كان الفراعنة ينتظرون خلودهم أربعين يومًا؛ هي المُدّة اللازمة لاكتمال عملية إكلينيكية بالغة التعقيد. وكان لهذه الكلمات أن تنتظر أربعين يومًا حتى تُبصر بياض الكفن، فتحتفي بخلودك الباقي، بقاء زهر اللّوز أو أبعد.
حافظوا على محمود درويش، فليس في الدّنيا شعراءُ كثيرون كابن البروة هذا..
قالها إحسان عبّاس، وغاب.
ونحن اليوم نسأل، هل حافظنا عليك، هل حافظنا على أعشار ذاك القلب المليء بالأغاني والحبّ والعدَم،
أم نحن الذين جعلناك تسأل:
مَنْ أنا لأخيّب ظنّ العدَم؟
مَنْ أنا؟ مَنْ أنا؟
أم نحن الذين جعلناك تصرُخ:
أمّا أنا، وقد امتلأتُ بكلّ أسباب الرحيل فلستُ لي، أنا لستُ لي، أنا لستُ لي.
أو، على الأقلّ،
هل هيّأنا لك الأرض لكي تستريح؟
أينما تُريد..
مثلما تُريد..
كيفما تريد..
أم ظننّا أنّ هذه المادّة التي اسمها محمود درويش، والتي ملأت الوعي واللاوعي، تخضع لقانون حفظ الطاقة، فهي لا تفنى ولا تزول، وظننّا أنّ الطبيعة التي لا تقبلُ الفراغ، ليس لها أن تحتمل مثل هذا الفراغ؟
كان لغيابك الفاجعة، على سرير بارد، في بلاد هي وليدة مُصادفة قاتلة، أن جعلَنا نُردّد مع أبي الطيّب قوله:
طوى الجزيرة حتى جاءَني خبرٌ فزعتُ فيه بآمـالي إلى الكـذبِ
حتى إذا لم يدَعْ لي صدقُه أملا شرقتُ بالدّمع حتى كاد يشرقُ بي
هكذا هو الموت إذًا؛ في كفّه دُرَرٌ ينتقي منها الجِياد، وأنت - ومَن إلاّ أنت - راوغتَه مرارًا وانتصرتَ عليه تَكرارًا، غيّبتَ الغياب في حضرته، إلى أن غيّبك الغياب، وهل غيّبك الغياب؟
دقّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ لهُ إنّ الحياةَ دقائقٌ وثوانِ
فارفَع لنفسكَ قبل موتكَ ذكرها فالذّكرُ للإنسانِ عُمرٌ ثانِ
____
وكم رجلٍ يُعدّ بألف رجلٍ وكم رجلٍ يمرّ بلا عِداد
____
وكُلّ طويلِ المجدِ يقصُر عمرُهُ كذاكَ سِباعُ الطيرِ أقصرُها عُمرًا
كانت أقرب مسافة ماديّة بيني وبينك، حين حظيتُ بأن أشهدَك، قبل عامٍ وبعضِ عام، حيثُ كانت الدّنيا بقايا نهار، وكنتَ تملأ الكرمل كرملا، نثرًا وشعرًا، ردّدناه قبلك، معك، وراءَك، وردّده الصّنوبر والسّنونو. أمّا أقرب مسافة معنويّة، فبدأت تقترب وتقترب، مُذ عرفتُ أنّي مُيسَّرٌ للّغة والأدب، وكُلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلق له، أو مُذ اقتنع والدي بذلك. لدرجة ما عادت فيها كلمة مسافة تفي بالمعنى الدقيق.
إنّك القامة الشعرية الأعلى، والأغلى، والأجمل والأكمل، حتى إشعار آخر. وسنظلّ نحن على موعد مع قصيدة لم تكتبها بعد. ونحن مُنذُ الآنَ أنت.
أمّا الآن، فاسمح لي أن ألجأ إلى سقيفة بني ساعدة وأدّثر بقول الصّدّيق أبي بكر:
مَن كان يعبدُ محمّدًا فإنّ محمّدًا قد مات. ومَن كان يعبدُ اللهَ فإنّ اللهَ حيّ لا يموت.
يطير الحمام
يحطّ الحمام
فنم يا حبيبي)
عليك السّلام
(الكبابير/جبل الكرمل/حيفا)
أسعد موسى عَودة
السبت 20/9/2008