كلمة حق ووفاء في رثاء القائد العريق توفيق طوبي"وداعًا يا آخر قنديل زيت"!!...
الياس جبور جبور
عرفناك صغارا واحترمناك كبارا... كنا في مقتبل العمر وكان كابوس النكبة يربض على نفوسنا وعقولنا وسط الضياع الذي سببته هذه النكبة، بل هذه التراجيديا الإنسانية الحزينة، والذي كان يخيم على أماني وآمال الشباب منا وقد ضاع الوطن أمام أعيننا وبقيت منا قلة قليلة متشبثة بترابه الغالي، ترفض أن ترحل، وترفض في ذات الوقت أن تصدق أنه يمكن التئام الجرح الغائر في جسد هذا الشعب... الوقت عصيب وقد غادرنا الأهل والأحباب والحسرة تملأ قلوبنا، ولم يبق منا إلا القليل يقارع نائبات الزمان وحده... ونلتفت حولنا فلا نجد منارة نهتدي بنورها ولا سراجا ينير لنا عتم الطريق ولا نجما نسير على هديه... وكان هناك مع الأسف الشديد من ضلّ الطريق واعتقد بصحة الرحيل فشدّ الرحال... ولكن كانت هناك فئة من الرجال المخلصين، وان كانت قليلة العدد، تنادي بالبقاء والصمود وعدم النزوح... لقد كنت واحدا من هؤلاء الناس يا أبا الياس، تؤمن بذلك قولا وفعلا وعن اقتناع تام، وتقدم المثل والنموذج الحي ببقائك وبوجودك وحضورك مع أبناء شعبك... وكان هذا القول وهذا الفعل مصحوبا بشجاعة فائقة منقطعة النظير رغم صغر سنك في ذلك الوقت وحداثة عهدك في النضال وأنت لا تزال في ريعان الشباب... استمعت إليك وأنت تقف في أول اجتماع شعبي لك في شفاعمرو... لم تخش سطوة الحاكم وسيفه المصلط على رؤوسنا... وكنت أعجب من أين لك هذه الشجاعة وكيف تتجرأ على هذا التصدي والتحدي وهذا الحزم والعزم وقد استسلم الكثيرون من قيادة هذه البلاد لليأس والقنوط... كان الحكم العسكري يطغى بغطرسته على كل ناحية من نواحي حياتنا ويملك من وسائل البطش والإرهاب ومن أساليب التعسف والظلم والاستبداد مما جعل الكثيرين يخنعون ويخضعون ويستسلمون لأحكامه الظالمة يائسين قانطين... ولكنك لم تستسلم، ولم تخضع ولم تخنع أو تستكن... كنت من ذلك الرعيل الأول ومن تلك القلة من الرجال التي لم تستسلم أبدا وأبت أن تلين لها قناة... كنت تعي بوضوح، مرارة ألم الجراح، جراح اليد التي تلاطم المخرز، ومع ذلك لم تقبل بأي خيار آخر وما كان أكثرها... كانت الطريق أمامك واضحة المعالم بينما أظلمت الدنيا في عيون الآخرين... كنت القائد الهادئ الرصين والحكيم ولم تفقد ثباتك ورباطة جأشك في أحلك الظروف كما أنك لم تفقد إنسانيتك، رغم الغضب الشديد الذي كان يغلي في صدرك كالمرجل، من جراء سياستهم العنصرية وأعمالهم الوحشية ومجازرهم البشعة التي عرّيتها وفضحتها أمام العالم والتي سيحاسبهم عليها التاريخ إن عاجلا أم آجلا... الآن وانأ اكتب هذه الكلمات في وداعك الأخير أيها القائد الكبير استذكر وقفتك الشجاعة على مدى سبعة عقود بطولها واستذكر كلماتك الجريئة وأنت تتحدى القهر والاضطهاد بكل عزم وثبات دون خوف أو وجل وسط هذا الضلال والتضليل والضباب الكثيف الذي كان ولا يزال يلف البلاد والعباد... وبقيت واقفا "دون رأيك في الحياة مجاهدا" حتى آخر نقطة زيت من قنديل كفاحك المليء بالأحداث الجسام... كنت تبعث فينا الأمل وكنا نستمد منك العزم والإصرار طيلة مسيرة نضالك الطويل... عزيمة البقاء والإصرار على الصمود، بينما كان البعض من الزعماء العرب يعتقد غباءً أن البقاء في البلاد خيانة وجريمة، بينما كنت أنت وتلك الثلة من الرجال الواعين الأحرار تؤمن بغير ذلك وتعتقد جازما أن الرحيل من البلاد جريمة رغم عناء البقاء!!... الآن وبعد هذا العمر المديد وهذا الكفاح الطويل والمرير تثبت صحة الطريق الذي سلكته والذي مهدته وعبدته لتسير عليه الأجيال الناشئة والقادمون من بعدك... أجد لزاما علي يا أبا الياس، بل من أوجب الواجبات، في ساعة رحيلك من هذا العالم، أن أقول فيك الكثير لأفيك بعض حقك، وقد قيل فيك الكثير عن حق وحقيق، ولكن مهما قلت ومهما قيل ما هو إلا قليل من كثير وستبقى مسيرتك وسيرة حياتك ومبادئك الثابتة التي آمنت بها تحتاج إلى دراسة مستفيضة لا تتسع لها هذه الصفحات والى بحث وتحليل عميق... ولا يسعني هنا إلا أن أذكر بكل فخر واعتزاز تلك الكلمات التي تنضح وفاء وإخلاصا يوم وقفت في رثاء والدي، أنت والعديد من الشخصيات الوطنية في هذه البلاد، تودع أحد هؤلاء الرجال، الذين تشبثوا بالأرض، وآمن كما آمنت بمبادئ الحق والعدل والسلام والمساواة، كأنكما تحالفتما وتعاهدتما على حب الأرض والوطن... ولعل أكبر عزاء لنا جميعا بفقدك يا أبا الياس أن نسير على دربك ونهجك وخطاك وان نحمل الراية من بعدك ونكمّل المشوار... الخميس 7/4/2011 |