رِثُـوهُ! لا تَـرْثُـوهُ!



ليت لديّ المقدرة أن أحرس هذا الرجل من هُواة الرثاء! هذا الذي قال ما غنّاه مرسيل خليفة في بداية التسعينيّات، في مفتتح "تصبحون على وطن":

"عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو
وأحرسهم من هُواة الرثاءْ
وأقول لهمْ:
تصبحون على وطنْ
من سحابٍ ومن شجرْ
من سرابٍ وماءْ"...

يا محمود (واسمك المحمود وَسْمٌ وسموٌّ في غنى عن أيّ لقب تعظيميّ يلاصقه)، منذ الثالث عشر من آب أصبحتَ في الوطن، في ترابه. عدتَ إلى ترابه تبرًا؛ فالرائعون حين يقيمون في تراب الوطن يغدو هذا أغلى وأحلى؛ وحين يقيمون فوق التراب، تكون الحياة أكثر احتمالاً واكتمالاً وجمالاً.

 

*طبائع جنائزيّة!*

لو لم يكن بعض الإخوة ذوي طبائع جنائزيّة، لأحجموا عن كلّ المحاولات الرثائيّة للدرويش (وليعذرني المستاؤون من كلماتي إن قلت إنّ بعضها رثايّات يُرثى لها!). لو لم يكونوا جنائزيّي الطبائع، لعاشوا لحظات الرحيل وما تلاها في تأمّلٍ جِدّيّ مُجْدٍ. أيُرثى مَن إذا "غاب" ازداد حضورًا؟! أيُرثى مَن مَوْتُه أشدُّ حياةً من الأحياء؟! للموتى، للموتى دَعُوا الرثاء! أمّا الأحياء في ذاكرة شعوبهم وسائر شعوب البسيطة، فلا يُرْثَوْن، بل بهم تُثْرى الحياة ويُرثى الفَناء وتُورَث اللغة.
لا، لستُ أنكر بهاءَ بعض ما نُشر عن درويش ورُقِـيَّـهُ. لا أقصد بـِ "بعض" بضعةَ نصوص أو بضعَ مساهمات؛ بل أقصد ما هو أكثر من "بضعة" بكثير. ثمّة نصوص وفّرت لي متعة لا توصف ولا تُنسى؛ ولولا خشيتي من أن يَغمط النسيانُ حقَّ بعض أصحاب تلك النصوص الجميلة، لولا هذه الخشية لَـسُقْتُ الأمثلة.
لا، لست أغفل عن المحبّة والتقدير الغامرين اللذين يقيمان في قلوب كلّ مَن كتبوا عن درويشنا المحمود بُعَيْدَ غيابه المتوهَّم، بيدَ أنّ مأخذي الأساس على بعضنا (مأخذي الذي آمل ألاّ يمسي مأخذًا عليّ أنا) أنّهم حوّلوا محمودًا إلى ممدوحٍ مرثيٍّ. الرثاء- كما أعتقد- لا يليق بالأحياء، لا يليق بالمخلَّدين.

 

*من بين قلّة...*

ما كتبه درويش أهمُّ ممّا كُتِب عنه (وبضمنه -بالطبع- هذا الذي أسطّره أنا هنا الآن). شعر درويش فائق الجَمال، كثير الإثارة، شديد التوهّج، بالغ الأصالة. بل هو من بين قلّة من شعراء العرب المعاصرين الذين تمكّنت أشعارهم أن تُبقي على وجود جمهورِ محبّين للشعر، في زمنٍ فيه انحسرتْ رقعة المهتمّين بالشعر على نحوٍ لافتٍ ومقلق. قصائده استثناءٌ، من حيث قدرتها على بلوغ قلوب متلقّي الشعر، ولا سيّما تلك القصائد الملقاة بصوته الشديد الندرة. شعر درويش قادر على تعريف ناشئة الفلسطينيّين بقضيّتهم الوطنيّة، أكثر ممّا تستطيعه كثير من المحاضرات والمنشورات. قادر على جعلهم يحسّون بفلسطينيّتهم. قادر على أن ينمّي أو يشكّل لديهم حسًّا وطنيًّا ذا أبواب ونوافذ مشرَّعة في وجه الإنسانيّة والحضارة البشريّة عامّة. شعر درويش النادر قادر -بما فيه من منسوب شعريّ أو شاعريّ راقٍ راءٍ، من جماليّات ومدهِشات- قادر على المساهمة على نحو فعّال في تطوير ذائقة فنّيّة رفيعة، بل إنّ مثل هذه الذائقة قد أخذت تتشكّل منذ فترة غير وجيزة. وما من ريب في أنّ تطوير ذائقة كهذه من شأنه أن يرقى بالمرء إلى مَصافَّ ثقافيّةٍ بالغةِ السموّ، وأن يدفعه إلى ممارسة إنسانيّته بعد أن يكتشفها أو يعيد اكتشافها. فالفنّ، كما يحلو لي أن أفهمه، نشاطٌ إنسانيٌّ به يعبّر الإنسان الفنّان عن نفسه، عن الإنسان، ويدفع به إلى المتلقّي، إلى الإنسان. من الإنسان، عن الإنسان، إلى الإنسان.

 

*الرمز الصمغ*

لا مناص ولا بأس من الإقرار أنّنا -نحن الفلسطينيّين- لا زلنا في مراحل التكوّن أو التشكّل؛ لظروفٍ بعضُها لا يدَ لنا فيها، وبعضُها أظنّه من صنع أيدينا غير الكلّيّة الطهارة. صحيح أنّ مفاهيم القانون الدوليّ تعتبرنا شعبًا؛ صحيح أنّ الحقّ الجماعيّ في تقرير المصير (الذي تنصّ عليه قرارات الهيئة الدوليّة العليا العاجزة) يعتبرنا شعبًا؛* إلاّ أنّ القانون والحقّ لا يلغيان حقيقتنا. لا يلغي حقيقة أنّ الكثير من ممارساتنا تُعرقل تَشكُّلنا الوطنيّ والقوميّ.
في مراحل تكوُّن أيّ شعب، وفي مراحل نموّه، بل حتّى في مراحل ازدهاره، ثمّة حاجة إلى وجود رمز أو رموز تَكُون أشبهَ بصمغ يجمّع فئاته المختلفة أو يُوحّدها. قطعة القماش التي تشكّل العَلَمَ الوطنيّ أو القوميّ لا تكفي لأداء هذه المَهمّة. في مستطاع القامات الإبداعيّة الحقيقيّة المحلّقة أن تجعل قلوب أفراد الأمّة تتحلّق حولها (كم من مختلف عن درويش في المواقف السياسيّة يحبّه ويحبّ شعره البهيّ! هل مِن منكِر؟!)؛ وعندها يكون اعتزاز، ويكون رسوخ انتماء، ويكون إحساس بالتفرّد الجماعيّ. عند ذاك يغيَّب المختلَف ويُستحضَر المؤتلَف المؤلِّف. والجميل في الأمر أنّ الانتساب إلى الفنّ الجميل، والتماهي معه، والتباهي به، كلّ هذا لا يُفضي إلاّ إلى إلغاء الدمامة والقبح. من شأن كلّ هذا أن يخلق روحًا ساميَةً ونفْسًا معتزّة مُعِزّة. وإن انحاز بعضنا إلى درويش انحيازًا يداني ما يشابه التعصّب، فلا عجب ولا خوف من مثل هذا التعصّب في هذه الحالة. ربّما كان في بعض التعصّب للجَمال جَمالٌ.

 

*انصياع الشاعر...!*

من أهمّ ما يتميّز به هذا الرجلُ غيرُ الراحل أنّه قد مارس حرّيّته في الكتابة الشعريّة. لم يرضخ لاستبداد الجمهور، الجمهور الذي يبتغي من الشاعر أن يكتب ما يريده هو لا ما يريده الشاعر، الجمهور الذي تستهويه قصيدةٌ ما فيتوقّف عندها لا يتزحزح عنها، الجمهور الذي يختزل الشاعرَ في قصيدة واحدة ويرغب في أن ينظم صاحبُها كلَّ أشعاره على غرارها. كان درويش يضيق ذرعًا بمحاولة حصره في خانة البدايات: "سجّل أنا عربي" -على سبيل المثال-. مارسَ حقّه في تطوير أدواته التعبيريّة، وفي تطوير لغته الشعريّة بأن يأخذها إلى ما هو ناءٍ عمّا يراه هو مباشَرةً وخطابيّةً وجلبةً لفظيّةً. أَن تتحدّى محاولات إملاءات جمهورٍ مُحِبٍّ، أَن تَبْلغ مرحلةً في فنّك فيها تنافس نفسك وتتجاوزها منطلِقًا متنقّلاً من ذروة إلى ذروة، من جديد إلى جديد، من تجديد إلى تجديد، غير آبِهٍ برغبات المحبّين المستبدّين (ولا ريب في أنّ بعض الحبّ استبداد)، هذا يعني أنّك فنّان بامتياز، فنّان يمارس فنّه وجنونه وحرّيّته بامتياز. لو استجاب محمود درويش لرغبات الجمهور -من باب الافتراض أنّ "الجمهور عاوز كدا"، وأنّ رغبة الجمهور "ينبغي أن تُحترَم"-، لَما بلغ ما بلغه في عوالم الشعر، ولبقي مراوحًا مكانه بلا أدنى ريب. الشعر نتاج فرديّ، أو هو حالة شعوريّة تفكيريّة تعبيريّة فرديّة، ومن ثَمَّ من حقّ الشاعر أن يكتب ما يحسّ به ويفكّر فيه هو، ولذا ليس من حقّ جمهور المتلقّين أن يُمْلي إرادته على الشاعر، وليس من واجب الشاعر أن ينصاع لهذه الإرادة. الشاعر لا ينصاع إلاّ لإرادة الشعر الذي يستوطنه عميقًا. المسألة هنا تختلف عن مواصفات برنامج "ما يطلبه المستمعون"! إن لم يكن الشاعر والشعر طرفًا واحدًا، فإنّ القصيدة افتعالٌ، استعراضٌ، تظاهرٌ، تكلُّفٌ.
المتلقّي الأوّل للقصيدة (ولكلّ نتاج أدبيّ) هو الملقي أو المرسِل نفسُه. ومن حقّ الشاعر أن يسعى لنيل الرضا عن ذاته من ذاته هو، قبل أن ينال رضا الجمهور. إرضاء الجمهور على حساب الذات قد يصحّ اعتباره خيانة للذات؛ فالانقياد للجمهور قد يعني -في ما يعني-  أنّ الشاعر يكتب "حسب الطلب"، أو "حسب السوق"، لا وَفقًا لرؤياه هو، لإحساسه هو، لرؤيته هو.

 

*تمنّيات /طلبات*

ليتنا نُريح روح الدرويش المحمود، فنقرأه أكثر ممّا نكتب عنه رثاءً وتأبينًا! إنّه يستحقّ أن يُقرأ. إن أردنا أن نقدّم "خدمة" ما لذكرى هذا الرجل المُجيد المَجيد المهمّ، فلنقرأه أوّلاً! لنقرأه جيّدًا! لنقرأ شعره ونثره -إذ ما من شكّ في أنّ نثره نِدٌّ خطير لشعره ولشعر سـواه-! لنعرّف الناشئة بإبداعه! أعمال درويش خيرُ مَن يعرِّف بدرويش. ليتنا إليها نتوجّه ونوجِّه!

 

* في هذا الصدد، أودّ الإشارة أنّي أفدتُ -كالمعتاد- من معلومات وثقافة أخي وصديقي وزميلي (ثلاثة اجتمعت في واحد) الأستاذ نبيل محمّد الصالح -أستاذ المدنيّات وعلم الاجتماع في ثانويّة مار إلياس في عبلـّين.

حنا نور الحاج
السبت 6/9/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع