"يَا طُوبَى"


د. خالد تركي


..وصعد إلى العلياء فوق رؤوس الجبال، فوق السُّحب الخيِّرة الماطرة والمعطاءة والغيَّاثة، وجلس عن يسار الآب، بعد أن بقي قابضًا على جمرة البقاء والصُّمود والتَّصدِّي والتَّحدِّي ستِّين عامًا أو يزيد، محافِظًا عليها بين أهدابِهِ، بكلِّ إباءٍ وعزَّةٍ وفخارٍ، ليُبقي هاماتِنا مرفوعةً وشامخةً شموخَ جبال الكرمل الشَّمَّاء والجرمق الكأداء وجبال النَّار العصماء، وشموخَ جبال الشَّمس..
وحين سألوه عن اسمه، أجابهم "سجِّل برأس الصَّفحة الأولى" توفيق الياس طوبي "سجِّل أنا عربيّ"..
وحين سألوه عن دينه أجابهم: "الدِّين لله والوطن للجميع"..
وحين سألوه عن مذهبه قال: شيوعيٌّ المذهب أنا، عربيُّ الانتماء أنا وفلسطين مسقط رأسي وأجلس عن يساره لأنِّي يساريُّ الاتِّجاه، فسألوه مستغربين أشيوعيٌّ أنت! فأجابهم موضِحًا ومؤكِّدًا: "قالوا: شيوعيُّون. قلتُ: منيَّة موقوتة للظَّالمين تقدَّر، قالوا: شيوعيُّون. قلتُ: أزاهر بأريجها هذي الدُّنا تتعطَّرُ" فسألوه بتعجُّبٍ، عربيّ وشيوعيّ كيف يستوي هذا بذاك أجابهم: "ما كلُّ داعٍ للعروبةِ صادقٌ أو كلُّ برَّاق النُّيوب..غضنفرُ".
"تمشي وأمشي والليالي بيننا، ستُريكَ من يهوي ومن سيظفَّرُ".
بينما كان مشغولاً في هذا الحوار وإذ بشهداء كفر قاسم يدخلون هاتفين بأعلى حناجرهم ومرحِّبين به، "يا طوبى" لتوفيق طوبي، ،"يا طوبى" لتوفيق طوبي، "يا طوبى" لتوفيق طوبي، ردَّدوها ثلاث مرَّات كما ردَّد الدِّيك صياحه بعد إنكار بطرس الرَّسول للسَّيِّد المسيح، حيث أكَّدوا لجميع من حضر أنّه نورٌ من النُّورِ، وحقٌّ من الحقِّ، وكاشف الحقيقة، من أجل الحقيقة فقط، ليفضح سياسة العدوان والغبن والظلم والاستبداد التي تُلحِقُ الويلَ والدَّمارَ والإذلالَ لأبناء شعبه، حين دَخَلَت قريتهم عصابات صهيون المدجَّجة بالسِّلاح ونحرتهم في نحرهم، دون شفيعٍ أو رحيمٍ، بينما كانت صدورهم العارية تلتحف الأرض والسَّماء، وهم عائدون من العمل بعد أن قضوا يومًا مضنيًا شاقًّا ومتعِبًا، لإحضار لقمة العيش لأطفالهم، التي افتقدوها بعد أن سلبتهم تلك العصابات أرضهم وحرِّيَّتهم واستقلالهم، ولم يكن بحوزتهم، حينها، سيفٌ يخرجون شاهرينه إلى الظَّالمين..
وانضمَّت، إلى هذا الرَّكب المهيب من الشُّهداء والضَّحايا، وفود قرانا التي ما زالت تحمل في عبِّها منشور البقاء الذي خطَّه في حيفا، يدعو أهلها إلى البقاء وعدم ترك البلاد، ويحثُّهم على الوقوف سدًّا سادًّا منيعًا "أمام الاستعمار ومؤامراته وأعوانه ولنوجِّه ضربتنا إلى صميم المستعمِر البريطاني لأجل حرِّيَّة فلسطين واستقلالها ووحدتها". وحضرت كذلك وفود أخرى من الشَّتات الفلسطيني، تحمل في عبِّها وفي جيبها كواشين تثبت مُلكيَّتهم للأرض "في جيبي في عبِّ القمباز اصون الكوشان" ومفاتيح العودة، أتته تبكي حظَّها دمًا وتندبه من "ظلم ذوي القربة"، وتشكو من غياب الوحدة العربيَّة التي كان بإمكانها أن تكونَ قوَّةً جبَّارةً ممتدَّةً من محيط الوطن إلى خليجه، وبذلك يغيب عنها الشَّفيع والدَّعم والسَّند، وأتته كذلك تشكو من الوحدة كشكوى أحمد العربيِّ "وكنت وحدي ثمَّ وحدي آه يا وحدي" عندما اعتبر أنَّ "حيفا من هنا بدأت..وأحمد سُلَّم الكرمل"..
وحين أكلت حرقة الشَّتات أكباد اللاجئين الشُّهداء، بدأ أهل مجدل عسقلان يقصُّون على الحضور روايتهم حين غُرِّر بهم، وهم ضحايا الاحتلال والتَّشريد واللجوء، عندما أصدر الحاكم العسكريّ أمرًا بترحيلهم، وحين علم الرَّفيق توفيق طوبي بالخبر سافر إلى تلك البلدة، من حيفا، متحدِّيًا كلِّ الحواجز والمخاطر من أجل إنقاذهم ونقض قرار التَّرحيل، لكنَّه وجد شلَّة من أهل البلدة، تتظاهر ضدَّه عن جهل وتخلَّف ورجعيَّة وبإيعاز من عملاء بن غوريون العرب..، ينادون هاتفين بحياة بن غوريون وبسقوط توفيق طوبي والحزب الشُّيوعي، بينما حاول رفاقنا الصَّناديد من أهل مجدل عسقلان ثنيهم عن التَّظاهر موضحين لهم أخطار المؤامرة، كي يقع أحدٌ في المكيدة، لكنَّ هذا لم يُسعفهم، فقد أخذَ كلُّ أهل البلدة نصيبهم، من الجهل وعدم الوعي، في الطَّرد واللجوء والمخيَّمات إلى يومنا هذا..
وعندما أتت الوفود الفحماويّة تُرحِّب به وتستقبله استقبال الأبطال، بأكاليل الغار، ذكَّره شُهداءُ أمِّ الفحم بفضله على بلدهم، حين خاضوا المعركة ضدَّ قرار الحكومة الدَّاعي إلى مصادرة آخر مع يمكنهم مصادرته من جبل اسكندر، كيف بدأ المخاتير وزعماء العائلات بجمع التّواقيع في رسالة موجَّهة إلى السُّلطة لمنع الرَّفيق توفيق طوبي من دخول أمّ الفحم، كانت جحَّة العملاء بأنَّه شخص غير مرغوب فيه، وكانت موافقة السُّلطة لمنع دخوله بحجَّة المحافظة على سلامته، فكان ردُّ رفاقنا الفحماويِّين بتجميع تواقيع الأغلبيَّة السَّاحقة من القرية تطالب بمنحه تأشيرة دخول بلدهم، مع أنَّه كان حينها عضوًا في الكنيست ولا يحتاج إلى تصريح، فكان ردُّه أنَّ مصلحته مع مصلحة أهل البلد، وأنَّه يعرفها خير معرفة..
أمَّا "برميل طوبي" فله حكايته: ففي احتفالات الأوَّل من أيَّار، عيد العمَّال الأحرار  من عاشورا النَّكبة، أُقيمت مظاهرة كانت الدَّعوة لها سرِّيَّة، وحين اجتمع المئات من الفحماويِّين في ساحة أيَّار (أمام مسجد المحاجنة) دخل الرَّفيق توفيق طوبي أمَّ الفحم مخترقًا الطَّوق المُحكم إغلاقه ورافعًا الحصار المفروض على البلدة، بعد أن سار مسافة أربع كيلومترات من "عين الزَّيتونة" إلى السَّاحة، متحدِّيًا شراسة الجنود ووعريَّة الجبال، وحين وصل الميدان ترجَّل الفارس واعتلى منصَّة الحفل (برميل) وألقى خطابه..الأمر الذي "طيَّر ضبان عقل" الجنود وقيادة الحكم العسكريِّ فانفلتوا على المتظاهرين كالكلاب الجائعة والمسعورة، عندها كان قرار الحزب المواجهة..المواجهة..كانت المواجهة شرسة، الأمر الذي دفع الحاكم العسكري إلى الهربِ والاختباء تحت سيَّارة، من شدَّة خوفه، مستغيثًا طنيبًا ودخيلاً، بقوله "دخيل محمَّد دخيل الله دخيلكم" وقام المتظاهرون بسحبه من رجليه من مخبئه طالبًا النَّجدة
"أُمُّ الفحم جبل النَّار ويا ويل اللي يعاديها".
وجلس بعدها ليستريح من عناء الرَّحيل وطول الطَّريق وشقائه مع أستاذيه رئيف خوري وعبد الله البندك، يتشاورون في أمور المكان الجديد وتقييم الوضع، بعد أن نقل لهم أخبار الثَّورات في وطننا العربي، فهذه ثورة الياسمين في تونس الخضراء، وتلك ثورة السَّابع عشر من كانون الثَّاني في أرض الكنانة، وأخرى بدأت بشائرها بالنَّصر الأكيد في اليمن الذي سيصبح سعيدًا حيث أثلجت هذه الأخبار صدر الحضور من رفاق الدَّرب الذين سبقوه من جميع أنحاء المعمورة، جورج حاوي وخالد بكداش وفائق ورّاد ويوسف سلمان (فهد) وسلام عادل وبشير البرغوثي وعبد الفتَّاح إسماعيل وعبد الخالق محجوب وقائمة الفرسان الأبطال طويلة..
هذا وما زالت الوفود تأتيه في عليائه لِتُهنِّئه بسلامته ولتطمئنَّ عن أخبار أهل الأرض وثوَّارها وأحرارها..
ومن هنا من هذه الأرض الطَّيِّبة والخيِّرة أرفع إليك وأنت في عليائك أسمى آيات التَّقدير والاعتزاز بهذا التَّاريخ النَّاصع والمجيد الذي خُضْتَهُ وقُدْتَه بشرفٍ ونبلٍ وبهذا الصَّرح المجيد الذي بنيته لنا، فمن نضالٍ إلى نضالٍ، ومن صمودٍ إلى صمودٍ ومن أملٍ إلى أملٍ، هذا الأمل الذي يوسِّع لنا العيشَ الكريمَ ويفتح لنا بابَ الصَّبر والمواجهة ونبذ الخوف، بفسحته الرحيبة.
وسيبقى خالِدًا في ضمائرنا خلود أشجار السَّروِ والصَّنوبر في قمم جبال الجليل، وخالدًا خلود أشجار السِّنديان في قمم كرملنا الجميل وخلود أشجار الجمِّيز في سهولنا، وخلود أشجار التِّين والزَّيتون في حقولنا..
وسيبقى القائد خالدًا بأعماله وتاريخه وشامِخًا في قلوب شعبه، كقول المناضل داود تركي:
مَا مَاتَ مَنْ خَلَدَتْ مَآثِرُهُ بَلْ مَاتَ منَْ سَفِلَتْ بِهِ الشِّيَمُ
سَيَظَلُّ لِلأَحْرَارِ مَفْخَرَةً  وَمَنَارَةً في الفِكْرِ تَنْتَظِمُ
ويقول آخر:
مَنْ عَاشَ فِي ذُلِّ فَذَلِكَ مَيَّتٌ وَمَنْ عَاشَ عَنْ فَضْلٍ فَذَلِكَ خَالِدُ

 

حيفا

الأحد 27/3/2011


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع