محمود: تمنيت ان أحصل على نظارتك الطبية



لوداعك طعم آخر...تمتزج الطبيعة في مخيلتي ، رمان وزيتون وعنب وصبار وتين..وكل هذا يذكرني بجدي،تعود أمي من الكرم وبيدها سلة خشبية مليئة بهذه الثمار..تكون نقد نزعت شوك الصبار بالمكنسة وقشرته ووضعته بتلك العلبة الصفراء الكبيرة ، فقد إستيقظ أبي باكراً على صوت زمور جارنا الذي ثقب طبلة أذني.. لقد إتفق معه على الذهاب لجلب الصبار والجو ندي.. يا جاري العزيز ، ألم تفكر بخلع هذا الكبوت " الدبون" الذي إلتصق بجلدك من السنة الماضية ، أكرة أن أعود من تعليمي في سيارة أبي بسببك، أفضل أن انشوي تحت الشمس على أن تخربط أنفاسي  وتملأ أنفي رائحة كبوتك المقرفة..

 

يأتي جدي إلينا مسرعاً يأتي ليأكل ربع تلك العلبة الصفراء ، كأنه يعلم أن هذه الزيارة النادرة سترجعه شاباً ، ستذكره بأيام الفتوة وأكل العنب وقشور البرتقال المرمية والتين والصبار ، ستذكره بمحموده إبنة أبو نوفل لقد  كان يضع لها الهدية في الزاوية بجانب مطبخ الخبز ، يضعها ويختفي كالشعاع .. محمودة الفتاة التي لم يرها إلا مرتين، أول مرة عندما كانت تركض وراء دجاجة هاربة من قنها وتعيدها كي تؤمن فطور الغد، ومرة آخرى في عرس زياد إبن ابو علي عندما إصطف بجانبها في حلقة الدبكة الشامية ، أمسك يدها وبدأت حينها دقات قلبة تتضاعف ، أهذا هو حب أجدادنا؟ أهذه الدبكة هي إحدى أسباب وجودي الآن؟؟!

 

ما علاقة جدي وجارنا وأبي بالموضوع !! اليوم هو الأربعاء 14 آب 2008 اليوم أعلن شجر الزيتون والتين والرمان إنهزامه.. بدت كرومنا حزينة ..

 

نعم يـا درويــش ، جيش الزمان لم يسلب التين والزيتون صموده، إلا أن جيوش موتك فعلت ذلك.. لقد سلبتنا قوتنا .. لقد سلبت تفاحنا إحمرار خدودة وقطعت جذور كرزنا البرقوقي .. اليوم بكت أشجارنا كلها ، بكت تراباً تمنت لو أننا نجمعه ونغطي به مئة وخمسة وسبعين سنتيمتراً من النــور..

 

لقد مشينا اليوم على دروب أجدادك .. مسيرة لأجلك .. حملنا لكَ سنابل قمح وشقائق النعمان .. مشينا في كروم كانت كروماً .. هناك حدثتني الأشجار عنك ، روت لي مشاهد تذكرها من طفولتك ، أخبرتني عن شقاوتك .. الأشجار تعرفني ، تعرف جنوني وتعلقي بها ، إذ إن مررت بشجرة أفقدها الدهر رغبتها في الإستمرار والصمود ، طوقتها بيدي وأسمعتها دقات قلبي ، أشحن قلبها وكأنني أنعشه مجدداً ، أفرك كف يدي اليمنى على جذعها ، أنظر اليها بالضبط مثل ما نظرت إلى صورك الأربع التي علقوها على شجرة الرمان في البروة ، بعدها ترسل لي من بين أوراقها القليل من النور وكأنها تريد أن تخبرني شيئاً ما ، املأ قلبي بهذا النور وأمضي..

 

شجرة الزيتون اليوم لم تتجاوب معي .. ولم تسمح لنور الشمس بالمرور بين أوراقها حتى! لماذا؟ أجبني لماذا ؟

 

يبكونك يا درويش .. أنا لم أفعل ، رحيلك لم يبكيني ، ولا أدري لماذا ! وهذه هي شمسنا – وشمسك لقد أجبرتنا جميعاً أن نبكي اليوم.. أنا رأيتهم ، رأيتهم كلهم يبكون ، يبكون حتى من جبينهم ومن وجناتهم .. أترى يا درويش؟ حتى شمسنا إستقالت اليوم من وظيفتها لتبكي وتُبّكي.. لتحترق ولتحرق.. لتشتعل وتُشعل حسرة كوت قلوبنا كياً كأن رحيلك هو أكبر خسارة روحية لأمتنا العربية..

 

يا إلهي .. الساعة الآن 4:54 زمور جارنا يزعجني من جديد ورائحة كبوتة المعفنة تخترق جدران غرفتي .. لا أريــد ان آكل الصبار بعد الآن .. لا أريدددددد..

 

درويش .. يا شاعري ومشاعري .. هل تسمعني .. سأسري في أذنك سري قبل أن يطلع نهارجديد وأنت تحت التراب .. درويش ، لطالما تمنيت أن أحصل على نظارتك الطبية .. كنت سأصنع لها تابوتاً من الزجاج وأحفر علية عشر كلمات: محمود درويش يا أبانا الذي أخطأ المقبرة ..لقد إستعجلت الرحيل؟؟ لماذا؟


- الجولان

بقلم رهام صبرا
الأحد 17/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع