انهضْ من رمادِكَ وَحَلِّقْ



"على الروح أنْ تترجَّلْ

وتمشي على قَدَميْها الحريريَّتَيْن

إلى جانبي، ويدًا بيدٍ، هكذا صاحبيْن

قديمين يقتسمان الرغيفَ القديمَ

وكأسَ النبيذِ القديمِ

لنقطعَ هذا الطريقَ معًا

ثمّ تذهَبُ أيّامُنا في اتّجاهيْن مختلفيْن :-

 

أنا ما وراءَ الطبيعةِ، أمّا هيَ

فتختارُ أنْ تجلسَ القرفصاءَ

على صخرةٍ عالية" [1]

 

وها هيَ روحُك اليومَ تجلسُ القرفصاءَ على صخرةِ تاريخنا وشِعْرِنا بعد أنْ اقتسمَتْ معكَ الرغيفَ والنبيذ القديميْن، بعد أنْ قطعَتْ طريقًا لم يكن بالطويل، لكنّه عريضٌ مليءٌ بإيقاعِ نبضِ النّصر الشّعريّ ما بعدَ الهزائم، طريقٌ ممتدٌّ ما بعدَ بعدَ الحصارِ، حصارِ الجسد وانفلات الرّوحِ في رؤيا الشِّعر ..

طريقٌ يحلِّقُ فينا من الواقع إلى المجاز .. من المخيَّمِ إلى الأسطورةِ، يتركنا على مفترقِ المدن العربيّة فَنَحارُ في اتّجاهِ بوصلةِ حُبِّنا .. شمالاً نحو دمشق وشرقًا نحو بغداد، وجنوبًا .. نحو كلِّ جنوبٍ في كلِّ وطنٍ تحوَّلَ إلى "حقيبةِ سَفَر" ..

 

طريقُ حُلُمِكَ الشِّعريّ ما بين التخيّل والعقل .. بين الرّاهن الماضي إلى غيرِ رَجْعةٍ والمستقبل الذي ننسجُه على هوانا، أحاسيسنا، معاني كلمتِنا وإحباطاتِنا اليوميّة التي تترك أثر زردِ سلاسِلِها على زنودِ الكلماتِ النّاعمةِ لفظًا .. القاسية نبضًا .. القاصية معنى ..

 

من بدايةِ العالَمِ وروح الله ترفرف على وجهِ المياه .. وروحُك أيّها الفينيقُ ترفرف على وجه الرماد .. لا تخلقُ العالمَ في سبعةِ أيّامٍ .. بل تخلقُ طائرًا يُحلِّقُ بجناحي الوطنِ والحبِّ .. يُحَلِّقُ نحو الصّدى البعيد، عائدًا إلى الأساطير، جاعلاً الصّخرةَ الفلسطينيّةَ سيزيفيَّة الجدل، تُناقش أمورَها على وقعِ السُلَّمِ الموسيقيّ فتترُكُ الوقوفَ على الطّلَلِ وتحملُ يَدَها المقطوعَة، لا مفرَّ، تضربُ بها عدوًّا .. رآهُ الفينيقُ من علٍ بنظرةٍ جديدةٍ حاوَرَهُ ودَعاهُ:

"لو تأمَّلتَ وجْهَ الضحيّةْ

وفكَّرتَ، كُنْتً تذكَّرْتَ أمَّكَ في غرفةِ

 الغاز، كنتَ تحرَّرْت من حِكمة البندقيةْ

 وغيَّرْتَ رأيَكَ: ما هكذا تُستعادُ الهويّةْ"[2]

 

رغم تهجيركَ طفلا حاوَرْتََهُ،  لأنَّ لبَنَ التين "البرناويّ"  ما زال يقطِرُ على جروحِكَ محاولا أنْ يداويَها .. لأنَّ عرائشَ العنب ما زالت تدمع نبيذًا يُسْكِرُ المنفى ويُبقيكَ على صَحوٍ .. يُبقيكَ حاضرًا في الغيابِ .. شرعيَُّا في لا شرعيّة الموجود .. يُبْقيكَ الضّحيّة التي ترفُض أنْ تكونَ على مذبح الشِّعر إلاّ وسيفُ الكلمةِ بيدِها، بِحَدَّيْنِ؛ حدٍّ يؤرّخُ مأساتَها وآخر يموسِقُ بشاعريّةٍ صورَ حياتِها وانتفاضتِها وصمودِها وبقائِها ..

رغمَ "البندقيّة بين عينيكَ وعيني ريتا" .. فإنَّكَ أيّها الطّائرُ المستحيلُ المنتفضُ من قلبِ الموتِ "ترى ما تريد"، تحترقُ جسدًا وتحرقُنا حُزنًا، لكنّك كالعنقاء تحترقُ لتُبْعَثُ من جديد، أيّها الخالدُ رغبةً منّا بخلودنا ..

 

"سلامٌ عليكَ يوم وُلدْتَ،

ويوم تموتَ ويوم تُبْعَثُ حيًَّا"

 

لأنّك نبيُّ الشّعراء ..  " أنقذتَ أدَبنا من هذا الحبِّ القاتل" المتهافت حبرًا باسمِ القضيّة، أنقذتَ شِعْرنا من "القريب" وتركتَ شِعْرَك "كمطرٍ ناعمٍ في خريفٍ بعيد"، فلم تتقوقَع داخلَ انغلاقٍ يحدُّ من شاعريّتكَ ..ذهبتَ بعيدًا عبرتَ حدود الأرضِ وحدود السماءِ .. عبَّرتَ عن شوقِكَ للتوحيد الصوفيّ بين الأنا والآخَر .. بين الأنا والعالم أجمع .. رفضتَ طوقَ الحصارِ بكل مفاهيمهِ السّياسيّة والأدبيّة والاجتماعيّة فقلتَ :

 

"رأيتُ الحصى أجنحةْ

رأيت الندى أسلحةْ

عندما أغلقوا باب قلبي عليّ

وأقاموا الحواجز فيّ

ومنعَ التجوّلّ

صار قلبي حارة

وضلوعي حجارة

وأطلّ القرنفل"[3]

 

كيف لا يطلّ القرنفلُ مِن هذا القلبِ الكبير الذي تجسّدَ ليتَّسِعَ لحارةٍ .. اتّسع ليحتملَ مصائبَ ومصاعبَ وحُبًَّا كبيرًا مَزَّقَهُ .. أضْعَفَهُ ..

 

كم مرَّةً خَذَلَك قلبُكَ؟؟؟

 

كم مرَّةً رأيتَ من الحقلِ (الوطن) جدائلَ قمحٍِ (الخير والمرأة) تمشّطها الريح ؟

 

"أرى ما أريد من الحقل : إنِّي أرى

 جدائلَ قمحٍ تمشّطها الريح : أغمض عيني

هذا السّراب يؤدّي إلى النّهوند

وهذا السّكون يؤدّي إلى اللازورد"[4].

 

كم مرّة اختلَطَتْ عليكَ الحواسُّ لتُخرجَ الصّورةَ مِنَ المحسوس إلى اللامحسوس، إلى اللامألوف، إلى جمالٍ مخصوصٍ هو مِن زخرفةِ حِبْرِكَ، هو محمود درويش!

 

" لماذا تركْتَ الحصانَ وحيدًا؟؟؟؟"

" الأحبّة: هاجروا

أخذوا المكان وهاجروا

أخذوا الزّمان وهاجروا

أخذوا روائحهم عن الفخّارِ

والكلأ الشّحيح، وهاجروا

أخذوا الكلامَ وهاجر القلبُ القتيلُ

معهم، أيتّسع الصّدى، هذا الصّدى

هذا السّرابُ الأبيضُ الصّوتيّ لاسم تملأ

المجهول بَحَّتُهُ، ويملأهُ الرّحيلُ ألوهةً؟"[5] 

 

ها أنتَ تأخذ المكان والزّمان وتهجرنا.." لكنّه أوّل موتٍ" .. لذلكَ تركْتَ لنا توابل النّقاطِ وروائح الحروفِ وملمس القصيدة..نُصغي لوقعِ إيابِكَ مِنْ خلال سِحرِها.. سِحْرِ تلكَ القصيدة التي تركَتِ

 

" القبائل لا تستعين بكسرى

ولا قيصر، طمَعًا بالخلافة،

فالحكم شورى على طبق العائلةْ

ولكنّها أُعجِبَتْ بالحداثةِ

فاستبدَلَتْ

بطائرةٍ إبِلَ القافلةْ"[6]

 

 

وطائرةُ شِعرِكَ حلّقَتْ في سماء العالميّة، حتّى بتَّ مدرسةً شِعريّةً تُعلِّمُ الوحيَّ والإلهامَ كيفَ يكونُ التّمرُّدُ على التّمرّدِ، كيف يتخطّى الشّاعر قصيدتَه، وكيف تتخطّى القصيدةُ سابقتَها...." كيف تصرخ في عزلتِكَ، لا لتوقظَ النّائمين، بل لتوقظكَ صرختكَ مِنْ خيالك السّجين.."[7]

كم مرّة متَّ؟؟

كم مرّة كنتَ هناك وعدتَ إلينا محلّقا؟

يا عنقاءَ الشِّعر العربيِّ، لن تتركَنا أبدًا، لأنّكَ المتجدّد دومًا، لأنّكَ صانعُ الأساطيرِ، لأنّ:

" مَنْ بنى على عنقِهِ غرفةً لسماء

وبنى على ركبتِهِ غرفةً لسلام

وبنى على تلّة الرّوح دارًا لدالية"[8]

سيبقى جسدًا حيًّا بيننا، ننظر للسّماء فنراه شامخًا، ننتظر السّلام فنراه قريبًا في نبوءةِ قصائدِكَ.. ونُسْكِرُ روحَنا من دالية روحِكَ الخصبةِ أبدًا.

فارقد بسلامٍ أيّها الطّائر فوق رمادِ قلوبِنا، واحترقْ وعُدْ إلينا فكرةً لتصيرَ ما أردْتَ، فقد متَّ قبل الآن وتعرف هذه الرؤيا:

" وكأنني قد متُّ قبل الآن …
أَعرفُ هذه الرؤيا ، وأَعرفُ أَنني
أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ . رُبَّما
ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ
ما أُريدُ …
سأصيرُ يوماً ما أُريدُ

سأَصيرُ يوماً فكرةً . لا سَيْفَ يحملُها
إلى الأرضِ اليبابِ ، ولا كتابَ …
كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من
تَفَتُّح عُشْبَةٍ ،
لا القُوَّةُ انتصرتْ
ولا العَدْلُ الشريدُ

 


سأَصير يوماً ما أُريدُ

سأصير يوماً طائراً ، وأَسُلُّ من عَدَمي
وجودي . كُلَّما احتَرقَ الجناحانِ
اقتربتُ من الحقيقةِ ، وانبعثتُ من
الرمادِ . أَنا حوارُ الحالمين ، عَزَفْتُ
عن جَسَدي وعن نفسي لأُكْمِلَ
رحلتي الأولى إلى المعنى ، فأَحْرَقَني
وغاب . أَنا الغيابُ . أَنا السماويُّ
الطريدُ ."[9]

 

أيّها الطّريد أبدًا فلتستَكِنْ روحُكَ، عزَفْتَ عنّا سنغطّي عظامَك بخصلةِ شَعرٍ، بعشْبٍ تعمّدَ مِنْ طُهرِ كعبِ والدةٍ تخجلُ أنتَ مِن دمعها، ونخجل نحن كيفَ لم نجد قلبا أكبر نعطيكَ إيّاه لتحتمل كلّ أماكن الألم، وكلّ أزمان السّفر والرّحيل.

 

راوية بربارة
أبو سنان – الجليل الغربي

 
---------------------------------------------

[1] محمود درويش، "حالة حصار". ص.55.بيروت.2002

[2] ن.م. ص 29

[3] محمود درويش. ديوان أعراس.  قصيدة الأرض. ص. 625،626.

[4]  محمود درويش. ديوان  " أرى ما أريد".

[5] محمود درويش. " لماذا تركتَ الحصان وحيدًا"؟ ص. 117، دار رياض الرّيّس، لندن 2001.

[6] محمود درويش. " حالة حصار" ص. 34.

[7] ن.م. بتصرّف ص. 35.

[8] محمود درويش. "حصار لمدائح البحر". ص.74. بتصرُّف 

[9] محمود درويش. "الجداريّة".

راوية جرجورة بربارة
الأثنين 11/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع