وعاد في كفن!



"يحكون في بلادنا.. يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى وعاد في كفن"

احضر زوجي تذكرتين لأمسية محمود درويش، التي أقيمت في مدينة حيفا في 15 تموز 2007، ولم أوافق على الذهاب، فقال لي مندهشا: أحسدك على برودة أعصابك!!! درويش في حيفا، مسافة عشر دقائق من بيتنا وترفضين الذهاب لمشاهدة أمسيته؟.. فصمت عن خبث، لسببين الأول: أنني بشكل عام وفي مثل هذه المناسبات أضيع واختنق في الزحام، والتقي بكثير من الأصدقاء، حيث سأبقى متصنعة الابتسامة باستمرار، وقبل ذلك سأهتم بتزيين شعري واختار ملابس خاصة تليق بالمناسبة، وربما أصادف أشخاصًا لا أريد التحدث معهم أو حتى لا أريد إلقاء التحية عليهم.. ببساطة متناهية، سأكون على غير طبيعتي وهذا ما لا أحب، فقلت له: لا لن اذهب إلى الأمسية حتى ولو كانت لمحمود درويش وفي حيفا!!!
أما السبب الثاني والأهم، فكان ينبع من منطلق أنانيتي الشخصية، فمتعتي من الحياة غير مكلفة، والحياة لا تسيّرني بأهوائها، فانا أرغب بالبقاء معه وحدي بدون هذه الجماهير المحتشدة الغفيرة. أرغب بأن لا يشاركني أحد بالاستماع إليه، أود أن أراه وأسمعه معا في بيتي وفي صالوني المهمل وعلى كنبتي. والاستماع اليه بحرية مطلقة بملابسي اليومية- العادية مع غلاية قهوتي وكأس مائي وصحن فواكهي وأستطيع أن أتحكم بصوته، عاليا أريده أم منخفضا. وأستطيع الانتقال من كنبة إلى أخرى وأن أضحك وأبكي وأصفق له بحرارة وأن أقول بصوت عال هذا أعجبني وهذا أثر بي، وهذا لا شيء، وأن أكون الحكم الوحيد في ساحة صالون بيتي.

***

العمرُ... عُمْرُ برعمٍ لا يذكر المطر...
لم يبك تحت شرفة القمر
لم يوقف الساعات بالسهر...
وما تداعت عند حائطٍ يداه...
ولم تسافر خلف خيط شهوةٍ... عيناه!

***

في الطريق من عمان إلى جرش، مساء يوم السبت 9/8/2008، كنت ضمن قافلة من الإعلاميين لمشاهدة حفل للفنان عمرو دياب، وخلال تلك الرحلة، تلقى زميلنا الإعلامي وديع عواودة، خبر وفاة شاعرنا، وفي الوقت ذاته أكدت لنا الزميلة الإعلامية سوسن سرور، الخبر وقالت لنا بصرامة: "عودوا إلى الفندق لأن محمود مات"، ولكن وديع عواودة قام بالاتصال مرة ثانية بشقيق الشاعر الذي نفى الخبر، واتصل على مسمع منا، وكان جواب شقيقه "إنه ما زال في غيبوبة.. ولم يمت" وهذا ما بثته قناة الجزيرة أيضا والتي قامت ببث الخبر الأول عن وفاته.
واصلنا طريقنا إلى جرش وخيّم الصمت على القافلة، وقد لجأ كل منا إلى أفكاره وحزنه ووجومه بطريقته الخاصة، دخلنا إلى الحفل الكبير، حيث لا يوجد مكان يتسع لشخص في مدرج جرش الذي يحتشد فيه (5000) متفرج، وأنا أنظر إلى المتمايلين والمتمايلات يسارًا ويمينًا على أنغام وكلمات المغني الشاب الذي يقفز على المنصة برشاقة، والحزن يلفنا في طياته، ومكبرات الصوت تبعث أصوات عالية تضج بها السماء، ودويها يدق في قلبي ويضربه بعنف، وشعرت بأن هذا الضجيج الذي يصل إلى أعماقي سيوقف قلبي عن النبض، وتخيلت محمود درويش في المستشفى وحيدا كحصانه.. مسجى في غضبه.. عاريا في ثلاجته أو ربما لفوه بغطاء أبيض، بلا حياة نابضة.. تمنيت أن تتوجه ضربات وإيقاعات مكبرات الصوت إلى قلبه العليل، لعل ضجيجها يوقظه من غيبوبته، وتوجهت إلى الزميل كميل سلباق، الذي يقف بجانبي وقلت له بصوت مخنوق: "أريد أن أهرب من هنا"، فنظر إلي وقال: "لا يمكننا التحرك لأن رجال الأمن أقفلوا المكان من كل الجوانب".

***

يا أمه! لا تقلقي الدموع من جذورها
خلُّي ببئر القلب دمعتين!
فقد يموت في غد أبوه... أو أخوه
أو صديقه أنا
خلي لنا...

***

صباح يوم الأحد 10/8/2008، توجه الصحفيون إلى المؤتمر الصحافي الذي عقدته وزيرة السياحة الأردنية مها الخطيب في عمان، حيث افتتحته باستعراض الأرقام وعدد مجموعات السائحين الذين يدخلون إلى الأردن وأرقام العائدات من السياحة، وتحدثت بإسهاب عن نجاح مشروع مهرجان الأردن الذي أقيم لأول مرة هذه السنة وانتهى بالأمس في حفل عمر دياب، بفضل المشرفين على المشروع السياحي، وبعدها توجهت إلى الإعلاميين لطرح أسئلتهم وبدأ وابل الأسئلة، فأرسلت إليها ورقة صغيرة كتبت عليها بخط حزين: هل يمكننا الوقوف لحظة حداد على وفاة الشاعر محمود درويش؟؟
وعلى الفور قاطعت الصحافي الذي كان يتحدث، معتذرة منه بلباقة، وأعلنت باسم وزارة السياحة الأردنية وباسم الصحافيين الموجودين وباسم إدارة المهرجان عن حزنها وتعزيتها لكل المحبين والأصدقاء بوفاة الشاعر، واسترسلت في الحديث عن محمود درويش الذي التقت به وقامت بتوديعه قبل السفر لإجراء عمليته الجراحية وكان معافى سليما، وطلبت الوقوف لحظة حداد لفراقه، فوقفنا مع طابور الإعلاميين من الدول العربية لذكراه

***


يا ليل! يا نجوم! يا إله! يا سحاب!
أما رأيتم شاردًا... عيناه نجمتان؟
يداه سلتان من ريحان
وصدره وسادة النجوم والقمر
وشعره أرجوحةٌ للريح والزهر!
أما رأيتم شاردًا
مسافرًا لا يحسن السفر!

***

في ذات اليوم، وفي ساعة متأخرة من الليل تركت عمان، وعدت إلى قرية "الجديدة" لأصطحب ابني الذي تركته عند جدّته، وعندما دخلت إلى القرية، كان كل شيء عاديًّا جدا، الناس نيام، لم أر إلا لافتة واحدة وحيدة معلقة عاليا، في مركز القرية، حيث الكنيسة والجامع، عليها صورة الشاعر ولم أفلح بقراءتها بسبب العتمة.. ورأيت بعض الشموع مضاءة على جانب الشارع في مدخل القرية.. زاد حزني على شاعرنا أكثر وأكثر، فقد توقعت أن أرى أشياء أخرى أكبر تليق بهذا الشاعر العالمي..
في بيت حماتي لم أجد أحدا، إلا ابني الصغير وابن عمته، وعلمت أن جميع أفراد العائلة كبارا وصغارا في بيت عائلة درويش، وعلمت بأن المعزين منهم، الشعراء والكتاب وأعضاء البرلمان والفنانون وشخصيات معروفة، كانوا جميعًا هناك.. فقررت أن أبقى في البيت وحدي، أيضا بسبب أنانيتي. وهتفت بصوت عال جلجل في عمق الليل: يا أصدقاء الراحل البعيد، لا تسألوا متى يعود، لا تسألوا كثيرا، بل أسألوا: متى يستيقظ الرجال؟

ميسون أسدي
الجمعة 29/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع