كنت اظنه لايموت ابدا



* عن آخر الكراسي،  آخر الكتب، آخر الضحكات *

ما زال  الكرسي الحزين هناك، على هيئته تماما كما حركه محمود لاخرمرة بيده بينما ينهض عنه عائدا الى بيته الذي سيغادره بعد يوم واحد او اكثر الى موته، قال لي مريد النادل الشاب المعجب والمحب لمحمود والمذهول لرحيله:< لم اسمح لاحد بالاقتراب عن الكرسي، ما زال كما تركه العظيم،>. اري الكرسي الان جامدا، حول الطاولة في مقهى فيتشي برام الله، جالسا في  ذكرى خفة الوجود الرائعة لمحمود، من الصعب نسيان اللقاء الاخير لي مع محمود درويش في آخر المرات التي يجلس فيها هناك، كان  مساء ناعما مسترخيا مليئا بالقصص والنساء الجميلات والضحكات والشعر والروايات، والدعابات والاطفال والاعترافات والاحلام وما ندمنا عليه وما لم نندم، والاسئلة الصعبة ومصير الوطن ورحلة المرض القادمة، على مدى اشهر عديدة جلسنا هناك محمود وغسان وانا اكثر من مرة،في كل المرات كان مزاج محمود يتقلب ما بين السعادة والحزن، او الحيادية غير المفهومة. في اللقاء الاخير الذي استمر اربع ساعات، كان محمود سعيدا بشكل مخيف، داعب طفلة كانت تمر من امامنا، ناداها بصوت طفولي، قلد فيه صوتا مضحكا بحركات وجه مضحكة، فوجئت الطفلة بصوت وحركات هذا الرجل الستيني الطويل،  اقتربت اكثر،كمش محمود بملء كفه قبضة ترمس للطفلة، قدمها لها محمود مبتسما،تناولت الطفلة الترمس بكفها الصغيرة التي فاضت بالكمية الكبيرة فاندلقت معظم الحبات على الارض، فتذمرت ملامح الطفلة وأطلقت صيحة استياء خافتة، فضحكنا جميعا، كانت ضحكة  محمود هي الاعلى كما علو كرسيه الرابض بوفاء حزين على طبقة ارضية مرتفعة، قليلا عن ارض ساحة المقهى. وتذكر محمود فجأة طفلة اخرى، قابلها في مبنى السكاكيني، سأل صديق لي الطفلة <والكلام لمحمود> اتعرفين هذا الرجل مشيرا نحوي، فابتسمت الطفلة  قائلة <هذا اللي بكتب شعراء> ضحكة محمود هناك اتخذت شكل ذوبان. فقد اختفى صوته تماما بينما ضحكته تهز  ليل المصيون بصمت.

 

ما زلت اذكر ضحكات محمود تلك الليلة في مقهى فيتشي، ضحك طويلا حتى مال على الارض وهو يراني اصر على شرب ما تبقى من كأس الشاي، امام النادل المبتسم وهو يقف منتظرا اياي حتى انهي الكاس، سيأتي النادل لك بكأس شاي آخر لماذا تصر على شفط  ما تبقى في كأسك؟ كان يسألني ضاحكا.

 

لاني احب ان لا ابقي خلفي ما يشهد على طريقتي الفجائعية في الشرب، اجبته، ولم يكف لحظة عن الضحك.

 

تلك الليلة اهديت محمود نسخة من كتاب  افواه الزمن للكاتب البرازيليى ادواردو غاليانو، قلت له هذا كتاب مذهل وهو عبارة عن يوميات وتأملات مكتوبة بشكل شعري سردي فلسفي سريالي عميق، حول قضايا الانسان العامة من كآبة وموت وعزلة وحب وطفولة وعذابات اوطان محتلة وسير طغاة.  واضفت: انا احس ان مستقبل الكتابة سيكون على هذا الشكل: يوميات وتأملات.  وافقني محمود بهزة رأس وهو منشغل في تصفح الكتاب.

 

اتصلت بمحمود في صباح اليوم الثالث، ذهل من قوة وثراء الكتاب. في نفس اليوم كان محمود يذهب الى هناك.  فوجئت به يسألني سؤالا غريبا: زياد شو اسم الطفلة الللي كانت تتحرش بطاولتنا.قلت له اني نسيت والله يا صديقي، فصمت بضع ثوان قبل ان يسألني : انا شايف انه خط قصيدتي  سيناريو جاهز المنشورة بالايام اليوم كثير صغير صح؟. قلت له  لالا محمود انا شايفه تمام ومقروء. كنت اكذب. وكان هو يعرف اني لا احب ان اراه  متضايقا من شيء ابدا. ضحك ضحكة خافتة واختفى الى هناك هناك هناك. آه يا هناك  ليتك تعرف من اخذت منا؟ ليتك؟.

 

 حين علمت برحيل محمود، خرجت من موكارينا هائما على اكذب واضخم الحقائق واشدها صراحة وغموضا: <موت محمود> تذكرت فجأة وانا انتحب واقفا امام غروب شمس رام الله المريع بالقرب من بنك القاهرة عمان على التلة المواجة لبحر يافا، ان محمود بشر ويمكن ان يموت، لم انتبه الى انه يشبهنا فيزيائيا، وانه يتعرض للبرد مثلنا. لم انتبه الى بشريته قبل ذلك، كنت اظنه غير قابل للموت، قد يسافر الى اوروبا لاشهر، يعتزل الناس في البيت، لكن ان يتوقف عن المجيء نهائيا الى فتشي او السكاكيني، او ان يظل رنين جواله يرن دون ان يجيب. او اتوقف عن سماع انفعاله الطفولي واستياءه القصير من اقزام هنا وهناك،  فهذا ما لم اكن انتظره، او اتوقعه.

 

طلبت من وليد الشيخ ان يحضر جدارية محمود ويأتي الى  كرسي مقهى فتشي، اتصلت باكثر من صديق، جاؤوا كلهم، راكضين كأنهم كانوا يبحثون معي عن دليل  عياني يكذب الخبر. كأنهم  ارادوا ان يشهروا الكرسي في وجه العدم، ليخيبوا ظنه، قرأنا هناك بعضا من جداريته. كان الكرسي على نفس جلسته، صامتا  كحصان تائه و وحيد متروك ينظر الينا يبحث عن صاحبه، عن فارسه الذي مات في انبل المعارك واشرف المنازلات.  معركة الشعر ضد العدم.

 

فجاة رايت الطفلة التي لعبت مع الطفل الستيني، تنظر الينا من بعيد مع اهلها في زاوية المقهى. كانت عيناها حائرتين، شريدتين. هل كانتا تسألاني: وينه وينه؟؟.

زياد خداش
الأربعاء 13/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع