حيٌّ أنت ولن تموت



      ما كنت أتمنى أن أكتب عنك يا أخي محمود! خِلتُكَ أنتَ ستظلّ تكتب عنّا، وتعبّر عما يختلج في أعماقنا من آلام وآمال، من تمزّق وتطلّعات وحبٍّ وهموم! فأنت، أيها الحبيب، خيرُ مَن أحسَّ مِثلَنا، وخيرُ مَن عبَّر عن مشاعرنا بالكلمات النازفة المُحِبَّة المقاوِمة...
     أنا عاجزٌ أن أكتبَ عنك! لأنك أكبر بكثير من كلِّ كلام... ولأنَّ أيَّ كلام مهما بدا معبِّرا أو جميلاً لا يستطيع أن يَفِيَكَ بعضَ حقّك، أو أن يعكِسَ حقيقةَ مشاعري في رحيلك، يا سيّدَ الكلمة، وإمامَ الإبداع والتعبير! لذلك اعذرني... سأحاولُ أن أكتبُ لكَ، وليس عنك، لأنني أحبّكَ...

 

    أكتُبُ لك، لأنك بالنسبة لي، ومن المؤكّد أنك لغيري أيضا، أنتَ حيٌّ لم تمتْ! صحيح أنّ جسدَك جثّةٌ هامدة لا حراك فيها... وصحيح أن هذا الجسدَ النحيل قد ووريَ الثرى... وصحيح أيضا أن الموتَ قد نال ما فيكَ من تراب... لكنّك مع هذا، يا حبيبنا، لم تمت، وأكاد أجزم أنك لن تموت!!
    لم تمتْ يا محمود، لأنك حيٌّ في ما عبَّر عنه حِسُّك المُرهَفُ ومشاعرك النبيلة، التي تضمَّختْ بعذاب التَّهجير والغُربة، وبآلام اللُّجوء والقِلّة، وبنهج الإذلال ومحاولات القمع والسجون! ثارت قصائدُكَ، وأضحَتْ كالقنابل في وجه المُعتدي المحتلّ الذي خاف كلماتكَ، وعمل لها ألف ألف حساب!... ودفعتَ الثمنَ غاليا يا حبيبَنا. مضيتَ تقاوم الظلمَ والحُكمَ العسكري ومصادرة الأرض وطمسَ الهُويّةِ والتغريب... قاومتَ، قبل أنْ يعرفَ الآخرون معنى المقاومة! ووضَعَكَ السجّان في رأس قائمة الخَطِرين على نهجه وكيانه، فكرّر محاولات إسكاتكَ، بالضغط والملاحقة والسَّجن!
     وكالطائر الذي يأبى أن يظلَّ سجينا، والذي لا يغرّدُ في القفص، طِرْتَ مع أول سانحة، ومضَيْتَ تغرّد وتُغرّد لفلسطينَ والعودةِ والديار... ومسَّ الحنين قلبكَ، ثم تعرَّض هذا القلبُ الكبير للألم.. كيف لا ينزف هذا القلب لِما يتعرَّض له شعبنا؟! كيف لا يتعب هذا القلب الحسّاس وهو يحمل همومَنا وأوجاعَنا والقضية؟! ظلمُ ذوي القَربى في كل مكان تقريبا! وأخطاء الأهل والإخوة وخطاياهم! حصار بيروت وضربها بأشرس الأسلحة، ثم نقل المقاتلين إلى تونس! كم يستطيع هذا القلب أن يحتمل؟! صاح ألما وتمزّقا! وكدنا نظنّ أن تدخّلَ الأطبّاء سينفع وسيوقف هذا التمزّق!! وَصَلَّيْنا كثيرا أن ينفع...
     ومضيتَ يا حبيبنا، تنتقل من بلد إلى بلد... ومن قارة إلى أخرى... وبفضلك وبفضل إبداعاتك الشعرية، وحِسِّك المرهَف، ومشاعرك الكونية الإنسانية، قرّبتَ الكثيرين من الحياديين ومن الأعداء إلى قضية شعبنا العادلة... صرتَ لهذه القضية سفيرا "فوق العادة"، وناطقا مفَوّها محترَما، لا يصرّخ ولا يعربدُ ولا ينفِّر! بل يقنع ويستدرّ التعاطف والتماهي والمحبةَ والالتزام... وظللتَ تغرّد، بل ازداد تغريدك وارتفع حِسُّك في حيفا التي أحببتَ، وفي بيروت والشام وكل بقاع الأرض...
     حتى ارتفع سلاحُ أبي سفيان والأنبياءِ الكذبة نحو ظهور إخوتهم ونحورهم!! إزداد التشرذمُ في البيت الواحد، واحتدم احتراب الإخوة! وجاز سيفٌ في قلبك الذي أضعَفَتْهُ هذه الأنباء المثيرة السيّئة، فلم يستطع أن يحتمل أكثر!
     قتلناكَ يا محمود كما قتلنا قبلك الرئيس جمال عبد الناصر!

 

ومع هذا أيها الكبير الذي ارتحل ، فأنتَ حيٌّ ولن تموت! حيٌّ في كل ما كتبتَ ونظمت... حيٌّ في الصِّغار والشباب والرجال والنساء الذين يرددون شِعرَك والأغاني... حيٌّ في دموع أبناء شعبِكَ ودموع الأجانب الذين بكَوْا فراقَكَ ورحيلَك... حيٌّ في هذا التكريم العظيم الذي لم يكن له مثيل... نعم يا حبيبنا، يا حبَّةَ الحِنطة التي ماتت، فأَعطت بموتها الثمرَ الكثير الوفير... نَم في أديم الغالية التي أحببت، فلسطين التي عشقت... فعسى أن يسمع جميع الإخوة هناك صوتَكَ، فيتحلَّقوا كلهم حول ضريحِكَ، ويطلبوا السماحَ والمغفرة، ويسيروا معا إخوةً متصالحين متحابين، نحو قصر محمود درويش للثقافة، ليتعلّموا ثقافة محمود درويش، ومحبةَ محمود درويش، وعشقَهُ لفلسطين ونضالَه والمقاومة...

(جديدة – المكر)

الخوري ابراهيم داود *
الثلاثاء 9/9/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع