منذ قيام الدولة، شغل الجليل حيزا كبيرا في حسابات حكام هذه البلاد، حيث أقلقهم، قبل كل شيء، أن قرار التقسيم عام 1947 أبقى الجليل خارج حدود إسرائيل، فاحتلوه بالقوة ودمروا معظم قراه واستولوا على الكثير من أراضيه، وأقاموا عليها المستوطنات والمدن اليهودية، وواصل غول المصادرة والاستيطان الاستيلاء على الأراضي، لكنه لم يستطع بلع كل ما يملكه العرب من أراضٍ. حتى دافيد بن غوريون أول رئيس حكومة في إسرائيل عندما مرّ سنة 1964 فوق قرى الشاغور (مجد الكروم، البعنة، دير الأسد ونحف) تألم قائلا: اشعر وكأني في فلسطين، في إشارة للإسراع في استمرار تغيير الطابع الديموغرافي لهذه المنطقة الخضراء الجميلة، "فاخترعوا" مشروعا أسموه "تطوير الجليل"، للتستر على اسمه الحقيقي تهويد الجليل، حيث لم تسلم أية قرية أو مدينة عربية من تضييق الخناق، والاستيلاء على معظم ما تبقى من أراضيها بمختلف قوانين المصادرة وأساليب السلب.. قابلها، من الجماهير العربية مقاومة بمختلف الأشكال ومنها القضائية، فأطلق على المحامي الشيوعي حنا نقارة اسم محامي الأرض، ورغم كل نضال واحتجاج، إلا أن المؤسسة الحاكمة استمرت بمصادرة الأراضي الى درجة أعلنت فيها عن منطقة المل، المُعرّفة (منطقة 9)، منطقة عسكرية مغلقة مع أنها تعود بملكيتها لقرى البطوف.. فطفح الكيل، وعقدت الاجتماعات والمؤتمرات وتشكلت لجان الدفاع عن الأرض ، وتم الإعلان عن إضراب شامل في 30 آذار1976، وفي مساء ذلك اليوم، انطلقت قرى البطوف (سخنين وعرابة ودير حنا) كالمارد في انتفاضة، ليثبت التاريخ على صدر (بطوفها) وسام قبس اشتعالها.
واستعدادا لإحياء الذكرى ألـ 35 ليوم الأرض قامت "الاتحاد" بجولة ميدانية في مثلث يوم الأرض لتستطلع بعض تلك الأحداث:
جمال طربيه: ما نرضى بالعيش الذليل..
جمال طربيه رئيس مجلس سخنين المحلي في تلك الفترة، يعود بالذاكرة الى ما جرى قبل يوم الإضراب فقال: إن المجتمع العربي كان يغلي من جراء تلك الممارسات وفي قرى البطوف بالذات فقد "بلغ السيل الزبى"، حيث أعلنوا في مطلع شهر شباط عام 1976، عن أراضي المل التابعة للقرى الثلاث منطقة عسكرية مغلقة، ومنعوا أصحابها من الدخول إليها، في مهمة لمصادرتها. ويضيف طربيه: تنادينا الى عقد مؤتمر للجماهير العربية في سخنين، وجرى عقده في أواخر الشهر نفسه من الاعلان عن مصادرة أراضي المل، وحضره أعضاء الكنيست، ممن أصبحوا اليوم في ذمة الله، وهم: حماد أبو ربيعة، توفيق زياد، وتوفيق طوبي. بالإضافة للعديد من لجان الأرض والقوى الناشطة في الوسط العربي. وفي هذا المؤتمر تقرر الإضراب. ثم بادرنا لاجتماع آخر عقد في سينما ديانا في الناصرة، للتحضير والإعلان عن الإضراب ولا يستطيع احد إنكار دور الشيوعيين في كل مجريات الأحداث حتى ان من كان سكرتيرا للجنة الدفاع عن الأرض، الشيوعي العريق المرحوم صليبا خميس هو من اقترح تسمية الإضراب بيوم الأرض. وهكذا تتالت الاجتماعات والاستعدادات للقيام بإضراب تاريخي في الثلاثين من آذار من العام نفسه.
ويستطرد طربيه: جن جنون السلطات الحاكمة فبادروا الى اجتماع عقد يوم 25 آذار 1976 في بلدية شفاعمرو، حيث أدخلونا الى قاعة البلدية، ولاحظنا ان قوات الشرطة والمخابرات تحاصرنا من كل النواحي في محاولة لإرهاب الحضور ومنع دخول أي شخص غير رؤساء المجالس والبلديات، ووصل عددهم إلى 46 رئيسا . وكان علينا أن نبتّ في قرار لجنة الدفاع عن الأراضي بالنسبة للإضراب وبعد (هياط ومياط) واستماتة السلطة وزُلمها في إلغاء الإضراب لإرضاء الأسياد، استدركنا نحن مجموعة صغيرة من الرؤساء والنواب المؤامرة ورفضنا مهزلة التصويت السري على قرار الإضراب. تحدينا الإرهاب وفجّرنا مهزلة قرار "برلمان الرؤساء العرب" في إلغاء الإضراب.
وانتهى طربيه للقول أنا لا أريد الحديث عن دوري في تلك الأحداث وعشية يوم الأرض ومواجهات يوم الأرض. لكن دعني أُذَكر بأنه جرت محاولة للاعتداء علينا نحن عندما أُعلن على لسان توفيق زياد ان: الشعب قرر الإضراب، ولا بد منه، فتسلحنا بأرجل الطاولة ووقف في مقدمتنا ممثل مجلس المغار المحلي، لاعب الكاراتيه أمين عساقلة، وانتقلت الأخبار عما يجري في داخل القاعة الى خارجها حيث كان يتجمهر المئات من شبان قرى البطوف وشفاعمرو، فدارت مواجهات بينهم وبين الشرطة، وجرى خلالها إطلاق قنابل الغاز وصدمات وملاحقات وضرب واعتقالات..
من ديرحنا انطلقت شرارة المواجهات
في قرية دير حنا اصطحبني مرافقي حسين أبو الحوف الى ساحة يوم الأرض بنصبها التذكاري والتي شهدت مواجهات حامية بين العساكر وسكان القرية. ثم انتقلنا لموقع قوس النصر الذي اقامه الفنانان عبد عابدي وغرشون كنيسبل، على سطح قبو يقع بين كنيسة القرية وجامعها، ليطل على ارض المل المحررة من أنياب المصادرة. ثم انتقلنا الى الموقع الذي أعدوه، في الجهة الغربية من القرية لاحتجاز من كانوا يقبضون عليه وقت المواجهات، مؤكدا ان ما جرى في دير حنا كان معركة بكل المعنى، فقد اشترك بها سكان القرية على مختلف مشاربهم وأعمارهم وخلال المواجهات جرى جرح 29، بين شاب وفتاة وامرأة وأصيبوا بإصابات مختلفة جراء إطلاق النار عليهم. وأكد أبو الحوف على دَور النساء في تلك الأحداث وتحريرهن للعديد من الأسرى، وكون الأهالي قد اسروا احد العساكر تم تحريره مقابل تحرير الجيش، لمعتقلي دير حنا.
مات مات
محمد أبو بكر احد من عانى من جراح بليغة قال: بدأ الجيش وأصحاب القبعات الخضراء باستفزازنا عشية يوم الأرض حيث دخلوا من الجهة الشرقية للقرية بمجنزرات وآليات عسكرية. وأخذ الجنود يستفزون ويعتدون على من يجدونه في الشارع ويطرقون الأبواب باعقاب البنادق ولم يتركوا أمامنا مجالا إلا للدفاع عن أنفسنا وحرمة بيوتنا. وتابع ابو بكر في تلك الليلة استمرت المواجهات وأستطيع القول انهم احتلوا البلد وضربوا واعتقلوا وعاثوا فسادا ، فتجددت المواجهات وتجدد استعمال الهراوات والغاز والرصاص الحي فأصبت برصاصة "دُمدُم" فجرت كتفي فوق الصدر بقليل وما اذكره أني سمعت الأصوات تصرخ مات.. مات..
هنا قاطعه نايف حجو ليؤكد ان دير حنا كان فيها لجنة دفاع عن الأرض وأرادت ان تلزم بالقرار القطري بالإضراب السلمي وما أطلقه توفيق زياد في اجتماع شفاعمرو بأن الشعب قرر الإضراب، للمفارقة فهذا يتشابه اليوم، مع ما أكدته جماهير ميدان التحرير في القاهرة بأن، "الشعب قرر إسقاط النظام". فجماهير دير حنا كانت مُعبأة الى درجة الغليان، فالأرض أرضها ومستعدة أن تفدي أرواحها من اجلها.. وعندما أصيب صديقي أبو محمود أسرعت إليه، خاصة وأني قد مررت دورة للإسعاف الأولي، فأسعفته قليلا ريثما احضر الشباب سيارة "تندر" لنقله، وما ان وضعناه في داخل السيارة حتى قام الجيش بإطلاق أكثر من ثلاثين رصاصة على السيارة، وعطلوا دواليبها الأربعة، فحاولت إنزاله لنقوم بإخراجه إلى مكان نستطيع من خلاله نقله إلى المستشفى، فأطلقوا النار علي وأصبت بشكل بالغ في ساقي.
الشبيبة الشيوعية على العهد
أما عمر سعدي سكرتير الشبيبة الشيوعية في منطقة الناصرة فقال: ان شبيبة الحزب، كانت الإطار الشبابي الوحيد، في حينه، الفاعل على الساحة السياسية، ووقع على عاتقها الكثير من المهام، في خلق جاهزية لإنجاح الإضراب أمام محاولات إفشاله، فعملنا على كسر حاجز الخوف في الشارع العربي من خلال التظاهرات ورفع الشعارات.. وكنا على العهد، نحمل أمانة تحريك الشارع، فتصدينا مع كل القوى الوطنية لافراد الشرطة وأذرعها عند محاولة إفشال الإضراب في اجتماع شفاعمرو. حيث دارت مواجهات استعملت خلالها الشرطة القوة والغاز المسيل للدموع.. وفي اليوم التالي انطلقت في طمرة، بقيادة الشبيبة الشيوعية، مظاهرة احتجاجية جابت شوارع البلدة، ويومي 27 و28 انطلقت مظاهرات مشابهة في عرابة وسخنين كردٍ على محاولات وسائل الإعلام تمييع قرار الإضراب والتلويح بعضلات "قوات الأمن" والتهديد بقطع الأرزاق والتأكيد على دعم قرار الإضراب..
وأضاف سعدي قائلا : عشية يوم الأرض، في التاسع والعشرين من عام 1976، وردّا على تَحُرش الجيش وأصحاب القبعات الخضراء لأهالي دير حنا، قامت شبيبة القرية بالتصدي للاستفزازات، ودارت مواجهات بين شبان وبين الجيش وحرس الحدود. وفي الليلة نفسها انطلقت في عرابة مظاهرة سلمية تندد بمصادرة الأراضي لكن قوات الجيش، التي كانت تُطوّق القرية، انقضت على المتظاهرين وبدأت بإطلاق النار من أسلحة رشاشة أدى إلى جرح العشرات وسقوط الرفيق خير ياسين شهيدا . وانتشرت الدبابات ومختلف الآليات العسكرية في شوارع البلدة وجرى محاصرتها من قِبَلِ الأهالي..
من جانبه ومن خلال اتصال بالمجلس المحلي هدد قائد الأركان، رفائيل ايتان، بتدمير القرية بالطائرات، فقمنا في المجلس وكنت احد اعضائه بالتشاور السريع وطالبنا السكان بفك الحصار، وأخرجنا الجيش ودباباته بسلام الى خارج القرية. وانتهى سعدي الى القول: لكن الجيش عاد وهاجمنا وما اقرب تلك الأيام وما أشبهها فيما يجري في الأقطار العربية ودور الشباب في مجمل الأحداث.
سقوط ثلاثة شهداء في سخنين
عن دور سخنين في يوم الأرض حدثني باختصار كمال أبو يونس رئيس كتلة الجبهة في بلدية سخنين، عضو اللجنة الشعبية قائلا: قبل 35 عاما في يوم الأرض، هبّت سخنين كباقي القرى والمدن العربية تلبي دعوة لجنة الدفاع عن الأراضي وأعلنت الإضراب الشامل وعشية الإضراب، انتفضت احتجاجا على ما جرى من اعتداءات في عرابة ودير حنا ومحاولات كسر الإضراب بالقوة، فخرج السكان إلى الشوارع، فاقتحمت المجنزرات البلدة ودارت المواجهات في منطقة البركة، وجرح العديد من الأهالي وتم احتجاز مدرعة.. وصباح يوم الثلاثين من آذار 1976 دخلت المواجهات أوجها مع قوات الجيش الإسرائيلي وسقط خلالها ثلاثة شهداء من أبنائنا، هم الشهيدة خديجة شواهنة، الشهيد رجا أبو ريا والشهيد خضر خلايلة. حيث خلّدوا مع غيرهم، بدمهم الزكي ذكرى يوم الأرض.
وأضاف أبو يونس، وفي كل عام، وإحياء لذكراهم العطرة، تُقيم سخنين مسيرة تقليدية تجوب الشارع الالتفافي للمدينة لتنتهي عند النصب التذكاري لشهداء يوم الأرض. ويشارك في هذه المسيرة كل ألوان المجتمع السخنيني على مختلف مشاربهم. وهذا العام قررت اللجنة الشعبية في المدينة القيام بالمسيرة التقليدية وبعد إنهاء مراسيمها ستتوجه الى قرية عرابة حيث تصب مع باقي المسيرات في ساحة المهرجان المركزي.
ستة اشهر سَجن لأصغر معتقل
خلال زيارتي لمجلس عرابة المحلي التقيت بعضو المجلس نزار احمد كناعنة اصغر معتقلي وسجناء يوم الأرض، حيث أكد انه اعتقل على خلفية مشاركته في أحداث يوم الأرض عام 1976 ولم يتعد بعد الـ 14 عاما، حيث تم تقديمه للمحاكمة وفرض عليه السجن الفعلي لمدة 4 اشهر فقدم ذووه استئنافا على الحكم، لكن المحكمة رفعت مدة سَجنه الى 6 اشهر. ونوه كناعنة انه رغم صغر سِنه كان يتحلى بمعنويات عالية ويفتخر في مشاركته بالدفاع عن الأرض. وانه خلال فترة سجنه كان يبادر لعقد الاجتماعات وللتداول من وراء القضبان عما يجري خارجها.
عرابة تفتح ذراعيها لاحتضان جماهير يوم الأرض في الثلاثين من آذار الجاري
ـ نحن في مجلس عرابة المحلي سررنا جدا عندما علمنا أن لجنة متابعة قضايا الجماهير العربية قررت إحياء ذكرى يوم الأرض في عرابة ومثل هذا الأمر يزيدنا شرفا ويجسد العلاقة الوطيدة بين عرابة وهذه المناسبة الوطنية والمفصلية في تاريخ الجماهير العربية في هذه البلاد، وبدوري كنت أقوم باستمرار بالاتصال بلجنة المتابعة مؤكدا على أن عرابة يشرفها استقبال مثل هذه المناسبات الوطنية. وفور تبليغنا بقرار لجنة المتابعة بدأنا بالاستعدادات المختلفة حيث عقد مجلسنا المحلي مع اللجنة الشعبية الموسعة اجتماعًا وتم إقرار برنامج عمل، ما يسبق يوم الأرض وخلاله، وعلى الصعيد الخاص تخصيص حصص في المدارس عن يوم الأرض وإصدار نشرة توزع على أهالي القرية، وتحضير لافتات تُعلق في الشوارع وزيارة قبور الشهداء في الساعة العاشرة من صباح الثلاثين من آذار وغير هذا من ترتيبات.
هذا ما قاله المربي عمر نصار رئيس مجلس عرابة المحلي ثم أضاف: كذلك دعونا لاجتماع موسع حضره رئيس بلدية سخنين ورئيس مجلس دير حنا والنائب مسعود غنايم وممثلون عن لجنة المتابعة بالإضافة للجنة الشعبية ومجلسنا المحلي، حيث وضعنا الخطوط العريضة لدورنا في يوم الأرض واتفقنا على التنسيق التام بين بلداتنا، واخترنا لجنة لمتابعة الترتيبات والتنسيق بين البلدات الثلاث. وتجدر الإشارة إلى أن المسيرات ستخرج من كل بلدة لتلتحم معا عند مدخل عرابة، كي تدخل سوية إلى ارض المهرجان في السوق العمومي ضمن مسيرة واحدة وحاشدة تشارك بها مختلف القوى الفاعلة بما فيها القوى الديمقراطية اليهودية، كي نجعل جميعنا من هذا اليوم يوم ا وحدوي ا لكل الوسط العربي.
كلمة من المحرر
في السياق نفسه لا يسع المحرر إلا ان يضيف، ان في كفر كنا أيضا، هاجمت قوات شرطية البلدة التي أضربت مثل غيرها من بلدات الجليل. وجرى الاعتداء على الأهالي بمن فيهم طلاب المدارس فقتل الجيش الطالب محسن طه ابن الـ 15 عاما كما جرح العديد.
وفي الطيرة والطيبة في المثلث أضربت الجماهير إضرابا سلمي ا، لكن الأمر لم يرق للشرطة، فدهموا البلدتين واعتدوا على المواطنين، ورغم تفرّق الأهالي تفاديا للاستفزازات المبيتة، إلا أن قوة كبيرة من بوليس القبعات الخضراء هاجموا السكان بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع وبالرصاص الحي. وأثناء الاعتداء أصيب اللاجئ من مخيم نور شمس (قرب طولكرم) رأفت زهيري، حيث تواجد في زيارة عائلية، وسقط شهيدا في بلدة الطيبة. وهكذا بالإضافة لعشرات الجرحى ومئات المعتقلين جرى استشهاد ستة من أبناء شعبنا العربي الفلسطيني، وهم: خير ياسين(عرابة)، خضر خلايلة، خديجة شواهنة ورجا حسين ابو ريا (سخنين)، محسن طه ) كفر كنا)، رأفت زهيري - مخيم نور شمس الذي استشهد في الطيبة..
الأربعاء 23/3/2011