ناضل محمد البطراوي طويلاً من أجلها، وظلّ مشدودًا إليها متعلّقًا بها من غير كلل أو ملل، ومن غير تراجع أو ارتداد.

أذكر أنه في حوار بيني وبينه قبل رحيله بأسبوعين، وبعد اجتماعنا الذي عقدناه في مقرّ حزب الشعب للجنة الاستشارية للحزب، كان معنيًّا بأن ننتبه إلى الأساليب الجديدة لتعميم الثقافة التقدمية، وذلك بالاستفادة من خدمات الانترنت، لكي تكون هذه الثقافة في متناول الأجيال الشابة، للتزوّد بها وللمضي على هديها نحو  المستقبل المنشود. وكانت له تصوّرات حول كيفية تطبيق هذه الأساليب، وهي التي كان سيقدّمها في اجتماع لاحق للجنة الاستشارية. وللأسف، فقد انعقد الاجتماع، ولم يكن أبو خالد بيننا. كان جسده قد غادرنا، غير أنه كان معنا بأفكاره وبمبادراته وبدماثة خلقه وباحترامه لرفاقه واحترامهم له. وقفنا دقيقة صمت حدادًا عليه. وكنت أراه على امتداد السنوات الخمسين الماضية ونحن نقف خاشعين وفاء لذكراه.

وأذكر أنّ له فضلاً عليّ في الثقافة وفي السياسة لن أنساه. فهو الذي رعى مسيرتي الأدبية منذ ابتدأت الكتابة أوائل ستينيات القرن العشرين. كان قد انتبه إلى ما في قصصي التي رحت أنشرها تباعًا في مجلة "الأفق الجديد" المقدسية من انحياز إلى فقراء الفلاحين والعمال. وقد سعى من خلال الحوار الهادئ إلى تعزيز هذا التوجّه العفوي لدي، وسعى في الوقت نفسه إلى تعريفي بالأسس النظرية لمنهج الواقعية الجديدة. وكنت أصبحت آنذاك واحدًا من كتّاب مجلة "الأفق الجديد" الذين يتردّدون على بيت أبي خالد الواقع في البيرة، في أوّل الشارع المقابل لملعب مدرسة الفرندز. كان البيت صغيرًا غير أنه كان يتسع لكلّ الضيوف انطلاقًا من كرم صاحب البيت وصاحبة البيت. وكانت حوارات ثقافية وسياسية شتى تدور ساعات وساعات في هذا البيت، وفي البيت الآخر الذي انتقل إليه أبو خالد وأسرته، وظلّ يعيش فيه سنوات طويلة حتى حضرته الوفاة. وأنا أتذكّر الآن، كم من كتب استعرناها من مكتبة أبي خالد، لتكون خير زاد لنا في رحلة البحث عن ألق الحقيقة وعن شرف الانتماء!

 

وهو الذي هداني إلى الحزب الشيوعي. كنا أنا وزملاء مجلة "الأفق الجديد" نعرف أنه شيوعي ذو تجربة متشعّبة في العمل الحزبي والسياسي، وأنه جرّب الاعتقال والنفي والتشريد والفصل من العمل بسبب قناعاته وأفكاره. وكنت في تلك الفترة واحدًا ممن يضمرون العداء للشيوعية، بسبب تأثّري بالأفكار القومية الناصرية، وبسبب الدعاية التي كانت تضخّها في عقولنا أجهزة الإعلام الغربية الاستعمارية المتناغمة مع أجهزة الإعلام العربية الرسمية. ومع ذلك، لم ينسحب عدائي للشيوعية على علاقتي الشخصية بأبي خالد. كان الرجل دمث الخلق لا يفرض أفكاره على الآخرين فرضًا. وكان الحوار العقلاني الرصين هو وسيلته لإيصال أفكاره. وكان إلى جانب قدرته على إدارة الحوار قادرًا في الوقت نفسه على الإصغاء لوجهة النظر الأخرى والتعاطي معها باحترام رغم اختلافه معها.

وأذكر أنه في مرحلة من مراحل حوارنا الذي استمر طويلاً، عرض علي أن أقرأ جريدة الحزب السريّة. كان اسمها "التقدم"، وكانت صغيرة الحجم من صفحتين اثنتين، بحيث يسهل طيّها وإخفاؤها عن أعين رجال المباحث في زمن القمع ذاك. تهيبت للوهلة  الأولى من حيازة جريدة سريّة لحزب محظور تمّ القبض على كثيرين من قادته وكوادره، وحكم عليهم بالسجن مددًا تتراوح بين  خمسة عشر وتسعة عشر عامًا، وتم إيداعهم في سجن الجفر الصحراوي البعيد.

أذكر أنني أخذت الجريدة من باب التأدّب، وكي لا أوصف بأنني أخشى العواقب إلى هذا الحدّ غير المتوقّع، وأنا الذي يدافع في قصصه عن العمال الكادحين والفلاحين الفقراء. قرأت الجريدة ووجدت فيها عرضًا لمشكلات الناس بلغة بسيطة واضحة، وهي مشكلات حقيقية لا يمكن لذي عقل سليم أن يعترض عليها بأيّ حال.

داومت بعد ذلك على قراءة الجريدة. وفي إحدى المرات، لم أضعها في جيبي. بل إنني خلعت حذائي وطويتها بعناية وخبأتها في الحذاء. أخبرت أبا خالد بأنّ رجل المباحث القبيح، الذي يمضي وقته في التسكّع من شارع إلى شارع متعقّبًا حركة الناس، سألني قبل أيام حينما كنت أنتظر الباص الذاهب من رام الله إلى القدس، عن مكان عملي. وقلت: يبدو أنه وضعني ضمن قائمة الأشخاص الذين سيقوم بمراقبتهم أثناء تجواله في شوارع رام الله والبيرة. طمأنني أبو خالد إلى أنّ مهماته الحزبية السرية تجعله بعيدًا عن مراقبة رجال المباحث، ما جعلني مطمئنًا إلى حدّ ما. واستمر الحوار بيننا من العام 1963 حتى أوائل العام 1965 . ثم تقدّمت بطلب انتساب للحزب.

 

بعد ذلك، تعدّدت الأنشطة الحزبية والسياسية والثقافية التي خضناها معًا. كان محمد البطراوي ثاقب البصيرة قادرًا على رؤية الأمور على نحو صحيح مهما تعقّدت الأوضاع. ومنذ سنوات مجلة "الأفق الجديد" والدور الريادي الذي مارسه فيها ناقدًا وصديقًا مرشدًا للكتّاب الشباب، وحتى سنوات زمالتنا الحميمة في وزارة الثقافة، وما بعد وزارة الثقافة في الحزب وفي المناسبات الثقافية والسياسية والاجتماعية المختلفة، ظلّ أبو خالد هو هو، الرجل نفسه الذي عرفته قبل خمسين سنة، بما جُبل عليه من تواضع وابتعاد عن الأضواء وزهد في الشهرة، ومن رغبة في خدمة الآخرين والعناية بهم، والفرح لنجاحاتهم كما لو أنها نجاحاته هو، بل أسمح لنفسي بالقول إنّه كان صاحب فضل على كثيرين من الكتاب والفنانين الفلسطينيين الذين كانوا على صلة دائمة به. وكم كان الشأن الثقافي مهمًّا وحيويًّا بالنسبة لهذا الرجل الموسوعي الثقافة، الواسع الأفق، المتعدّد مصادر المعرفة، التقدمي، الإنساني النزعة! وكم كان هذا الرجل محبًّا للحياة مقبلاً عليها حتى غدت ابتسامته التي لم تكن تفارق وجهه السمح علامة على تفاؤله، وعلى صدق انتمائه لكلّ ما في الحياة من خير وأمل وحبّ وجمال وثراء!

 

فيا رفيقي العزيز أبا خالد. وأنا أقف هنا في أربعينك لكي أعدّد بعضًا من فضلك علي، وأنوّه بأقلّ القليل من واجبي تجاهك، فإنني يا رفيقي سأظلّ ما حييت مخلصًا لذكراك، حافظًا لمآثرك، مقدّرًا في الوقت نفسه ما بذلتْه من جهد وتعب، وأبدتْه من كرم وترحاب، تلك الإنسانة الطيبة، رفيقة دربك المخلصة عايدة البراقوني، أم خالد. لها كلّ  التقدير والاحترام، ولها وللعزيزة زويا وللأعزّاء خالد وسامي ووليد، وللآخرين من أبناء العائلة وللرفاق والأصدقاء وافر العزاء بفقيدنا الكبير محمد البطراوي، الذي لن يغيب اسمه من سماء بلادنا وأرضها على مرّ الزمان.

 

داجون* فلسطين

// مفلح طبعوني

 

الناصرة أحبتك يا أبا خالد، أحبت ابداعك الأدبي، احبت فيك التقدمية والعلمية، أحبت فيك الوطنية الطبقية، أحبتك كما أحببتها وقد تراقص هذا الحب على أنغام النضال والابداع بينك وزيّادها سنواتٍ وسنوات.
مؤسسة توفيق زيّاد للثقافة الوطنية والابداع ستحفظ هذا الحب المميز في أعماقها وستنقشه في غرف قلبها "كنقش ٍ فوق جذع زيتونةٍ في ساحة الدار".

 

الكريمات والكرماء:
إسمحوا لي أن انقل من خلالكم هذه الكلمات لأبي خالد، الذي يشاركنا هذا الاحتفاء بتواضع ومحبة ووفاء.
أبا خالد: آمنت بأن الثقافة الفلسطينية ركن من أركان مقاومة الاحتلال، لا بل عمودها الفقري، فطعّمت الذوق الفلسطيني العام ضد التشظي الثقافي وحافظت عليها وعلى مشتقاتها لتحافظ على وجودنا.
 غرستها بعمودية لا بسطحية في النفوس، واندفعت لتكثفها وتتابع مسيرتها بتواصل بين المتلقي والمبدع لأن هذا التواصل كما كنت تقول من السمات الضرورية للصمود والبقاء.
حاربت الابتذال.. وعززت الانتماء. منعت سقوط الذوق بعفويةٍ وفطريةٍ وتماسكٍ مع هذا الوطن، فصار معك وبك عطاءً، فهمت الواقع بعلميةٍ وأكدت على اهمية الحرص الثوري ومرونة الفاعلية والابداع. سهرت لكي نكبر كالفرفحينة وننشل الماء من البئر ونؤنس البيت لكي لا يموت .. كما قال الدرويش.
ابتعدت عن النخبوية والفوقية اللتين بطبيعتهما تبتعدان عن الحراك الثوري ومساراته. عملت على تغذية الدماغ بفيتامينات الابداع، وقدمت الدواء الشافي ضد فيروس الجمود والجهل، خصوصًا للذين يعيشون فوق هذه الأرض التي تسمى فلسطين.

 

ابا خالد.. لم تعتبر الوطن مجرد قسائم وبلوكات في الخريطة العالمية لأنك تمتعت برائحة ترابه، نسائم مجالاته، حافظت على شجره وثماره، حافظت على ناسه الذين تعلموا منك بدون تلقين مثلما تعلموا من رفيق دربك الشاعر والمناضل والقائد توفيق زيّاد، الذي كان يقول، كما كنت تقول: "قد لا يكون شعبنا أفضل الشعوب ولكنه حتمًا لا يقلّ بالأفضلية والحسانة عن غيره من الشعوب".
انغمست بالوفاء والالتزام وبالسيف المشهر في وجه الاحتلال، وقفت ضد الظلم ودافعت عن حقوق المظلومين وثوراتهم  وانتفاضاتهم، ناصرت المرأة واحتضنت الأطفال ودافعت عن تلاقح النوار، تمسكت بالوحدة وعاديت الانقسام.

 

أبا خالد.. لن أنسى ذاك اليوم في شتاء العام الخامس والسبعين من القرن الماضي عندما اجتمعنا معًا مع توفيق زيّاد وآخرين في هذا البلد (رام الله)، لن أنساه ولن انسى الكلمات التي قالها لك توفيق زيّاد في لحظات تألقه: "اعطيك قلبي كاملا يا أبا خالد لأنك انت الذي جعلت الأطفال الباكين يضحكون وانت الذي حميت الأزهار من الهلاك والذبول".
لن أنسى ذاك اليوم الذي غنينا فيه جميعًا "أناديكم" وأنشدنا من قصيدة العبور لنعبر كما عبروا.

 

عبس سعد السعود في هذا العام وكادت  لا تدور الماويّة في العود، ولم تخرج الصبايا لتتنقل في سعد الخبايا بسبب فراقك وفراق رفيق دربك القائد توفيق طوبي. وأتساءل هل هو مصادفة انبعاثك في العام الثامن والعشرين من القرن الماضي قبل انبعاث رفيقك الزيّاد بعام. وهل هي صدفة عندما فارقتنا في نفس اليوم الذي فارقنا فيه عزيزنا توفيق طوبي.. وأتساءل عن قوة الجذب ما بين الرحيل.. رحيلك والانبعاث انبعاث محمود درويش.. وما هي العلاقة ما بين رحيلك وثقافتنا الوطنية؟ تُرى هل لطبيعة حاجاتها؟!! أكاد أجزم..!!!
من قال يا "أبا خالد"  أن لا بيت لك في هذا الوطن ولا سقف لك تحت سمائه ولا ساحة امام دارك، فأنت الوطن وانت الأساس وأنت السقف والجدران.. أنت النافذة التي تستميل رياح الحرية.. وأنت البوابة التي نخرج منها الى ساحات النضال لنرفع شعار "الشعب يريد انهاء الانقسام لكنس الاحتلال"، انت الذي ما غاب عن حجارة الأطفال وحفظ عن ظهر قلب أفضل مسارات النضال.


يا "داجون أسدود"
يا فارس التحرير المضاف
 الى العُصبة
"ستظلّ قمرنا
 وزاد الطريق"
كما قلت أنت...
 يا سيد الريادة
وصاحب المنارة
 حتمًا سنلتقي
في ناصرة العراقة.

------
*داجون- اله الفلسطينيين (الكنعانيين) في اسدود، نصفه العلوي على شكل انسان والسفلي على شكل سمكة.

 

 

أبو خالد لم يكن موظفًا في الوزارة كان صاحب دور وواضع هيكلة أول وزارة ثقافة فلسطينية

كلمة الأخ يحيى يخلف*

 

في هذه الأمسية الطيبة والدافئة، أمسية الوفاء التي تحتفي بذكرى رجل نزيه، نستحضر صورة محمد خالد البطراوي (أبوخالد)، الذي هو مكتبة معرفية، وتراث من الخبرات والتجارب، وقامة عالية مفعمة برائحة الانسانية، وهو في الوقت نفسه ابن فلسطين  وتراثها وهويتها، ابن شمسها وقمرها، وابن طبيعتها الفريدة، ومشهدها الحضاري، وابن جراحها، وحنينها، وأنينها، وشموخها، وثوراتها.
خرج من جرح النكبة، ومثل الكثير من أبناء جيله، لم يدع الجراح تتحكم بمصيره وأقداره، وانما استطاع بحنكة واقتدار ان ينتزع زمام المبادرة ليقرر مصيره بنفسه، وينقّل على الدرب خطاه.
طُلب مني أن أتحدث عن محمد خالد البطراوي الزميل والموظف في وزارة الثقافة، واستطيع لو كان الوقت متاحًا بشكل كاف، ان أتحدث طويلاً عن الزميل والصديق الذي عرفته منذ منتصف الستنينات، وأن أروي ذكريات لا تُنسى عن مرحلة غنية وثريّة كانت تشهد يقظة الهوية الوطنية، وكانت تشهد الارهاصات لولادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة..

 

أما الحديث عن أبو خالد الموظف في وزارة الثقافة، فربما أتردد قبل ان أدلي بشهادتي عنه في هذا المجال، لأن أبو خالد البطراوي لم يكن في يوم من الايام موظفًا، وانما كان صاحب دور، وشتّان ما بين الموظف، وصاحب الدور، مثله مثل كل المثقفين الذين عملوا في الوزارة، كمحمود شقير، وعلي الخليلي، وأحمد دحبور، وخليل السواحري، وغسان زقطان، وفاروق وادي وغيرهم.
أبو خالد وأولئك الأخوة كانوا حملة رسالة، حملة قناديل المعرفة والحكمة والهوية والمشهد الحضاري.
أبو خالد هو الخبير في السياسات الثقافية، وهو الذي وضع أول هيكلية لأول وزارة ثقافة، في أول سلطة وطنية في تاريخ الشعب الفلسطيني، وتفوق على خبراء السياسات الثقافية الذين أرسلتهم لنا منظمة اليونسكو لمساعدتنا في وضع خططنا الثقافية، فخبراء اليونسكو لم يكونوا من روح ونسيج هذه الأرض الطيبة والمقدسة، ولا من روح ونسيج ما أبدعه الانسان فوقها على مر العصور من آداب وفنون، لذلك قررنا بعد نقاش مطّول ان نرسم خططنا بخبراتنا الذاتية، وكانت مساهمات أبو خالد البطراوي ثريّة الرؤى والمحتوى.
وظل أبو خالد طوال فترة عمله بالوزارة يقوم بدور مكتبة مرجعية تزخر بالذخائر والنفائس.
وظل رمزاً ثقافيًا لا موظفًا، وسيبقى رمزًا ونجمًا مضيئًا في تضاعيف سفر الابداع.

 

السيدات والسادة:
أتخيّل ان روح أبو خالد ترفرف فوقنا، ولعله يستمع إلى كلمات الثناء، ويستهجن هذا الجد في الحديث..
لعله يعترض، ويطلب منا أن نحب الحياة، وأن ندع الأحزان جانبًا، وننتقل إلى مساحة الفرح، فقد كان أبو خالد يحب الحياة، ويمتلك خفة الدم، وخفة الظل، والميل إلى المرح، يذكرنا وهو الذي يمتلك رزانة العلماء وحكمة الفلاسفة، ان ننتقل في زمن الهموم الكبيرة، أن ننتقل من جد الشتاء إلى هزل الصيف كما يقول طه حسين، أو ننتقل من الجد البحت إلى الهزل النحت كما يقول ياقوت الحموي صاحب معجم الادباء.. فروح أبو خالد الجميلة، وخفة ظله سمة من سمات النزاهة والمحبة والامل وعمق الشخصية الانسانية.
كان وهو الذي يمتلك ابتسامة طفولية ساحرة، يقول لنا في لحظات الصفاء: أنا انافس الاطفال في حب الشوكولاته والكوكا كولا وميكي ماوس..
ولو كان في الوقت متسع، لذكرنا العديد من المواقف الساخرة ذات الدلالة التي كان أبو خالد يضفي عليها شيئًا من عطر روحه المرحة، وبما يعبّر عن انحيازه للابتسامة في مواجهة الأسى، والفرح في مواجهة اليأس، والتفاؤل في مواجهة الاحباط.

 

السيدات والسادة:
في حياته الخاصة كان صديقًا حميمًا لكل الناس، للأدباء، والمفكرين والقادة السياسين، وفي الوقت نفسه صديقًا للبسطاء والفقراء وابناء البلد.
وفي حياته الخاصة كان رب أسرة بامتياز، فهو الاب العطوف، والزوج الحنون، والجد الحاني، وكان بيته مثل شجرة وارفة يتفيأ ظلها الظليل كل ضيف عابر أو زائر مقيم، ولذلك صار موضوع البيت الذي آواه وسكنه أكثر من أربعة عقود، معلمًا من معالم هذه المدينة، وممتلكًا ثقافيًاً فريدًا.
وصار موضوع إخلائه قضية رأي عام في جميع أرجاء فلسطين.
ونحن نتحدث عن البيت، فلا بد أن نتحدث ولا نغفل ذكر ربّة البيت، بل سيدة البيت، أم خالد، شجرة الزيتون الشامخة التي ما جفت عروقها، ولا ذبلت أوراقها.. أم خالد هي ضوء البيت وعمود البيت، وهي الأميرة عالية الهمة التي كانت خير رفيقة درب لأبي خالد، وخير شريكة حياة.
تحية إلى هذه المرأة العظيمة التي ساهمت في بناء مداميك تجربة أبو خالد الثقافية والوطنية والانسانية.
سلام عليك يا صديق العمر..
سلام على روحك التي تسكن ذرى الجبال، وتتوزع على التضاريس والفصول، وتتحول إلى غبار طلع وترانيم، وصهيل خيول، وابتسامات أطفال يولدون في ربيع فلسطين.

 

*وزير الثقافة الاسبق
(نص الكلمة التي القيت في مسرح القصبة- رام الله، في حفل تأبين محمد البطراوي "أبو خالد" 23.4.2011).    

 


سنديانة الثقافة الفلسطينية

تأبين ابو خالد البطراوي في رام الله يتحول الى احياء ذاكرة الثقافة الفلسطينية

البطراوي من مؤسسي عصبة التحرر الوطني في اسدود، ومحرري صحيفة الاتحاد في اربعينيات القرن الماضي


شهد مسرح وسينماتك القصبة في رام الله يوم السبت الماضي حفل تأبين الأديب الراحل محمد البطراوي "أبو خالد"، الذي تحول إلى أمسية أدبية شارك فيها من أحبوه من أدباء وشعراء ومثقفين وسياسيين ووزراء يتقدمهم رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فياض، إلى جانب لفيف من محبيه وأصدقائه، في خليط وحد الطيف الفلسطيني على خطاه، حيث اجتمع من عرفوا ابو خالد وعملوا معه في حفل تأبينه، فتحدثوا عنه وتذكروه، وهو أحد اعمدة الثقافة الفلسطينية وسنديانتها، في أمسية أشبه بالأدبية اعتاد جلوسها، لكن هذه المرة هي امسية تأبينه في  ذكرى الأربعين لوفاته، بعد أن كان قد خطفه الموت في الثالث عشر من آذار الماضي.
تربط "الاتحاد" و"أبو خالد" علاقة تاريخية، انطلقت في اربعينات القرن الماضي، وكان أبو خالد صاحب دور طليعي في تأسيس الحركة الثقافية في فلسطين، ويعتبره الكثيرون من رواد الحركة الثقافية وأحد الأعمدة الرئيسية للثقافة الفلسطينية، وسنديانتها والأب الروحي لوزارتها.
 
شارك في تأبينه وزيرة الثقافة الفلسطينية سهام البرغوثي، والأديب ووزير الثقافة الأسبق يحيى يخلف، والأديب محمود شقير، والأديب علي الخليلي، والشاعر مفلح طبعوني ممثل مؤسسة توفيق زيّاد للثقافة والإبداع، والشاعر ماجد ابو غوش والكاتبة اماني ابو هنطش والممثل جورج ابراهيم والمخرج أكرم المالكي والمسرحي ماجد الماني والفنان التشكيلي جميل السايح الذي غنى وعزف على العود، وترأس لجنة احياء الذكرى موسى ابو غربية.

 

وزيرة الثقافة الفلسطينية تعد بحفظ تراث ومكتبة "أبو خالد" وتحويل بيته الى مركز ثقافي يحمل اسمه

وزيرة الثقافة السيدة سهام البرغوثي قالت في كلمتها في رثاء أبو خالد البطراوي بأنه رجل عايش نكبة شعبنا عام 1948 وعانى عذابات التهجير وقسوة الغربة، وبرد السجون، وانخرط في العمل السياسي والثقافي .. ونزف عمره مناضلاً في ميادينها لقناعته بأهمية دور الثقافة في النضال من أجل العودة والحرية مشكلاً نموذجًا فريدًا في العطاء حتى آخر لحظة في حياته.
وقالت الوزيرة، نلتقي كلنا من قوى وطنية ومؤسسات رسمية وثقافية ...وأصدقاء ورفاق .. يجمعنا اسمه وذكراه وتوحدنا محبته، وفاءًا لذكراه وتقديرًا لعطائه في كل المجالات التي عمل فيها، فمن عرف "ابو خالد" عن قرب يدرك مدى عظمة هذا الرجل.  كما تميز أبو خالد بحبه للحياة والإنتماء لجيل الشباب وروحهم العالية، إذ لم يكن العمر عنده هو مقياس الشباب والكهولة وإنما الروح
وكان أبو خالد الأب الروحي للعاملين في الوزارة مهما بلغت أعمارهم... يستشيره الجميع دون استثناء ... ويعطي مشورته للجميع بذات القدر من المسؤولية  فهو المرجعية المكرسة، وهو الحاسم لأي خلاف حول معلومة او تاريخ واسم أو واقعة، فثقافته الموسوعية كانت تؤهله للعب هذا الدور.
وبقدر ما كان تواقًا ومحبًا للحياة بقدر ما كان زاهدًا في كل مناحي حياته... لم يكن يومًا باحثًا عن موقع أو منصب ...لأنه وبكل بساطة كان اكبر من اي لقب حمله أو منصب شغله.
لقد كان محمد البطراوي مثقفاً ثورياً بإمتياز، كرس حياته من أجل النهوض بالثقافة الفلسطينية والحفاظ على هويتها الوطنية. كان هذا اختياره الحر في حياته و هو الشيوعي العتيق ..وليس غريبًا ان يختار محمد البطراوي يوم رحيله في الثالث عشر من آذار يوم الثقافة الوطنية الفلسطينية.
وقالت الوزيرة ان الوزارة تعمل على شراء بيت عائلة البطراوي (بيت العز) لتبقى ام خالد فيه، بعدها ستفكر في تخليد ذكراه وحفظ مكتبته وتحويل البيت الى مركز ثقافي.

 


تصريح مشفوع بالقسم

* خالد محمد خالد بطراوي *

 

أنا الموقع اسمي أدناه خالد محمد خالد بطراوي حامل بطاقة هوية رقم (983560244) من اسدود أصرح بعد أن حذرت أن أقول الصدق والا عرضت نفسي للعقاب الجزائي بما يلي:-
الحضور الكرام، يا مصابيح الظلام
قد تستغربون لم يكن لي الا أن أكتب الفقرة الأخيرة من هذه الكلمة. فقد كنت مستعدا منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما لكتابة كلمة التأبين هذه.
عام 1966 دخلت الصف الأول في المدرسة تعلمت القراءة والكتابة وكان المنهاج المقرر للفذ خليل السكاكيني، حفظت الدروس عن ظهر قلب كما يقولون. تعلمت كيف ان طفلا كان يحمل صحنا وقد غطته أمه وعندما استفسر منه أحد الفضوليين عما في الصحن أجاب "لو أرادت أمي أن تعرف ما به لما غطته"، تعلمت أيضا عن ذلك الذي التف حوله بعض المارة وكان يرمي ابر الخياطة في ثقوب من بعيد فيصفق له الحاضرون الا أن الفذ خليل السكاكيني أضاف " مهارة لا تفيد أحدا". وتعلمت درسا وضعني مع والدي على الطريق النضالي الكفاحي، فقد شاهد أحد الرعاة شابا يصطاد طائر الحجل بأن يربط الطائر المدرب قرب الشبكة ليجذب طيور الحجل الأخرى فتقع في الشباك. اصر هذا الراعي على شراء طائر الحجل هذا وساوم صاحبه الى أن  بادله بقطيع الماشية الذي يملكه. وعندما حصل على طائر الحجل أطلق عليه النار فأرداه قتيلا. تعجب الرجل الآخر فقال الراعي "انه يخون بنات جنسه".
الشاعر الكرمي عبد الناصر صالح رثى والده بالقول "قم اليك قم اليّ قم للقصيدة مزقت أوراقها نهايات الفصول"
كنت أيها الأحبة طفلا في السابعة من عمري عندما حصلت حرب الأيام الستة، خفت على والدي كثيرا، فقد أخذوه مع مجموعة من الرجال الى ساحة المدرسة العلائية بينما أخذوا "ابو رجائي الحصري" الى الحرش حيث الخزامى الآن قبالة منزل المرحوم كريم خلف، وكان والدي يتقن اللغة العبرية وكيف لا فقد تعرض للأسر ابان النكبة، ففهم من حديث الجنود أنهم يريدون اطلاق النار صوبهم فصرخ طالبا من الرجال الهروب عند سماع سحب الأقسام والقفز خلف سور المدرسة العلائية فنجوا جميعا باستثناء التسبب بجراح طفيفة جراء القفز والجري هروبا.
عندها أيها الأحبة بدأت أخشى أن أفقد والدي أو والدتي. بعد الاحتلال كان والدي يعمل في شركة كهرباء القدس وكان يذهب يوميا الى مدينة القدس، بعد الدوام في الثانية والنصف كان ينهمك في العمل الوطني السري وكان يعود بعد منتصف الليل. كنت أخشى عليه من الموت. كان يحضر بعد منتصف الليل يتناول الطعام الذي كانت تتركه والدتي على الطاولة، يذهب للنوم. كنت أخشى أن يموت أثناء النوم، لذلك كنت أنهض تقريبا كل ساعة أو حتى نصف ساعة لاتفقده ان كان يتنفس أم لا. ربما هذا هو السبب انني لغاية الآن لا انام في الليل بصورة متواصلة، كل نصف ساعة الى ساعة أنهض.
قم اليك قم اليّ قم للقصيدة مزقت أوراقها نهايات الفصول
استمر هذا الحال أيها الأحبة، الخوف من أن يموت والدي، وكان جنود الاحتلال يدهمون بيتنا بصورة متواصلة كل ليلة حول الساعة الثالثة فجرا بحثا عن جيفارا غزّة ورفاقه اذا أن أحدهم وهو الشهيد عبد الهادي الحايك هو ابن عم والدتي. كنت أخشى على والدي من الاعتقال ومن ثم الموت. كنت لا أحتمل فكرة أن يموت والدي. (سر غطاة المنهل).
مع كبري شيئا فشيئا والتحاقي بالعمل الوطني ضمن صفوف اللجان الطلابية ولجان العمل التطوعي والحركة الوطنية، ومع استمرار ملاحقة والدي واعتقالي عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري أصبحت أكثر خوفا أن أفقد والدي. وعندما استشهد ماهر عبد الجواد صالح في لبنان منتصف السبعينيات وأقيم له بيت عزاء كبير في البيرة، وقيلت كلمات رثاء للشهيد من بينها كلمة ذوي الشهيد. قلت في نفسي " يا ولد ماذا لو استشهد الوالد، وطلب منك أن تلقي كلمة رثاء، ماذا أنت بفاعل، وهل ستصمد".
قم اليك قم اليّ قم للقصيدة مزقت أوراقها نهايات الفصول.
عندها أيها الأحبة، قررت أن أبدأ كتابة كلمة تأبين الوالد. منذ عام 1976 وحتى الآن وأنا أكتب محطات رئيسية حصلت للوالد تتعلق بمرضه كنت أخشى أن لا تطاوعني الكلمات أن أكتبها عندما تحين اللحظة.
عام 1978 غادرت للدراسة الى الاتحاد السوفييتي، قبل أن أغادر خبأت ما كتبته عن الوالد في سنسلة المدرسة الهاشمية (مقر مركز بلدنا الثقافي الآن) بعد أن غلّفته جيدا. لكنني عندما عدت لم أجده ولم أجد السنسلة. وعندما كنت في الاتحاد السوفييتي كتبت أيضا عندما مرض الوالد ونقل الى مستشفى المقاصد بالقدس وقالوا له انه يعاني من سرطان في الرئة وكادوا يجرون له عملية جراحية رئيسية الا أنهم اكتشفوا في اللحظة الأخيرة أن صورة الأشعة التي شخصوا فيها المرض هي لمريض آخر. في أثناء ذلك كنت أكتب وأكتب عن كل لحظة مرضية عاشها وكنت أخشى أن يموت وأنا في الغربة. كتبت كل ذلك وأعطيته لزميل لي من حزب "راكح" وطلبت منه أن يحفظه لي فهو من الداخل وكان بامكانه أن يحتفظ بالرسائل. لكنه عند حضوره الى أرض الوطن، مات في حادث سير واختفت كتاباتي.
قم اليك قم اليّ قم للقصيدة مزقت أوراقها نهايات الفصول
عدت عام 1984 الى أرض الوطن وبقيت الى الآن وسأبقى حتى الممات. مرّ والدي بمحطات مرضية كثيرة، أهمها عملية القلب المفتوح التي أسفرت عن زرع "بطارية" كمنظم لضربات قلب الوالد، كان ذلك قبل أكثر من 12 عاما. تصوروا أيها الأحبة، لقد وجد الأطباء أن جدران قلب والدي الداخلية ملساء بعكس المعهود فهي خشنة لذلك صعب عليهم تركيب جهاز منظم ضربات القلب، اضطروا الى تركيب براغٍ لتثبيت الأسلاك، "برغي" و"رندلتين" و"صمونة" بمصطلحاتنا الهندسية.
اذا هو ذا قلب أبو خالد البطراوي، الأملس الرقيق من الداخل ومن الخارج.
ضاعت كل جهودي في الكتابة راثيا والدي اختفت الاوراق التي " دحشتها" في السنسلة ومات رفيقي صالح ابن "راكاح" أما جهاز الكمبيوتر القديم الذي احتفظت به بمعلومات محدّثة عن "محطات رئيسية كادت  تفقدني والدي" أيضا فشل اخصائي الحواسيب في انتزاع المعلومات منه.
كل ذلك لأنه ربما لا يريدون لي الا أن اكتب بنفسي الرثاء بالكامل وليس فقط العبارة الأخيرة. لكن فشلوا فشلا ذريعا، اذا ان ما كتبته مخزون في ذاكرة وكان عليّ فقط أن أختصره لكم الآن.
قالت شاعرة من نابلس لا تعلن عن نفسها هي أم للتوائم يارا وسارة وحلا: "لم يخلق الانسان كي يسير بطريق مختصر من المهد الى اللحد".
أبو خالد البطراوي لم يسر بطريق مختصرة من المهد الى اللحد. في قصيدة له بعنوان كيمياء يقول:
كيمياء
الحب كيمياء نحسها بشدة
الكره .. مهما اشتد .. نحسه
بكيمياء أقل
والتفاحة نداء الكيمياء
الأكثر حدة
أما الوطن .. أما الوطن ..
فلا كيمياء نحسها
بدونه

 

"لقد أتعبني سائق سيارة الاسعاف كان يسير بسرعة ولا يهتم للمطبات "تلك كانت كلمات والدي الأخيرة في غرفة العناية المركزة" مات مبتسما مرحبا بالموت. وصف الشاعر ماجد أبو غوش الموت بالقول "يأتي فجأة تخور قواك ترى الأشياء مقلوبة وتمسك الهواء بيديك"، وبالفعل فقد زار الموت والدي زيارة مفاجئة فرحب به دونما وجل، لكن قواه لم تخر، لم ير الأشياء مقلوبة، ولم يمسك الهواء بيديه، اذا عليك يا ماجد أبو غوش أن تصف الموت على نحو آخر.
قم اليك قم اليّ قم للقصيدة مزقت أوراقها نهايات الفصول.
"سيدو احنا في اسدود" بهذه الكلمات خاطبت ابنتي الغالية بيسان جدها أبو خالد البطراوي. حصلنا على تصريح وذهبنا لزيارة بلدنا. كنت قد زرت بيت جدّي لأبي عام 1972 وبسبب الغربة والاعتقال والتصاريح المشؤومة لم يتسنَّ لي دخول بلدنا الا قبل شهرين، لكنني كنت أرشد سائق السيارة الى حيث البلدة الأصلية اسدود. لا علينا بالتفاصيل المملة. سيدو احنا في اسدود عبارة على الهاتف المحمول قالتها ابنتي لجدها الذي دون أن أراه لحظتها أعلم أن قلبه قد خفق وكنت أخشى أن نفقده عند تلك اللحظة. أخذ بحماس يرشدنا الى أين نذهب، اذهبوا نحو الجنوب، اجعلوا سكة الحديد على يمينكم، سيروا جنوبا نحو قطاع غزّة، على يساركم تجدوا بيتنا وسط البيارة. لم يدرك أبو خالد البطراوي، أنه عندما كان يصف ذلك كله، كنا نحن نقف هناك تماما، وذلك بحسنا بشعورنا دون ان ندري كيف وصلنا قبل أن يرشدنا.
ليتنا لم نذهب، ليت صورة اسدود البلد بقيت عند ابنتي بيسان، لم نجد الا عمارات شاهقة امتدت من خلالها اسدود الحديثة على مساحات اسدود القديمة. كان الطقس باردا والأمطار غزيرة، مع ذلك خلعت ابنتي بيسان حذاءها وسارت على رمال شط اسدود ووقفت قبالة الشط، وكنت والسائق نرقبها مبتعدين عنها قليلا، سالت دموعي أيها الأحبة، جمعت بيسان أصداف الشاطئ، وجدنا زجاجتي عصير وضعنا رمل أسدود فيهما. عدنا الى رام الله وبالكاد تفوهنا بكلمات بسيطة. ذهبنا الى بيت العز، بيت الوالد، كان ينتظرنا، تحدثنا عن تجربتنا، كان منفعلا، وسر أيما سرور عندما شاهد زجاجتي الرمل.
قم اليك قم اليّ قم للقصيدة مزقت أوراقها نهايات الفصول.
عندما توفي أبو خالد، ذهبت ابنتي حنين،وابنة أخي وليد تمار وابن أخي سامي رومان برفقة أترابهم الى القبر، ونثروا هناك الزجاجة الأولى، وذهبت أنا بعد أيام برفقة ابنتي بيسان والوالدة وشقيقتي زويا وزوجتي ريما وزوجة أخي سامي أولغا والعائلة ونثرت بيسان الزجاجة الثانية. اذا هذه هي المعادلة يا أبا خالد، كل ما حظيت به، زجاجتي رمل من اسدود، صدقوني كأنني شعرت لحظتها أن تراب القبر قد تحلل واتسعت مساماته كي تصل حبيبات الرمل الى جسد هذا الرجل صاحب القلب الأملس من الداخل والخارج. الفنانة والكاتبة الفلسطينية المغتربة الحاضرة ابتسام بركات احضرت لنا من ماء بحر يافا زجاجة ايضا سقينا بها تراب القبر، بعد أيام سيعود رفيقي زياد ازمقنا من حيفا ومعه زجاجة ماء أخرى وكمية من رمل بحر حيفا.
قم اليك قم اليّ قم للقصيدة مزقت أوراقها نهايات الفصول.
في العزاء أيها الأحبة انقلبت الآية، بدلا من أن نتقبل العزاء، كنا نعزي القادمين، جميعهم قالوا: "نحن لا نعزيكم نحن نعزي أنفسنا"، صدّقوني أننا جميعا أفراد عائلة البطراوي كنا نشد على أيدي كل من يصافحنا معزينه. أبو خالد البطراوي أيها الأحبة لم يكن ذات يوم ملكية شخصية لنا، كل واحد من بين الحضور له علاقة خاصة ومميزة مع صاحب القلب الأملس.
المرحوم يعقوب اسماعيل "سيدي حركش"  قال "سلام للي عاشو، اللي ماتوا، اللي فاضوا واللي حطو ع طريق الناس علامة؟
أبو خالد البطراوي "حط ع طريق الناس علامة"
أبو خالد يقول عن الطريق:
نملة تسير باحثة
على غير هدى
تترك أثرا
نملة أخرى تتبعها
وأخرى ... وأخرى
جماعة تسير نحو غاية
على نفس الطريق
نملة واحدة
في سعيها
صنعت طريق

 

شقيقتي الكبرى، تاج رأسي زويا قالت لي ان الوالد قال لها لن أخرج من المنزل الا الى المقبرة، وكان له ذلك.
وشاعرة أيضا من جبل الخليل لا تعرف صاحب القلب الأملس ولم تلتقيه، لكنها انتبهت لهذا الكم الهائل من التغطية الاعلامية لفقدانه ولمحاولة اخراجه من منزله فقالت ترثيه وتصف أيضا بيت العز:
لم يكن يوما
بابا
كأي باب
كان محرابًا
يعج بجمع من الزائرين
خبأ وصيته في زوايا البيت العتيق
أمانة تفوح رائحتها من كل قلم
لا تتركوا المكان
لا تتركوا المكان
لا تسمحوا لأبي لهب
أن يمر به
أو حتى  يرنو من غباره
فهذا البيت ما خلق من حجر
هو باعُ وترباع من المد والجزر
ذكريات محفورة
في صدى الضحكات والصور
في دم الشهداء
في دم الفكر
وأسرار اللغة
هو الألم
هو الأمل
هو العز والفخر
هذا البيت
هو بشر
تلفني ذكراه بالحزن
انه صاحب الإرث والأثر
ليته انتظر
فقد كان وطنا وقضية ... وسيبقى ...
لا تفزعوا
فمزاره سيبقى أمانة
في أعناق زواره
ومن استظلوا بظله
وهذه الدار
ما هانت
ولن تهن
تبقى منبتا لجيل  تلو جيل
وبابه يبسط ذراعيه
كعادته متوهجا
لكل من أتاه
متى شاء
بيت عزٍ
يدخله بسلام آمن
لا ينتظر إذنا من ساكنيه
فهم جميعا
أرى فيهم
"أبا خالد" راسخا
ما غادر يوما
ولن يغادر
رجل حتى بالموت احتفى
حينما أتاه زائر
نعم أيها الأحبة تماما كما يرحب أبو خالد البطراوي بزائريه في البيت فقد رحب بالموت عندما أتاه زائرا.
الشاعر الراحل معين بسيسو قال ذات يوم، نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا، أوائل السبعينيات عندما رددنا هذه الأبيات قال لنا :أبو خالد"  أخطأ معين، ليس نعم لن نموت وانما نعم سنموت ، اذا هي كذلك نعم سنموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا
هناك هناك بعيدا بعيد
سيحملني يا رفاق الجنود
ويلقون بي في ظلام رهيب
ويلقون بي في جحيم القيود
لقد فتشوا غرفتي يا أخي
فما وجدوا غير بعض الكتب
وأكوام عظم هم اخوتي
يئنون ما بين أم وأب
لقد أيقظوهم بركلاتهم
لقد أشعلوا في العيون الغضب
أنا الآن بين جنود الطغاة
أنا الآن أسحب للمعتقل
وما زال وجه أبي ماثلا
يسلّحني بشعاع الأمل
،امي تئن أنينا طويل
ومن حولها اخوتي يصرخون
ومن حوله بعض جيراننا
وكل له ولد في السجون
أنا الآن بين جموع الرفاق
أضم لصرختهم صرختي
أنا الآن أشعر أني قوي
واني سأهدم زنزانتي
هناك أرى عاملا في الطريق
أرى قائد الثورة المنتصر
يلوّح لي بيد من حديد
وأخرى تطاير منها الشرر
نعم سوف تبلغ صرخاتنا
الى كل حي يحب الحياة
ولو اشعلوا النار في اجسامنا
ولو الهبتنا سياط الطغاة
تغني اصالة "لو تعرفوا بنحبكم ونعزكم كده قد ايه لتقدروا حتى التراب اللي بنمشي لكم عليه"، اخطأت اصالة، نحن أيها الأحبة، نعلم تماما كم تحبوننا وتحبون الوالد، ونقدر كل ذرة تراب داستها أقدامكم وأنتم تتقاطرون على بيت العز، وتسيرون في الجنازة وتحضرون الى بيوت العزاء في الوطن والشتات. نبوس الأرض تحت نعالكم، ونقول نفديكم. عهدا لكم أن نكون بينكم دوما. وكما وحّد "أبو خالد البطراوي" في مماته شطري الوطن ببيوت العزاء التي اقيمت هنا وهناك نعلن صراحة نحن آل البطراوي أننا على أتم الاستعداد لمرافقة سيادة الرئيس الفلسطيني "أبو مازن" الى قطاع غزّة.
عملية فردان 1973 وما أدراكم ما عملية فردان، والقادة الشهداء ومن بينهم الشهيد كمال ناصر الذي قال ذات يوم:
لن نبكي
لقد أخرسنا الدموع
وأنطوت الضلوع على الأسى
فخرا وكبرا
من سار في درب العلا
لا بد أن يموت
لأننا في موتنا
نستلهم الحياة
نحقق الحياة
ونخلق الحياة
من العدم

 

أبو خالد البطراوي صاحب القلب الأملس، هو عاشق للأرض، للشعب، للكادحين، للمثقفين، للمتنورين، عاشق للحياة، ويبغض الظلام الدامس.
قم اليك قم اليّ قم للقصيدة مزقت أوراقها نهايات الفصول
مناضلون مناضلون
بلا عنوان
مناضلون في أي مكان
نكتب سير الأبطال للأطفال
نحلم بالورد والخبز والزيت
وكتب الحب والنار
ورسم العصافير والتذكار
وعشق المطر والأزهار
ما الذي يحول الكأس قذيفة
والقلب ترابا ورغيفا
ما الذي يجعل الضلوع  قنابل
والكلمات بنادق
غير حزن الكادحين
مناضلون مناضلون
مناضلون مناضلون
قادمون قادمون قادمون
اننا نسير نسير
نفك قيد الوطن الأسير
مناضلون مناضلون
شكرا لكم وابوس الأرض تحت نعالكم واقول أفديكم
وخروجا عن المألوف، لأجلكم أيها الامتداد لفكر أبو خالد البطراوي، سيدخل الآن بعض أحفاد أبو خالد البطراوي ( البعض الآخر في الخارج أبناء زويا محمد وديالا وابن سامي مكسيم) ليشاركونا أغنيتهم، ثم تلقي الغالية أماني أبو هنطش قصيدة وبعدها فلنقف مصفقين لهذا الراحل الذي لم يسر في طريق مختصرة من المهد الى اللحد، ولنصفق لكم يا من تحملون شعلة الاستمرار.


   

"أبو خالد" محمد البطراوي سيرة باقية

// علي الخليلي

 


عرفت أبا خالد على مدار العقود الأربعة الأخيرة، بعد عودتي إلى فلسطين وعملي في جريدة "الفجر" في القدس سنة 1977. عرفته أخاً محبًّا لكل مثقف، ورفيقًا مخلصًا حتى لمن لم يشاركه رفقة العضوية في حزبه العريق. لم أعرفه في جريدة "الفجر" التي كانت ما تزال تحتضن صدى صرير قلمه على الورق فوق طاولة صغيرة في إحدى غرفتيها المتواضعتين في واد الجوز، وقد سبقني بعمله فيها خلال سنتي 1974 و 1975، مع بشير البرغوثي وأسعد الأسعد وعادل سمارة وجمال بنورة ومفيد دويكات وكثير من أدباء وكتّاب وصحافيي تلك الأيام، بعد اختطاف واغتيال مؤسسها ورئيس تحريرها الأول يوسف نصري نصر، على أيدي الإسرائيليين. ولكنني عرفته في مكتبه كمراقب مالي في شركة كهرباء القدس، حيث كنت أحرص على أن أزوره فيه مرارًا، وقد تجاورت في خزائنه وعلى أرففه، الصحف والمجلات والكتب الأدبية والفنية والسياسية، إلى جانب أوراق الموازنات والبيانات الإحصائية، لأتحدث معه عن الحركة الثقافية بماضيها وحاضرها، ورؤيتنا المتوثبة لمستقبلها. كما عرفته في جريدة "الطليعة" التي كان قد أصدرها مطلع العام 1977 بشير البرغوثي ومجموعة من قادة وكوادر الحزب الشيوعي في القدس، بمن فيهم أبو خالد الذي عمل فيها كمحرر لصفحتها الأدبية والفنية، إلى جانب كتاباته المتنوعة في صفحاتها الأخرى، ضمن عدة زوايا سياسية واجتماعية، وتخطيطه بريشته الفنية الجميلة، لكل عناوينها الرئيسية والفرعية.
وقد نلتقي أحيانًا في دار صلاح الدين للنشر في القدس أيضا، وكانت نخبة من المثقفين التقدميين، أنشأت هذه الدار لتكون خلال فترة قصيرة أبرز دار للنشر في فلسطين آنذاك، ليس فقط لطباعة ونشر وتوزيع الكتب المحلية والعربية والعالمية، وإنما أيضا كمكان تنويري على ضيقه وقلة إمكاناته، كان واسعًا للقاء المثقفين والمبدعين. أو نلتقي في نادي الموظفين، في مدينتنا وعاصمتنا الأجمل نفسها، القدس، وقد كان ذلك النادي قلعة حضارية للثقافة الوطنية وللنضال الوطني في مواجهة الاحتلال. وربما نلتقي في دار الشروق التي أنشأها الشاعر أسعد الأسعد في رام الله، وأصدر عنها مجلته الهامة "الكاتب". ولا أنسى بطبيعة الحال، لقاءاتنا في المبنى الجديد لمؤسسة "الفجر"، بخاصة بعد صدور مجلة "الفجر الأدبي" الشهرية عنها، ورئاستي لتحريرها، في العام 1979. وهي كلها لقاءات كانت تجمع المثقفين معاً، على إرادتهم في التطوير والتنوير، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية والتنظيمية، من "فتح" إلى الحزب الشيوعي إلى الجبهة الشعبية إلى "الديمقراطية" إلى كل فصائل منظمة التحرير والمستقلين، وتشكل عصفًا فكريًا لجميع الرؤى والمواقف، تتجلى فيه رحابة صدر أبي خالد في الحوار وفي التحليل، وفي شد الانتباه الموضوعي لثقافته الواسعة ودماثة خلقه وهدوئه النبيل.
كان من النادر أن يكتب أبو خالد باسمه الصريح. كان يوقع مقالاته وأعمدته في الغالب، بأسماء عدة أذكر منها، إن لم تخني الذاكرة، "أيوب صابر" في "الطليعة". وكانت زاويته فيها "لماذا"، ذات شهرة واسعة بين المثقفين. وأحسب أنها كانت زاويته ذاتها، وبالاسم ذاته، في جريدة "الفجر"، ثم نقلها معه إلى "الطليعة".
سألته مرة، بمناسبة "لماذا" الشهيرة، "لماذا لا تنشر كتبًا يا أبا خالد، على الأقل، ولو كتابًا واحدًا؟". رد بتواضعه الجم، يكفي أن أكتب، وأن يقرأ الناس. وحين كررت السؤال، قال لي إنه يكتب رواية، وسوف يعمل على نشرها، حين تتحسن الإمكانات الفنية للطباعة والنشر. وأضاف إنه يواصل الكتابة في هذه الرواية، حتى أنه سمى لي أحد فصولها، وهو "أسير حرب رقم.."، وقد نسيت الرقم الذي ذكره، والذي هو رقمه شخصيًا، في الأسر. ولكن الرواية كما قال لي، تدور أحداثها في إحدى بلدات فلسطين، لعلها أسدود، وبشكل عام حول تجربته كأسير في معسكر صرفند سنة 1948، وتجارب مئات الأسرى، فلسطينيين وعربًا، إبان النكبة.
دارت الأيام، ولم ينشر الرواية. لماذا؟ سألته بعد أكثر من عشرين من سنة، ونحن معًا، في وزارة الثقافة برام الله. ما حال الرواية؟ ضحك، وقال لي إنه يعمل الآن على كتابة أهم حول التراث الشعبي لبلدته الأحب إلى قلبه، أسدود. وكان من المدهش أنه في اليوم التالي، أحضر معه مخطوطة هذا الكتاب فعلاً. أعارني المخطوطة لليلة واحدة قرأتها كاملة فيها، من شدة عشقي للتراث الشعبي وتأليفي لعدة كتب فيه، وأعدتها له راجيًا منه نشرها فورًا في كتاب. لكنه لم يفعل. لماذا؟ قال لي إن المخطوطة لم تكتمل، وسوف يواصل العمل عليها. غير أن المخطوطة كما أعلم، لم تصدر في كتاب.
أبو خالد المفكر الروائي الناقد الخطاط، والمناضل الوطني الملتزم، والمثقف بكل ما تعنيه الثقافة من تواصل إبداعي وإنساني مع الناس، ليكون الراعي بدأب وحنو لكل شاب طرق بابه، طالبًا التوجيه والنصح، أو تنقيح بواكير نتاجه، أو تصميم غلاف لكتابه، أو تخطيط عنوان لمجموعته الشعرية أو القصصية. ولم يتوقف أبو خالد عن هذه الرعاية للأجيال الشابة، حتى وهو في شيخوخته، وفي غمار انشغاله على مدار الساعة، بكتابة القوانين واللوائح الإدارية والتنظيمية لوزراة الثقافة.
إن سيرة أبي خالد باقية ومستمرة. لكنني آمل أن يُعمل على تجميع كل ما كتب، بدءاً من افتتاحيات "الفجر" خلال سنتي 74و75، ومقالاته في بقية مختلف الصحف والمجلات، من "الطليعة" و"الأفق الجديد" و"الاتحاد" و"الغد"، و"الكاتب"، إلى غيرها، ونشرها في أكثر من كتاب. وقد علمت من رئيس اتحاد الكتاب وبيت الشعر أخي الشاعر مراد السوداني أن المجموعة الشعرية لأبي خالد سوف تصدر عن بيت الشعر أو اتحاد الكتاب، بخط يده. وهذا أول الغيث. ليكن غيثًا على ذكراه الطيبة، وسيرته الباقية.

السبت 30/4/2011


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع