تجربة في تدريس نص لمحمود درويش



اعتناق عقيدة التجاوز في البحث عن الكلام الضائع

قلت لطلابي: تهيأوا لساعة من الإجهاد الذهني اللذيذ، ساعة من الاحتمالات، والاقتحامات، والتفسيرات، سنغادر هذا الصف الآن (صفق الطلاب بقوة وساد ضجيج خفيف)، هذه المساحة المقبضة التي لا تساعدنا أبداً على مد سيقان مخيلاتنا وأذرع جنوننا نحو القصي واللامحدد والغريب، سنجلس في الحديقة هناك حيث تنمو الأزهار بهدوء دون أن يعترضها أحد هناك في الحديقة، سنبدع ونكتشف كما تكتشف الأزهار ذاتها وروعتها ورائحتها، هناك نستطيع أن نجلس على التراب ... نتشممه ... نجلس عليه ... نتحسسه بينما نحن نفكك بمتعة هائلة ظل صورة معلقة، أو نبدد ضباب عبارة عالقة، أو ننطح عتمة كلمة حرون. في الحديقة يحثنا منظر الأزهار على الإيمان برائحة الكلمات، نعم يا أصدقائي، هناك رائحة خاصة للكلمات، تلك الرائحة التي تدوخنا وتسكرنا، وتأخذ بأيدينا لنرقص ونطير ونذوب ونطلق سراحنا في أبدية الأشياء. في الحديقة سنجلس بالطريقة التي تريحنا، لا رقابة على الجلسات، لا رقابة على شيء، هناك رقابة فقط على جفاف التفكير وجموده وضيقه، لن نسمح بفكرة مترهلة للمرور، الكلمات الساخنة والبعيدة والمغمورة والمحلوم بها هي كلماتنا، هي طريقنا هي قاموسنا، هذه الساعة ستكون ساعة اقتحام هائلة لكهوف الصور وتفجير لأنفاق المعاني وآبارها.

 

عدد طلابي عشرة، فقد اخترتهم بناءً على حبهم للأدب ورغبتهم في أن يصبحوا كتاباً وشعراء.

 

سيسألني يزن: هي حرب إذن يا أستاذ؟

 

سأجيب، نعم. هي حرب بالمعنى العنيف والدقيق للكلمة، سنطيح بطريقة التفكير القديمة، سننسف حصون المعاني المكررة، سنغير على قلاع المفاهيم النهائية، وسنبني خنادق وحصوناً وقلاعاً من المفاهيم والمعاني المفتوحة والقابلة للتجدد والعاشقة للنور والحياة.

 

سيسألني أمير: هل سيكون هناك أسرى يا أستاذ؟

 

سأضحك أنا والطلاب بصوت عال، سيطل المدير مستغرباً ومتهيئاً الاعتراض أو مساءلة.

 

قلت: لا أسرى في حربنا ضد الموت والبلادة والظلام. نحن أمراء النور ومكتشفو الأبعاد الجديدة وأصدقاء الظلال، نريد أن نكسب هذه الحرب لصالح الجمال والحب، لصالح هذه الحديقة المفتوحة والحرة والنظيفة.

 

طلابي في الحديقة الآن. كل يجلس حسب راحة جسده، بعضهم جلس على الأرض متكئاً، قسم منهم تفيأ ظلال الورد القصير، آخرون وقفوا متكئين بأجسامهم على السور، جلست أنا على حافة السور بيدي أوراق مطبوع عليها سطور من قصيدة محمود درويش "ورد أقل". أوزع الأوراق على الطلاب. الطلاب ينظرون باهتمام، أراقب البهجة القلقة في وجوههم.

 

أقول لهم: أعيروني انتباهكم، حاولوا أن تنسوا ما يدور حولكم من أصوات سيارات وطلاب وباعة خضار متجولين ومدرسين يصرخون ويهددون.

 

أصدقائي أمامنا بضعة سطور شعرية للكبير والجميل محمود درويش، سنحاول أن نلج هذا الإنسان الفني، مزودين بالخبرة والأدوات التي اكتسبناها في العام الماضي، خبرة الرؤية المجنونة الحرة، خبرة تحسس العالم بأصابع من حلم، خبرة اختراق الحدود بأقدام من وهم، خبرة تحطيم الحواجز أمام رغباتنا في استخدام طاقاتنا على بناء عالم جديد على أنقاض القديم اليابس.

 

طلابي يقرأون بصمت سطور المقطوعة، لا شيء يتحرك فيهم سوى أذهانهم.

 

أرفعوا رؤوسكم واسمعوني، قلت لهم.

 

بدأت أقرأ بصوت متلون منخفض عال تبعا لمنخفضات المعاني ومرتفعاتها.

 

ورد أقل

 

أريد مزيداً من العمر كي نلتقي ومزيداً من الاغتراب

ولو كان قلباً خفيفاً لأطلقت قلبي على كل نخلة

أريد مزيداً من القلب كي استطيع الوصول إلى ساق نخلة

ولو كان عمري معي لانتظرتك خلف زجاج الغياب

أريد مزيداً من الأغنيات لأحمل مليون باب وباب

وانصبها خيمة في مهب البلاد وأسكن جملة

أريد مزيداً من السيدات لأعرف آخر قبلة

وأول موت جميل على خنجر من نبيذ السحاب

أريد مزيداً من العمر كي يعرف القلب أهله

وكي استطيع الرجوع إلى ........ ساعة من تراب

 

أنهيت القراءة، رفعت رأسي، لأرى تأثير إلقائي الشعري على الطلاب، بعضهم كان حائراً، آخرون ابتسموا، البعض كان يتنهد، طلبت منهم أن يقولوا لي عما وصلهم من معانٍ وأفكار وأحاسيس.

 

قال رام: محمود يطلب عمراً إضافياً ليعيش أكثر، يبدو أن في انتظاره أشياء كثيرة ليحققها والعمر قصير.

 

قال براء: الزمن قصير والشاعر يخافه.

قال أحمد: الشاعر يحب الحياة لكن الحياة لا تكترث له.

قال أمير: الشاعر يعرف أن الزمن لن يستجيب له، فهو يستجدي أياماً جديدة لحياة أخرى، الشاعر يبدو مسكيناً لكنه جميل.

قال سامر: الشاعر يريد أن يسكن جملة، هذا تعبير عن رغبته في الخلود والبقاء عبر الأدب.

قال محمد: فلسطين غير موجودة هنا، الإنسان هو الموجود، لماذا هرّب محمود فلسطين خارج القصيدة.

قال خالد: أتساءل فقط عن علاقة الأغنيات بالأبواب، يبدو أن كل أغنية تعني باباً، وكل باب يؤدي أو يسلم لأغنية.

قال يزن: محمود يريد نساء كثيرات، لماذا؟

قال: لماذا يريد محمود مزيداً من الاغتراب؟ أحب أن أفكر، لماذا؟ فالإنسان يبحث دائماً عن الانسجام مع محيطه لا الاغتراب.

قال معتصم: الشاعر يحلم بالوصول إلى ساق نخلة، لماذا نخلة وليس زيتونة؟ محمود لا يتحدث عن فلسطين، والدليل أنه لا يتحدث عن الزيتون، فالزيتون رمز معروف من رموز بلادنا.

قلت أنا: انطباعي الأول يا أصدقائي عن القصيدة أن محمود يحب الحياة جداً، تأملوا يا أصحابي، الفراغ المفاجئ في السطر الأخير: وكي أستطيع الرجوع إلى ......... ساعة من تراب.

 

أنا أرى أن جوهر ولغز المقطوعة الشعرية ودلالتها موجود هنا، في هذا الفراغ الذي ينتظر أن نعبئه. مهمتنا اليوم في هذه الساعة أن نحاول تعبئة هذه المساحة بكلمة واحدة، محمود ترك هذه المساحة لنا، لنستخدم مخيلاتنا، الروعة ستكون في تجاور تفسيراتنا، لن تكون هناك إجابات خاطئة، كل إجاباتكم ستكون صحيحة، أريد منكم أن تربطوا بين: الزمن، والنخلة، والقلب، والجملة، والخيمة، والتراب، والأبواب، والغياب.

 

من هذه الكلمات يمكننا، على ما اعتقد، أن نعبئ المساحة الفارغة، في السطر الأخير.

 

اعترض أمير قائلاً: أستاذي أنا اقترح أن نضيف كلمات أخرى، لإضاءة عتمة مساحة الفراغ، الكلمة هي: الاغتراب.

 

أثنيت على إضافة أمير للكلمة، طلبت من طلابي التصفيق له، قبل أن أطلب من طلابي أن يبدأوا في التفكير، بالكلمة الضائعة.

 

قلت لهم: سأذكركم فقط بما سبق وقلته لكم عن طبيعة أسرار الشعر وعلاقته بالواقع، وعن حق الشاعر في الانزياح بعيداً عن الحياة، وموجوداتها بهدف القبض على سر الحياة وجوهرها، وعن حقه في الهذيان والتوغل في الحلم والأسطورة. الشاعر إنسان مختلف تماماً، يرى الأشياء، ويحس بها بطريقة مختلفة. الشاعر كائن حساس جدا،  يرى ما لا نرى، أسلوبه في التعبير عن شعوره، يختلف عن أسلوب الناس العاديين، لذلك علينا أن نتأفف من تركيباته اللغوية، وكلماته الغريبة، علينا أن نكون صبورين جداً في تفكيك معانيه وصوره. دلالات الشاعر عبارة عن حصان حرون ومجنون، لا يستطيع ترويضها إلا الخبير والصبور والمحب العاشق للوصول إلى أوار اللهب، أوار اللهب الأزرق، منطقة خطيرة وبعيدة، مثل قمة إفيرست. المتسلقون الخطرون والصبورون هم وحدهم الذين يستأهلون الوصول للقمة – اللهب، تأملوا السطور جيداً، اربطوا بين الكلمات، فككوا الصور، وحللوا الأفكار، اقلبوا أرض الكلمات رأسا على عقب، انبشوا التراب تحت العبارة، واغطسوا في فضائها، تجاوزوا معاني الشاعر نفسه، دائماً اعتنقوا عقيدة التجاوز، اخلقوا معانيكم انتم، اكتبوا نصوصاً شفاهية، منطلقين من نص درويش الجميل، هذه هي إحدى مهمات الأدب، تحويل القارئ إلى مؤلف، دفعه إلى الجنون، لاكتشاف ذاته، ومعرفة أعماقه جيداً، تعرفوا إلى أرواحكم، من خلال هذا النص اللاهب، سافروا إلى القمم، قمم أنفسكم المضببة، واهبطوا إلى قيعانكم المغبشة والراكدة.

 

تنفس طلابي بعمق، مشى بعضهم في الحديقة وهو يقرأ بعمق وصمت وتوتر، البعض انزوى في طرف الحديقة تحت ظل السور، آخرون تمددوا، مستلقين على ظهورهم، رافعين الأوراق، وذائبين في سطورها.

 

لم تعد هناك أصوات معادية، سبق وأن دربت طلابي على نفي الخارج، والتركيز على الداخل، المدرسة اختفت، المدير مات، زعيق الصفوف وهدير الأروقة، انطفأ.

 

سألت طلابي: أين نحن الآن؟

أجابوا: نحن فينا.

ابتسمت، وكررت الجملة همساً بيني وبيني، التي سبق وعلمتهم اللجوء إليها، حين تداهمنا سيول الواقع الثقيل.

اختفى طلابي، واختفيت أنا أيضاً، كل غطس في ذاته، في كنوزه، حقيقته.

بعد نصف ساعة عدنا إلى الأرض، هبط طلابي أمامي بأقدامهم المتعبة.

كانوا يبتسمون.

قال يزن: الكلمة هي موت.

قال أشرف: إله.

قال محمد: زيتونة.

قال خالد: ساعة.

قال رام: بريق.

قال سالم: غياب.

قال أحمد: وردة.

قال محمود: جحيم.

قال فراس: صمت.

قال راضي: رعب.

قلت أنا: ارض.

قلت لهم: بعد ثوان سأختفي من أمامكم، ستخطفني جنيات الوادي، أريد من كل واحد منكم أن يسأل صديقاً يختاره، سؤالاً، ويتلقى منه سؤالاً أيضاً حول دلالات هذه القصيدة وكلماتها وعباراتها وأجوائها.

رأيت في وجوههم الدهشة المثيرة، وخرجت من الحديقة، ووقفت في الملعب.

سمعت أحمد يسأل راضي: هل هناك موت جميل وآخر غير جميل؟

سأل رام فراس: كيف يكون السحاب نبيذاً؟

سأل سالم محمود: ما دلالة الباب في القصيدة؟

سأل خالد أشرف: يتحدث محمود عن القبلات والسيدات وفي الوقت نفسه يتحدث عن الخيمة والرجوع، ما دلالة هذا المزج بين الوطني والعاطفي؟

دخلت الحديقة قفزاً، والفرح يتطاير من جسدي وقلبي، صحت فيهم: تعالوا أضمكم، فقد أطلقت جنيات الوادي سراحي بعد أن سمعت هذه الجنيات ضحكاتكم، وحواركم، وأسئلتكم، ضممتهم، تساقط بعض دمعي فوقهم: فقال أحمد: انه نبيذ السحاب يأتي عبر عيونك يا أستاذ.

ضحكت وضحكوا.

قلت لهم: اكتبوا الآن جملاً قصيرة، تعليقاً أو إضافة لقصيدة درويش.

قال أشرف: يا زمن، أيها القاتل: أعطني فرح أن أبقى لأساعد أبي في الحفل فهو عجوز.

قال سامر: أريد مزيداً من الوقت لأحارب أعداء وطني.

قال سالم: أريد وقتا إضافيا يا الهي لأحب وطني أكثر.

قال خالد: أقيم أنا الآن في بطن عبارة ، لا أريد أن أخرج، فالدنيا في الخارج برد.

قال رام: أغرقني يا نبيذ السحاب البني، أريد أن أغيب عن الوعي.

قال محمود: غنيت فجأة، فانفتحت أبواب العالم أمامي.

قال أيمن: لا نخيل هنا، بل زيتون ونخيل روحي هرمت وأنا حزين.

قال فراس: أحب أن اغترب أكثر لأرى وطني أفضل وأحبه.

قلت أنا: يا هدير العمر توقف، أريد أن أقبِّل حبيبتي بطريقة جديدة.

ضحك الطلاب هنا، برز الخجل السعيد على أعينهم.

أثنيت على إبداعات أصدقائي، صفقت لهم بحرارة، وطلبت منهم أن يستعدوا لقراءتها بصوت عالٍ.

قرأوها، أو غنوها، أو رسموها، صححت أخطاءهم القرائية، والإلقائية.

طلبت منهم أن يستبدلوا الزمان بالمكان باعتباره شقيقه، ويبدعوا جملاً من مخيلاتهم.

قال سالم: أريد مزيداً من الأمكنة، فقد سرق اليهود أرضي.

قال أحمد: أريد مزيداً من الأمكنة، لأسافر أكثر.

قال أشرف: أريد مزيداً من الأمكنة، لأرى أصدقائي البعيدين.

قال خالد: أريد مزيداً من الأمكنة، لأموت في أكثر من مكان.

قال محمد: أريد مزيداً من الأمكنة، لأكون في كل مكان حياً.

قال رام: أريد مزيداً من الأمكنة، لأهرب من الاحتلال.

طلبت منهم البحث عن الكلمات التي تشكل دلالات وطنية لأي شعب مضطهد أو غير مضطهد في العالم.

قال سامر: خيمة.

قال أحمد: رجوع.

قال أشرف: الاغتراب.

قال رام: أهله.

قال خالد: موت جميل.

قال راضي: البلاد.

قال خالد: موت.

قلت لهم: أعيروني سمعكم مرة أخرى، قرأت القصيدة بصوت عالٍ

لاحظت أن استجابتهم الذهنية أصبحت أفضل الآن، كانوا يتمايلون كأني اغني أو ارقص.

قلت لهم: لاحظوا المشترك فيما يريد درويش: أغنيات، قلب، عمر، سيدات.

سألتهم: ما المشترك هنا؟

أجابوا بصوت واحد: الحياة، الحياة، الحياة.

سال أيمن: ما رمز النخلة في القصيدة؟

قلت لهم: فكروا.

أجاب رام: النخلة رمز للعلو والرشاقة والزمن الخالد.

أجاب أحمد: النخلة هي رمز للصعود والامتداد والقوة.

قال خالد: النخلة رمز لنساء غير موجودات.

قال راضي: النخلة هي الكون أو الوطن.

طلبت منهم أن يكتبوا في البيت نصاً، مستخدمين فيه كلمات نص درويش، بعيدا عن دلالات نص درويش، وفضائه: الغياب، البلاد، السيدات، نبيذ، تراب، انتظرتك، ساق، باب، أهل، موت، قبلة.

 

 

فجأة، رن الجرس، معلناً نهاية الحصة، خرجنا من الحديقة، عدنا إلى الصف، ولا أدري هل سمعت حقاً طلابي يرددون هذه الجملة أثناء صعودهم الدرج أم أني توهمتها: نريد مزيداً من الوقت والأمكنة والأغنيات والسيدات، كي نستطيع الرجوع إلى ساعة من لهب لذيذ.

 


zkhadash1@gmail.com

زياد خداش
السبت 20/9/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع