* بين استفاقة من تخدير ودخول في غيبوبة، خلال تلك الساعات المتثاقلة التي أعقبت نجاح العملية وانهيار جسده وظيفة بعد أخرى، هل أسعفه اللسان لكي يوصي، مجددا وبحزم، أن يكون الجليل مثواه الأخير والوحيد؟ *
كأنّ إرادة تراجيدية غاشمة، أشبه بعاصفة عاتية عمياء، أخذت في الآونة الأخيرة تقوده عنوة إلى قَدَرَيْن لا ثالث لهما: إمّا أن يسير إلى الموت بقدميه، ساعيا إلى ملكوته، طامعا في هزيمته للمرّة الثالثة (بعد موتَيْن سريريّين، سنة 1984 وسنة 1998)؛ أو أن ينتظر ـ مكتوف اليدين، متعب القلب، واهن الشرايين ـ مجيء الموت إليه، ساعة تشاء الإرادة الغاشمة. كانت هذه حال محمود درويش وهو يقلّب الأمرين، والأمرّين، مع نفسه أوّلا، ثمّ مع أطبائه ثانيا، ولكن مع أصدقائه أيضا، حتى مَن كان بينهم لا يميّز بين البطين الأيسر والشريان الأبهر. أمّا قلب الشاعر، العاكف على أكثر من مخطوط شعري قيد الإنجاز، فقد كان يتقلّب على نار غير هادئة أبدا.
فريق أوّل من الأطباء اعتبر أنّ درويش، بعد أن توسّع قطر الأبهر عنده إلى أكثر من 5"6، صار مثل رجل يحمل في قلبه لغما قابلا للإنفجار في أية لحظة، في أيّ يوم أو أسبوع أو شهر، ولا مناص بالتالي من جراحة دقيقة لتبديل الأجزاء من الشريان. فريق آخر، على رأسه ذلك الجرّاح الفرنسي العجوز المعلّم الذي كان وراء المآل السعيد لمحنة 1998، كان شديد التحذير من مخاطر العمل الجراحي، وكان يتوجس خيفة من المضاعفات الخطيرة التي قد تطرأ دون حسبان، ودونما قدرة كافية على ضبطها، حتى بعد نجاح العملية. والحال أنّ درويش استقرّ على الخيار الأوّل، وبعد ظهيرة 6 آب الجاري كان قلبه قد أنجز نصف انتصار بعد نجاح الجراحة، وتوجّب أن يكتمل الإنتصار ـ الثالث، على امتداد ربع قرن ـ عندما يغادر الشاعر غرفة العناية الفائقة، بشريان أبهر متجدد. تبادلنا زفّ البشرى، نحن حفنة أصدقائه ممّن تحتّم علينا أن نقبض على جمرة السرّ في ما جرى ويجري في مشفى "ميموريال هيرمان" في هيوستون، تكساس، فكانت الدقائق تحرقنا قبل أن نحرقها. ثمّ تعاقبت الأنباء الصاعقة، جلطة خلف أخرى، وانهيارا بعد آخر، واضمحلالا لفسحة الأمل الضئيلة مقابل تضخّم السؤال القاتل: هل غادرنا، حقا، مرّة وإلى الأبد؟ وهل انقطعت، نهائيا، مشروعاته الشعرية التي تضاعفت في السنوات القليلة الماضية، وتزاحمت: غزيرة في الكمّ، دائبة التجديد في الكيف، تأسيسية بقدر ما هي تراكمية، تنشقّ عمّا قبلها دون أن تقطع معه أو تنقطع عنه، مدهشة في استفزازنا بقدر مصالحتنا؟ وهل كانت تلك الأخيرة، قبل أن يطير صباحا إلى هيوستون، ختام لياليه الباريسية حقا؟ آخر عشاء، وآخر نبيذ، وآخر فنجان قهوة، وآخر نكتة، وآخر مخطوطة، وآخر مصافحة؟ بعد أن تأكد نبأ رحيله، خرجت أسير على غير هدى كحاطب ليل، أصارع إغواء استرجاع تفاصيل تلك البرهة من خريف 1976، حين تعرّفت عليه للمرّة الأولى، في بيت متواضع لصديق مشترك كان يسكن مخيّم اليرموك بدمشق. هل تلاشت التفاصيل لأني أستثقل اليوم ما كنت قد وجدت كلّ السراح في قوله آنذاك: أنّ مشروع محمود درويش الشعري ينبغي أن يكون أعلى، لأنه أرفع وأغنى وأكثر وعدا، من أن يؤسر في تسمية واحدة، ملتبسة، هي "شعر المقاومة"؟ كان ذلك الطرح أقرب إلى الهرطقة آنذاك، وكان في الحدّ الأدنى استفزازيا لشاعر المقاومة الأجمل، النجم اللامع المدلل النزق السابح في الأضواء.
وكنت أحسب الرأي ذاك فاتحة خصومة أبدية، حتى العام 1988 حين التقيت بالراحل في باريس، فأدركت أنّ العكس كان هو الصحيح: لم يجد الإستفزاز وقعا حسنا في نفسه فحسب، بل لقد استطابه لأنه أصلا كان محور تفكيره في تلك السنوات التي كانت حبلى بأكثر من محمود درويش واحد: قلق في موضوعاته وأشكاله وأدواته، عارم التوق إلى التحديث، عازف أكثر فأكثر عن ذلك "الحبّ القاسي" الذي ناشدنا أن نقلع عنه في تثمين شعره خاصة، و"شعر المقاومة" عامة. كذلك أدركت، وبرهنت السنوات المتعاقبة، أنّ ذلك اللقاء الأوّل كان عتبة صداقة كبرى، في ما يخصّني على الأقلّ، سوف تتجاوز بكثير صلة الناقد بالمبدع، بل لعلّ هذه الأخيرة كانت في نهاية المطاف آخر مشاغلنا. وهكذا فإنني، في فقده اليوم، لا أخسر فقط شاعرا كبيرا كنت وأظلّ أعتبره أعلى ذروة بلغها الشعر العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، وأحد أكبر شعراء الإنسانية المعاصرة، بل أخسر كذلك صديقا كبيرا، وأخا قريبا لم تلده أمّي. وإذا كانت واقعة مخيّم اليرموك قد راوغت ذاكرتي، فإني في المقابل لم أفشل في استرجاع تفاصيل تلك البرهة الباريسية الأخيرة، حين كنت أودّعه على باب فندق الـ "ماديسون" في حيّ الـ "سان جيرمان"، صحبة أكرم هنية، رئيس تحرير صحيفة "الأيام" الفلسطينية ورفيقه في الرحلة إلى هيوستون. ذكّرته بأمر يجب أن يستكمله عند مروره في باريس عائدا إلى عمّان، فأجابني بابتسامة غامضة: "هذا إذا رجعنا"! وأعترف، هنا، أنني تعاملت مع إجابته بخفّة المطمئن، لأني كنت على ثقة مطلقة بأنه عائد، أكثر عافية وحيوية؛ وكان حريا بي أن أتلمّس ما انطوت عليه نبرته من نيّة في اعتماد الخيار القدري الأوّل: أن يسير إلى الموت بقدميه، مردّدا تلك الفاتحة الشهيرة من إحدى أجمل قصائده: "نحبّ الحياة/ إذا ما استطعنا إليها سبيلا".
وبين استفاقة من تخدير ودخول في غيبوبة، خلال تلك الساعات المتثاقلة التي أعقبت نجاح العملية وانهيار جسده وظيفة بعد أخرى، هل أسعفه اللسان لكي يوصي، مجددا وبحزم، أن يكون الجليل مثواه الأخير والوحيد؟ وهل امتلك من اليقظة ما يكفي لكي يتلو ذلك المقطع الختامي من قصيدة "جدارية"، مطوّلته العبقرية التي كانت ثمرة محاورة الموت سنة 1998: "أمّا أنا ـ وقد امتلأتُ بكلّ أسباب الرحيل ـ فلستُ لي أنا لست لي أنا لست لي...".
(سوريا/ باريس)
صبحي حديدي
السبت 16/8/2008