كلمة تأبين الشاعر محمود درويش *في مهرجان اختتام العزاء في الجديدة 16.8.08*
حين اعتلينا مسرح الحياة- أنا وأبناء جيلي- كان هدير الثورةِ قد سكن واستكنّ، والاحتلال قد استوطن وتوطّن. وكانت الدولة الجديدة قد تشكلت بأناقة جغرافية، تنعَمُ بوزن سياسي ممتاز وتتمتع بكامل الصحة العسكرية وينبض قلبها بالمشروع الصهيوني الدافق.
أنا وأبناءُ جيلي، ومن يكبرنا بقليل، ومن يصغرنا بقليل، لسنا من جيل النكبة ولا حتى النكسة. نحن جيل جاء بعد هزيمة كاملة متكاملة. جئنا في زمن استقبل يوميات الهزيمة باحتفال صامت، وفي عصر احتجنا فيه إلى من يحرر لنا وثيقة استقلال أخرى؛ يصوغ فيها معادلة أسطورية يتساوى فيها الوطن بالمهجر، والتاريخ بالواقع، والخريطة بمفتاح الباب. احتجنا لمن يخفف عنا غربةً أشدَّ عمقًا وهلعًا هي غربة الإنسان حين يعجز عن التواصل والاستئناس مع مفهوم الوجود الإنساني.
وجاء مشروع محمود درويش ليقدم لنا بعض الحلول ويهدينا إلى مضارب الفكر والنور. وقف درويش في جرحنا يحاورنا وينقلنا من رتابة البكاء إلى حركية الفعل والفكر. كان منجز محمود الشعري بوصلة لمفهوم الحياة وحالةً من الاكتمالِ النادرِ بين الألم والأمل. بقي درويش نقياً نظيفاً يعمل في القطاع الخاص للفن والجمال والمعرفة المضيئة، حيث لا مكان ولا عرضة للمساءلة الوطنية أو القومية. معه تكونت مرجعياتنا الوطنية والقومية وتبلورت ذواتنا الثقافية والروحية، وبقصائده حاولنا أن نلملم أطراف الهزيمة ونعيد أوراق الأشجار إلى غصونها.
فهل يستطيع الشعر أن يكون معادلاً للوطن والهوية؟ هل يستطيع الشعر أن يكون معادلاً للقضية والحرية والإنسانية؟ على مستوى تجربتنا الخاصة مع محمود درويش، نكتشف أن الثورة والنضال ليسا كفيلين وحدهما بخلق الحرية، وأن النضال بلا شعر هو إساءة للنضال، وأن الشعر بلا قضية هو إساءة للشعر. قصيدة درويش هي التجلي الأسمى لماهيتنا التاريخية حين كان قادراً على درء الجرح عن الروح، والغبار عن الفكر. وقد قال مرة: "إنني بنيت وطنا بالكلمات لشعبي ولنفسي".
في مؤلفه الأخير "أثر الفراشة" هنالك قصيدة لدرويش اسمها "إجازة قصيرة"، يقول فيها في أول بيت: "صدقت أني متُّ يوم السبت، قلت علي أن أوصي بشيء ما فلم أعثر على شيء".
وصدقت نبوءته ومات محمود يومَ السبت..
محمود، منذ يومِ السبت ونحن محاصرون بموتك كما حوصرت في بيروت ذات مرة، ومنذ يومِ السبت ونحن نعد القهوة ونغليها على مهَل.. على مهَل كما تحب أن تغليها.. الفرق أننا لا نشرب قهوتك على مهَل كما تحب أن تحتسيها؛ لأن قهوة رحيلك مُرّة والقهوة السادة لا تُشرب على مهَل..
محمود، كل شيء أمامَنا يصغر.. لا راية دولة في يميننا، لا نوارس تحط على شاطئ غزة،
لا حدائق تُؤوي طيورنا، ولا فتوحات نقيم بها نبوءات دواوينك الأثيرة. الإنجازات شحيحة وثمة معنى للغربة يتسع مع اتساع رحيلك. فماذا نقدم لك حين نزورك في مقامك الجديد بعد أن استهواك نزق التراب وأغواك رحم الأرض؟
جيلنا لم يصنع خسارة ولا بطولة فماذا نقدم لك؟ لا نملك إلا أنفسنا.. ما زلنا فلسطينيين ولا زلنا أحياء، وجوهنا عديدة أكثر من رمال الشاطئ ونسلنا يمتد بين المشرق والمغرب، نعرف رائحة البحر وتقاسيم الوطن، ونحفظ أسماء القرى المهجّرة، ونجيد استنهاض ذكريات النكبة والنكسة في أمسياتنا الساجية. تغص بنا المحافل التعليمية والثقافية والسياسية وورش البناء، وما زلنا قادرين على حل معضلة الحب والألم. فهل تراه يرضيك ويعادل أشواقك؟ هل تراه يعادل ثمن فقدانك وغيابك من بيننا؟
لا نعلم إن كنت قد ترضّيت علينا كما ترضّت أمك عليك قبل رحيلك، غير أنك كنت من أنصار الصبر في الحياة، فاصبر علينا قليلاً.. اصبر فقد يمر وقت ليس بالقصير قبل أن نعيد قراءتك في سياقاتك الزمنية المطلقة، وقد يمر وقت ليس بالقصير إلى أن يأتي شعبَنا شاعرٌ يكتب لنا بعبقرية وبصيرة نافذة وثيقة استقلال الشعر والقضية.
(مقيبلة- جامعة حيفا)
د. كوثر جابر
السبت 6/9/2008