أفنى حياته لتحقيق ما يريد
لا أقول، ولن أقول من الصعب إيجاد الكلمات للحديث عن محمود درويش، فالكلمات كثيرة، وهي تتزاحم وتتنافس لنيل قصب السبق، وكثرتها وغناها هو المطلوب، لإنسان أحب الكلمة وأغناها وغنّاها. رأيته أول مرة في الصف العاشر في مدرسة الرامة الثانوية حيث كنت أدرس، وجاء من مدرسة كفر ياسيف، مدرسة يني يني الثانوية حيث كان يدرس، وفي يده كتاب بسيط في إخراجه، ليس كثير الصفحات، وهو باكورة إنتاجه، جاء ليهديه إلى معلمنا طيب الذكر شكيب جهشان، قام المعلم بواجبه كعادته وعرّفنا عليه، محمود درويش. كنت بدأت قراءة مجلة "الجديد"، وكان المعلم شكيب جهشان من قرائها، وعندما كنت أقتبس شيئا ما عنها دون ذكر أسمها، كان المعلم ينظر إلي باهتمام وتقدير، وصرنا نعرف الشاعر محمود درويش. قلائل جدا هم الذين أصدروا كتبا في تلك الأيام وكان محمود درويش من أوائلهم، ناول الكتاب لمعلمنا وعلت وجهه حمرة التأثر أو الخجل لست أدري. عانقه المعلم عناقا حارًا فزادت مكانته عندنا. كنت أعرف أن الأستاذ شكيب جهشان يكتب ولا ينشر، ويقرأ لي رسائل من محمود درويش وراشد حسين، وقرأ المعلم قصيدة لمحمود درويش، بعد ما ترك الصف. بعدها بأسبوع قرأ لنا قصيدة لشاعر ما لم يذكر أسمه، هكذا أراد، وهكذا قال. وحفظت أبياتًا من القصيدتين. بعد أربعة عقود وفي بيت أبي اياد في الناصرة سردت أبياتا من قصيدته، أصغى باهتمام وذهول وتساءل: من أين لك هذه المقطوعة؟ أجبت أني سمعتها منه في الصف العاشر عندما زارنا محمود درويش، وقلت له من يومها عرفت ان القصيدة هي لك فاعترف متأخرًا. من يومها بدأت أتعرف على محمود درويش من على صفحات الجديد والاتحاد والغد، وفي المهرجانات السياسية والأمسيات الشعرية. ثم كنا في خط واحد وحزب واحد هو الحزب الشيوعي. عدة مرات تشرف بيتنا في بيت جن باستقباله وعدة مرات تشرفت بزيارته في غرفته المستأجرة في حيفا، وفي جريدة الاتحاد ومقر مجلة الجديد. بعدها بسنوات خمس أرسلت قصيدة من إنتاجي إلى مجلة الجديد وتلقيت منه رسالة أمينة تقول: قصيدتك الجرمق غير صالحة للنشر مع الأسف، فمع أنها سليمة الوزن والقافية إلا إنها ليست قليلة العيوب فأنت تستعمل كلمات في غير محلها بضغط الوزن والقافية. بعدها بمدة زمنية قصيرة جدًا كتبت قصة بعنوان "العودة إلى الأرض" لنشرها في الجديد، فتلقيت من محمود درويش رسالة تقول: قصتك الجميلة أعجبتني كثيرًا وراح يعدد بعض المفردات والصور الفنية، أصبحنا رفاقًا وأصدقاء. ألقاه من على صفحات الكتب والمجلات أكثر مما ألقاه وجهًا لوجه بسبب ترامي أطراف هذا الوطن وتقطيع أوصاله بسبب الاحتلال المتواصل وانعدام التواصل السليم القائم على الكرامة والشموخ. محمود درويش إنسان مفعم بالإنسانية، أممي في حبه للناس ومحبتهم له، مثل للعربي الفلسطيني الذي يعرف ما يريد، أفنى حياته لتحقيق ما يريد، وما أعظم وما أسمى ما أراد وما يريد. وكم كان بسيطًا في عمقه، وعميقًا في بساطته في السنوات الأخيرة بشكل خاص، وهو يقابل الجمهور في كفر ياسيف وحيفا، في أمسيتين تفصل بينهما هنيهة من الأعوام. هذه النقلة التدرجية المتصاعدة من الخاص إلى العام في شعره، إلى الإنساني العام الغني باللمحات الخصوصية، فقضية شعبنا هي قضية الإنسانية، وقضية الإنسانية أيضًا قضية شعبنا، في شعره أصبحت فلسطين عابرة للبحار والشواهق والبراري والقفار. وصارت لغة البشر والحجر، لغة الفراش على نوار اللوز والبرتقال، لغة النجوم والشفق. وإذا فأحبانا موته وفجعنا، فلم يفاجئنا هذا الاهتزاز العنيف لموته في هذا العالم الرحب، عالم فلسطين، وكان محمود درويش وسيظل الموصل الفذ لهذا الحق الفذ ولهذا الشعب الفذ. وكم سيكون موته قاسيًا على أعداء الحرية وأعداء الإنسانية، فهو الموت الذي يغيظ العدى تمامًا كما كان في حياته التي امتدت فقط على ستة عقود وأكثر من النصف، كان في أوج العطاء، في هذه المطولات الملاحم، وفي تلك المقطوعات المكثفة الغزيرة. هذا الإرث والتراث الذي لا ينضب من شأنه ومن حقه ومن واجبنا وواجب الأجيال الشابة ان ترى فيه منهلا عذبًا سائغا صافيًا تنهل منه قيمًا إنسانية، قيمًا أممية، شموخ انتماء، عزة وتواضعًا وكبرياء، مع هذا التنافس الرائع بين شعره ونثره، بين حلمه وواقعه. كان وسيظل محمود درويش إبنا للبروة والشاغور والكرمل ورام الله وفلسطين وبلاد العرب أوطاني، إبنا للإنسانية الحقة، في كافة النواحي والأرجاء واللغات. (بيت جن)محمد نفاع السبت 16/8/2008 |