إلى كاذبٍ بارع



حضرة الأستاذ محمود،
تحية طيبة من حيفاك، وبعد،
أعلمُ أنك سئمت المراثي وقصائد الوداع ومطوّلاته المكرورة، لا سيما الركيك منها، وما أكثره. وأعلمُ أن شيئًا لم يفاجئك: يُحبُّونك ميِّتًا، يا أستاذ، يُحبُّونك ميِّتًا. كلُّ الذين هجوا زيارتك لأهلك ومدينتك وقرّائك قبل صيف، الذين استكثروها والذين استخسروها؛ كلـُّهم يُحبُّونك الآن، ميِّتًا.
وكيف أُراسلُ ميتًا؟ لن أُكلـّف نفسي مشقّة حلحلة هذه المعضلة الآن، لأنني سأقع حتمًا في شرك كلماتك، ولأنك لا تحبّ تكرار ذاتك، فحرّرها أنت بواحدة من استعاراتك، واعذرني.
لا أعرف إنْ كان ثمة بعد الموت جنةٌ أو نارٌ حقًا. ولكنّ الأرجح هو أنّ ثمة جناحًا للشعراء في مكان ما بعد استقالة أجسادهم. أقول هذا لا لشيءٍ سوى ذلك اللقاء المتخيَّل، الذي قد يجمعك أو لا يجمعك بمحمد الماغوط، الذي سبقك إلى ذلك المكان قبل نحو سنتين.
آنذاك، في رثائك له، رَوَيْتَ أنّ الماغوط، حين ذهبتَ لتتدرَّب على وداعه، "لم يكن حزينًا ولا خائفًا مما يتربَّص به. وضَع الماضي كله على المائدة، ووزّع على كل واحد منا حصَّته من الذكريات والمودَّة (...) وحيّاني بقصيدة، فخجلتُ، وقلتُ في نفسي: لماذا لم يصدِّقني من قبل؟".
والحقيقة، يا أستاذ، أنني سأجرؤ الآن على ما لم أجرؤ على قوله لك قبل موتك المُدوّي: فأنا، أيضًا، لم أصدِّقك من قبل. كأنّ شيئًا ما لم يستو، بين نزولك من الكرمل وإنشادك للوطن البعيد، بين الحضور الساطع واستجواب الغياب، بين النبيذ الفرنسيّ والكتابة عن المنفى. نعم، المنفى. كانت هذه مشكلتي الأساسية: المنفى. هل كنت تشعرُ أنك منفيٌّ حقًا أم أنّ منفاك كان مجرَّد "ثيمة" تستلزمُها الأسطورةُ في القصيدة؟
وأَثقل هذا الشعور على كاهل قراءتي لشعرك، الجديد بالذات، لبضع سنوات. قسوتُ على نفسي، معتقدًا، بغباءٍ لا أستطيع تفسيره الآن، أنني أعاقبُك أنت. وبالغباء نفسِه، نسيتُ أن وراء الشعر والشاعر إنسانًا، يستيقظ في الصباح، مثلـَنا، ويحزن مثلنا، ويجوع ويعطش مثلنا، ومثلـَنا، يبحثُ عن لعبةٍ جديدة.
وحين سألناك، في مكتبك في رام الله، عن المنفى، أشرتَ، في ما أشرت، إلى "اغتراب الإنسان عن أشياء كثيرة؛ اغترابه عن نفسه، وعن مجتمعه، اغترابه عن محاولة التشييء، تشييء الذات". هززتُ رأسي، كان كلامُك يدفعني بقوة إلى إعادة النظر في عدم صدقك، لكنّي لم أقطع الشكّ باليقين.
ولكنّ شيئًا ما غريبًا حدث لاحقًا، حين ودَّعتنا قرب منزلك، تلك الدار الجميلة في أحد أحياء رام الله الهادئة. رحتُ أُفكّر: تُرى، ماذا يفعل شاعرٌ- رمزٌ في الستين، وحدَه في البيت، بعد الظهيرة؟ يقرأ؟ يكتب؟ يشاهد التلفزيون؟ ينتظر الليل؟ ثم يقرأ ثم يكتب؟ وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ ماذا يريد شاعرٌ-رمزٌ، في الستين، من القصيدة؟
ولاحقًا، على الكرمل، قلتَ إن "الصِّدق يرادُ من الأنبياء وإن حسن الكلام يرادُ من الشعراء"، وإنه "ليس علينا أن نصدّق الشعراء إلا إذا أتقنوا هذا الكذب الصادق".
أما أنا فقد صدَّقتُك، وأما أنت والماغوط فتدبَّرا أمرَكما هناك.. وإذا كان عاصفًا كعادته، هناك أيضًا، فحاول أن تصالحه بنسخة من "في حضرة الغياب"!
لن أقول وداعًا، فأنت الآن، في غيابك، مثل الماغوط تمامًا، "أقلُّ موتًا منا، وأكثر منا حياة".

رجا زعاترة
الخميس 21/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع