توفيق طوبي - يا أسدًا في عرينهِ تَرَبَّتِ الأشبالُ وكَبُرَتْ


جاسر الياس داود


قافلة الشيوعيين الحمر تسير الى الأمام بالرغم من ان أعمدتها وعمداتها على مدار عشرات السنين يُسلّمون رسالتهم ورايتهم لأبنائهم الحمر،ثم يتركونهم في ساحة النضال يقاومون ويكافحون من أجل حياة وعيشة كريمة. وها نحن نقف مكتوفي الأيدي أمام فقدان عمودٍ وعمدةٍ من قواد أو قادة الحركة النضالية الفلسطينية،قبل أن يكون عمودا صلبا لحزب أممي هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي.إنه الأسد الذي لم يترك عرينه،إذ خلفه في هذا العرين أشباله الذين تربوا فيه،لهذا نام هذا الأسد نومته الأبدية براحة،بعد أن ضمن حماية عرينه بأيدٍ نظيفة وصادقة مع نفسها ومعه ومع الاخوة المكافحين من أجل الحقوق المدنية والمساواة في العيش بهذا الوطن الذي لا وطن لنا سواه.
نعم نام الأسد توفيق طوبي بالجسد،أما الروح فباقية وستبقى تنير دروبنا نحن أبناء هذا الشعب العربي الفلسطيني في هذه البلاد.نام بجسده،ولكن قلمه الذي خطَّ به مسودة منشور عصبة التحرر الوطني سنة 1948م،والذي دعا فيه أبناء شعبه في هذه البلاد الى عدم مغادرتهم منازلهم ووطنهم،ما زال هذا القلم يذكرنا بأن الصمود أمام كل الصعوبات والبقاء في هذا الوطن هو القرار الصائب والصحيح،لكي نحافظ على البقية الباقية من شعبنا الفلسطيني في هذه الديار.
صوت هذا الأسد ما زال يجلجل في أُذني كل مَنْ سمعه في المهرجانات الخطابية المختلفة،إن كانت في هذه البلدة أو تلك،أو من على منبر الكنيست،أو في كشف وفضح مجزرة كفرقاسم، والتي بقي يراع توفيق طوبي المناضل النقي والصائب في آرائه، يكتب عنها في جريدة الشعب"الاتحاد"حتى سلَّمَ الروح لباريها.
هذا الأسد يعيدني الى ذكريات الطفولة والى اللون الأحمر"بالبنط العريض"،الذي شاهدته في سنوات الستينيات من القرن الماضي مكتوبا على حائط هذا البيت أو ذاك في بلدتي عبلين.وقفت أقرأ ما كُتِبَ باللون الأحمر العريض فكان:"طفح الكيل يا أشكول ليُلغَ الحكم العسكري".لم أفهم هذا القول آنذاك إذ كنتُ في بداية تعلمي الابتدائي،فسرتُ باتجاه البيت لأستفسر من والدي رحمه الله والذي كان يحب كثيرا حديث القائد العربي جمال عبد الناصر،وكان من مؤيدي الحزب الشيوعي والجبهة. وفي طريق عودتي مررتُ بنساء يجلسن ويتحدثن حول أمور،فسمعتُ إحداهن تقول:"والله هاي الكتابة الحمرة ما عملها إلاّ هدول إللي بقلولهن الشوعية،هدول قرابة دار النشوبة اللي بحيفا،بيجو عالبلد وبقولوا لجماعتهن الشوعية إكتبوا هيك وهيك."  لم أفهم ما قالته هذه المرأة،فعدتُ الى البيت فوجدت والدي جالسا يسمع نشرة الأخبار،وبعد أن سمعها أقفل المذياع.فقلتُ له:"يا والدي أريد أن أسألك عن شيء شاهدته مكتوبا بالخط الأحمر على التصاوين وبعض البيوت ".ابتسم والدي وقال لي"طفح الكيل...."فأجبته:نعم. فأخذَ يحدثني عن الحكم العسكري ببساطة كي يُفْهِمَ هذا الطفل الواقف أمامه ما يقول.ولما سألته عما قالته المرأة عن أقارب دار النشوبي اللي بحيفا،قال:عائلة طوبي وعائلة إميل توما وعائلة كركبي في حيفا هم أقارب عائلة النشاشيبي في عبلين.وهذه المرأة التي وصفتها لي تكره الشيوعيين،لأن أخاها مؤيد لحزب مباي وهم لا يحبون الشيوعيين.
منذ ذلك الوقت أخذت بسماع نشرة الأخبار كلما سنحت لي الفرصة، فتفتحت عيني شيئا فشيئا على مصطلح واسمه السياسة.وأذكر عندما حضر الشاعر الفلسطيني "ابن البروة"المرحوم محمود درويش في سنوات الستينيات من القرن الماضي الى عبلين، قام أفراد الشرطة ومنهم شرطي يهودي يتحدث العربية المكسرة ولقبه"أبوحسن" وقال: ياللا يا أولاد انتو بروخ من هون،فخفنا خوف الأطفال من البوليس آنذاك وعدتُ الى البيت،وسمعت الشاعر محمود درويش يلقي شعره،ولمّا  كان يعلو التصفيق من الحاضرين والسامعين له،كنت أقفز من مكاني قفزة طفل وأصفق.وبعد أن أنهى شاعرنا القاءه أخذت أسمع صوت شخص يتحدث عن أمور لم أفهمها جيدا، فقال لي والدي هذا هو صوت توفيق طوبي.وكان هذا الاجتماع أو المهرجان قد عقد في ساحة بيت الرفيق مرشد صالح سليم"أبو صالح"،وهو من أوائل الشيوعيين في بلدتنا عبلين،إذ لم تكن آنذاك قاعات تستعمل لمثل هذه الاجتماعات أو المهرجانات الشعبية. كانت "صومعة"الشيوعي العريق الغائب عنا بالجسد والمتواجد دائما وأبدا في أفكارنا نحن أهل عبلين طيب الذكر المرحوم نصري أنطون المر"أبو أنطون"،كانت مكانا "يحج" إليه الشيوعيون الحمر من عبلين وخارجها في سنوات الستينيات من القرن الماضي،أيام الحكم العسكري.ومن الذين تكرّر "حجَّهُ"الى هذه "الصومعة" الصغيرة بالحجم الكبيرة بالفعل والعمل،طيب الذكر الأسد توفيق طوبي"أبو الياس". الكُلّ كان يتلهف للقائه وسماع خطابه وكلماته الصادقة والصائبة،وهذا ما علمته فيما بعد من الرفيق نصري المر، حين بدأت أتردد على مقر الحزب الشيوعي وفيما بعد مقر الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والذي تواجد في بيت المرحوم حبيب توفيق خوري"أبو فتحي".  عندما كنا نتجمَّع لحضور اجتماع شعبي في مناسبات مختلفة،وكان الخطيب أو المتكلم الرئيسي هو الرفيق توفيق طوبي،كنت تشاهد البسمة والفرحة تعلو على وجوه الحاضرين،لأنهم كانوا يستمتعون ويستفيدون الكثير والكثير من حديثه.كان أحيانا يحضر قبل الوقت المحدَّد للاجتماع ليزور بعض الرفاق،فكان يطرح السلام على المتواجدين في المقر والابتسامة الصادقة من أسد متواضع تعلو شفتيه،يسلم ويصافح هذا وذاك،ثم كنا نسمعه يقول"بدِّي أروح عند الرفيق نصري إسَّا بكونوا متجمعين هناك،بنسلِّم عليهم ونشرب فنجان قهوة وبنرجع لحضور المهرجان أو الاجتماع".  بهذا التواضع أجبرنا خلقيا وأخلاقيا أن نحترمه ونجله، ونفرح عند سماعنا بأن الرفيق توفيق طوبي سيحضر بتاريخ كذا وكذا للاشتراك في هذا العمل أو في هذا المهرجان. أحيانا وهو يتحدث في اجتماع ما،كان أحد الرفاق من جيله لا يعجبه قول أو رأي في قضية معينة،فكان هذا الأسد القائد الفذ يبتسم ويضحك بصوت يسمعه جميع الحاضرين ،ثم يبدأ بكلامه متوجها الى المعارض مهما كان مستواه الفكري،محاولا الشرح له من قصده في هذه القضية أو الرأي.لم يكن ليترك الحاضرين والسامعين له تائهين لا يفهمون ما يتحدث عنه.نعم،هذه ميزة من ميزات القائد الذي يعرف بأن ليس الجميع يدركون الحل لهذه المسألة أو تلك.لم يكن ليترك الساحة في عبلين قبل أن يُفَهِّم ويشرح ببساطة وحزم آراءه حول القضايا التي تخص شعبنا العربي الفلسطيني في هذه البلاد،أو تخص شعبنا في عبلين وخاصة في فترة انتخابات السلطة المحلية. ما ميَّز عمل هذا الأسد هو هموم شعبه بمختلف طبقاته وشرائحه الاجتماعية،  الاقتصادية والسياسية،لم يُفرِّق بين هذا وذاك،فلما نزل الى الأحياء العربية في حيفا ومنها وادي النسناس،كان يصرخ ويطلب من أبناء شعبه العربي الفلسطيني عدم ترك هذه الديار،لأنهم سيخسرون هذا الوطن.فمنهم مَنْ أدرك هدف قول هذا القائد وعدل عن قراره ترك هذه الديار،فربح بقاءه في هذا الوطن،ومَنْ لم يسمع لأقواله عاش في المهجر بقلب وكبد مُلتهبين ومتشوقين للعودة الى وطنهم،وكأن لسان حالهم يقول:  "إيه لو سمعنا أقوال الشيوعي وما تركنا وطنّا".      نعم،لم يعمل هذا الأسد لفئة معينة من أفراد شعبه،بل بالعكس،كان متسامحاً مع غير الشيوعيين،ولكن دون التنازل أو المساومة على مبادئه وعقيدته السياسية الثابتة.لم يعرف قلبه الحقد بتاتا لأن القائد لشعب لا يفرق بين هذا وذاك.سمعته مرة يقول لبعض الشيوعيين في بلدتنا عبلين:"مش مهم هدول اليوم ضدنا(أي ضد الشيوعيين) بُكرة أولادهم بكبروا وبيشوفوا وبعرفوا الحقيقة وبصيروا معنا".صدق هذا القائد إذ أصبح بعض أبناء هذه العائلات من مؤيدي الحزب الشيوعي والجبهة ومن المدافعين عنهما. كان ينظر الى الحاضرين في اجتماع شعبي في بلدتنا مبتسما ابتسامته الصادقة، ويقول لرفاق من جيله أو أصغر،ومنهم على سبيل المثال لا الحصر،نصري أنطون المر،راجي النجمي،فايز واحمد طلب نجمي، فوزي اسكندر حاج،محمد علي حيدر، فوزي يوسف حاج،محمد علي غزاوي،ناصر تيم وحسن حامد خطيب( رحمهم الله)ووديع توفيق خوري(أبو عايد)ويعقوب سمرا ومرشد صالح سليم (أطال الله في أعمارهم)وغيرهم،يقول لهم:"شو رايكوا بهالصغار اللي واقفين برَّا وآعدين بسمعونا شو بنقول عنهن يا رفاق؟! هدول هنِّي راح يصيروا شباب ويحملوا الراية بعدنا،مش لازم نيأس،مش لازم يصيبنا إحباط بتاتا". هذه الكلمات كانت كالغذاء الروحي لأنفسنا ولأجسامنا،منها نستمد قوة الصمود والصبر على كل المصائب والشدائد التي تواجه شعبنا في هذه البلاد.إنني أكتب ما سمعته من هذا القائد وبلغة الشعب التي تحدّثَ فيها،اللغة التي كان يريد منها تبسيط الأمور لأبناء شعبه،كي يفهموا أقواله وآراءه وقصده ويعملوا بحسبها من أجل حماية مستقبلهم ومستقبل أبنائهم أمام كل التحديات التي تواجههم.  أحبَّهُ أبناء شعبه وغير أبناء شعبه،أحبه أبناء الشعب البسيط من غير العرب،وأذكر على سبيل المثال،أنني تعرفت في سنوات الثمانين من القرن الماضي على عائلة يهودية،وكان رب العائلة المدعو"فيتو" وزوجته "استر"يعملان في صالون حلاقة،  يقع هذا الصالون في شارع قيسارية حيث سكن هذا القائد هو وعائلته الكريمة.كان توفيق طوبي الانسان المتواضع يدخل الى هذا الصالون قاصدا قص شعر رأسه،ثم يجلس معهما لشرب فنجان من القهوة ويتحدث معهما حول أمور كثيرة،مما جعلهما هما وأبناء عائلتهما والأصدقاء يتشوقون للّقاء بهذا الإنسان،وكانا أيضا يعجبان لشخصه وأخلاقه وتواضعه مما جعلهما يحدثان عنه كل من دخل الى الصالون.      ولا أنسى ما قال عنه معارضه سياسيا في عمله بالكنيست المدعو أمنون لين،والذي كان المسؤول والمنسق لحزب العمل وقبله حزب مباي في الوسط العربي أثناء انتخابات الكنيست،قال:"توفيق طوبي كان صادقا،وكانوا يدعونه في الكنيست "أمير الكنيست" (نسيخ هكنيست)،الجميع احترمه وفرض عليهم احترامه من خلال احترامه لهم.وفي الوقت نفسه لم يتنازل عن آرائه السياسية وكان مدافعا عنها من منطلق حبه لشعبه.كان حيفاويا يحب بلدته حيفا ويحب أبناءها على مختلف طبقاتهم الاجتماعية والقومية،ونادى بالتآخي بين العرب واليهود وبالعيش المشترك."
هذا الاحترام لم يمنعه من الاستمرار في الدفاع عن شعبه العربي الفلسطيني أينما تواجد،فتراه من على منصة الكنيست يصرخ ثائرا كالأسد ضد المجزرة التي أرتكبت في مخيمي صبرا وشتيلا في لبنان،مما حدا برئيس الجلسة في الكنيست أن يطلب من حراس الكنيست بإخراج هذا القائد الأمين لشعبه ولكل الشعوب التي تطالب بالحرية والاستقلال من القاعة،ولقد وقف الحراس حول هذا الأسد محترمين إياه وطالبين منه ترك المنصة ولكن لا قبل أن يفضح أمر هذه المجزرة الرهيبة.نعم أيها الأسد،لقد فرضت احترامك أيضا على حراس الكنيست فوق فرضه على أعضاء الكنيست.  كنت الصوت الذي أزعج المؤسسات الحكومية في هذه البلاد،إذ قمت في بداية سنوات السبعين من القرن الماضي  بفضح ألاعيب هذه المؤسسات التي حاولت من ورائها مصادرة الأراضي العربية في سخنين وعرابة ودير حنا وعرب السواعد (منطقة المل أو منطقة 9)والتي كانت مصدرا ومسببا لإعلان الجماهير العربية في هذه البلاد الإضراب العام في الثلاثين من آذار سنة 1976م،وأصبح هذا اليوم يدعى بِـ " يوم الأرض"كما ارتفع صوتك ضد مصادرة أراضي معليا وغيرها من الأراضي العربية. لو أردنا التحدث عنك ايها المدافع الأمين والصادق عن أبناء شعبك العربي الفلسطيني في هذه البلاد لكتبنا المجلدات.لهذا أنتهز هذه الفرصة لأطلب من المسؤولين في الحزب الشيوعي الاسرائيلي  وفي الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة،توثيق أقوال وتراث هذا القائد وغيره من قادة الحزب والجبهة،لكي تكون مرجعا تاريخيا لأولادنا وأحفادنا مستقبلا،لأن لكل قائد ومسؤول أمثال هذا القائد دوره وظروف حياته ونضاله الجماهيري.  لن أبكيك يا أسدا شامخا،بل سأتذكرك كلما أشرقت الشمس وغابت،فأنت في قلب كل عربي مخلص لشعبه ولوطنه ولتراب وطنه الثمين.
فالى جنات الخلد يا مَنْ خلّدْتَ التاريخَ وخلَّدَكَ التاريخُ بدوره

 

(عبلين)

الأثنين 4/4/2011


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع