هذا الأسبوع، ترجل فارس آخر من فرسان الحركة الوطنية في بلادنا.. ليلحق بركب طويل من الفرسان الذين ترك كل واحد منهم فراغا كبيرا في مسيرة شعبنا، فراغا لن يستطيع أي فارس، مهما كان شديد المراس والتجربة، أن يعوّضه، أو حتى يملأ مربعا واحدا من مربعاته. فقدنا القائد والمعلم والانسان والمناضل، والأخ والصديق والرفيق، والصوت المدوّي، والهامة الشامخة، الجبل الذي ما هزته الرياح العاتية، فظل صوتا مجلجلا، حتى سلم الأمانة للأجيال التي نشأت وسارت على دربه. هذا الأسبوع، رحل عن دنيانا توفيق طوبي... وربما يكفي ان نذكر هذا الاسم، كي يخيم الصمت وتفقد الكلمات معانيها وقوتها في التعبير.. فكيف يمكن أن نرثي راية مشينا على هديها وتفاخرنا بشموخها، ثم نجد أنفسنا نقف عاجزين امام عظمة الموت، كي نرثيها.. او نتذكر حيثيات ذلك الشريط النضالي الطويل الذي عايشناه في ظلها... بحكم عملي في صحيفة "الاتحاد" ومن ثم في مجلة "الغد".. ومواقعي في الشبيبة والحزب، آنذاك، ومن ثم خلال عملي في لجنة الأربعين للدفاع عن القرى غير المعترف بها، زاملت الرفيق الراحل في كثير من المواقف التي يصعب سردها في كلمات، ولا أعرف إن كنت أستطيع يوما روايتها وتدوينها للتاريخ.. لكن ما لا يمكن أن أنساه هو ذلك الهرم، توفيق طوبي، الذي كان المعلم لي في كثير من محطات حياتي النضالية بل الصحفية.. وحين ابكي توفيق طوبي، ابكي كل أولئك الفرسان الذين زاملتهم في تلك الحقبة من حياتي، ماير فلنر وتوفيق زياد واميل حبيبي واميل توما وصليبا خميس واحمد سعد وشفيق طوبي وعلي عاشور ونصري المر وراجي النجمي والقس شحادة شحادة، ومن تبقى على قيد الحياة من رفاق، أمد الله في أعمارهم، فهم النبراس وهم عمالقة الحركة الشيوعية والقومية الذين اعتز بهم وأتذكرهم الآن كما لو كانوا يمرون أمام ناظري الآن، يمتطون صهوات خيول أصيلة، لا تعرف ملامحهم إلا ابتسامة النصر حتى في أحلك الظروف. أتذكر الآن، آخر لقاء صحفي أجريته مع الراحل العملاق توفيق طوبي، بمعيّة رفيقنا الراحل أحمد سعد، حين كنا نحرر معا مجلة الشبيبة الشيوعية "الغد". وأتذكره لاني لا أنسى أن توفيق طوبي أجبرني في حينه، بدماثة أخلاقه، وبحرصه الشديد على كل كلمة تنشر باسمه، أجبرني على الخروج عن نمط العمل الصحفي.. حين تجاوبت معه وسمحت له بالإطلاع على نص المقابلة معه قبل نشرها. في العادة نلتقي الناس ونقتبس أقوالهم ثم ندوّنها وننشرها، بأمانة صحفية، فلا يقرأها المعني إلا بعد نشرها. لكن توفيق طوبي كان يرفض ويصر على عدم نشر أي تصريح باسمه إلا بعد أن يقرأ النص النهائي قبل إرساله إلى المطبعة، بل أحيانا يطلب مراجعته لغويا بعد تنضيده، كي يتلافى وقوع أي خطأ لغوي أو تساقط كلمة أو حرف يمكن أن يفقدا النص معناه.. كان حريصا أشد الحرص على خروج اللقاء منمّقا، شاملا، وكثيرا ما كان يشطب ويضيف، كي تصل رسالته إلى القارئ لا تشوبها أية شائبة. وكم كان عظيما حين كان بتواضعه اللامتناهي، يكرّس من وقته وعمله البرلماني والشعبي الكبير، ما يكفي من الوقت والاحترام للصحفيين، خلافا لآخرين كانوا يتعجرفون ويتكبرون حين تطلب إجراء لقاء معهم... أتذكر الآن رفيقنا الراحل، يوم منحنا نصف نهار من عمله، لإجراء ذلك اللقاء، وحضر إلى مكاتب الغد، فحاورناه وحاورنا.. وكان المعلم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. وأتذكره حين كان يزورنا في الاتحاد، احيانا لتزويدنا بخبر، وأحيانا لمجرد الزيارة والوقوف إلى جانبنا.. كان حين يدخل إلى قاعة التحرير نتحلق حوله، نستمع إلى كلماته، فيمدنا بمزيد من العزم ويجعلنا نتحرك كالنحل في عملنا.. غير آبهين بوضع مالي أو تأخير في دفع الراتب، أو أي مشكلة أخرى كانت تواجهنا في حينه.. بحضوره كانت تغيب الأشياء كلها، ويحضر وجهه الناصع، وتحضر كلماته لتشكل نبراسا نواصل المضي على هديه دون توقف. يحضرني الكثير من المواقف الإنسانية والرفاقية.. يحضرني الكثير من الذكريات... ولا أعرف، هل يمكن يوما تدوين تاريخ هذا الإنسان العظيم كي يبقى طريقه وتبقى تعاليمه نبراسا لشعبنا وللأجيال التي لا تعرف توفيق طوبي وتاريخه... رحل توفيق طوبي الجسد.. لكنه سيبقى فكرا ومعلما على صفحاتنا، مهما باعدت بيننا الأيام. فوداعا أيها المعلم.. وداعا أيها الأب الآخر لآلاف الناس الذين أحبوك وساروا على دربك...