"لماذا تركت الحصان وحيدًا"



محمود درويش،
وداعًا، وعتابًا،
نودعك ونعاتبك، فلا تغضب ولا تنتهرنا كعادتك التي ربيتها على التواضع.
لماذا استعجلت الرحيل؟ لماذا غافلتنا وغافلت اللحظة؟ "لا وقت للوقت" كنت تقول وفعلتها. كأنك كنت تجلس على "فوهة الزمن"، تزاحمه ويزاحمك. ألم تقل يوما: "وأعشق عمري لأني اذا مت يوما أخجل من دمع امي". اذًا لماذا فعلتها يا محمود؟!! هل فارقك الخجل او فارقته؟! كنا نحسبك عصيا على كل شيء، ليس على الغياب فقط، بل حتى على الموت اولم تقل لنا يوما "هزمتك يا موت، الفنون الجميلة جميعها هزمتك"، لماذا اذا فعلتها، وقد حسبناك عصيا على كل شيء، فقد كنت جميعنا، كنت جميعنا بعيوبنا بنواقصنا، بانكساراتنا بتخاذلاتنا، وكنت جميعنا ببطولاتنا بنضالاتنا، بتحدياتنا بصمودنا، بآلامنا بآمالنا. كنت منورا يا محمود بصيغة جمع، لماذا اذا رحلت؟!
كيف لنا بعدك ان نفخر ان نعاير وان نشمخ؟!! من بعدك سيرثي عباءتنا كلما تفتقت خيوطها؟!! من بعدك سيرد الى حطتنا البهاء كلما بهتت الوانها؟!! لمن تركتنا هكذا بلا انذار، لا سماء فوقنا ولا ارض تحتنا، بلا ظل نفي اليه ولا جذع نعلق عليه همومنا واشجاننا وآمالنا وامانينا؟!
لمن تركتنا هكذا، بلا انذار، عراة لا شيء يسترنا؟! فقد كنت نجاحنا وشهرتنا، عزنا وكرامتنا، وبؤر الضمير فينا، كنت سترنا ولحافنا نتدثر بكل ونتدفأ كلما اشتدت علينا الايام، وحاصرتنا الظروف. ولكننا معك وبك "حاصرنا حصارنا"، لماذا رحلت؟! لماذا رحلت هكذا وتركت "الحصان وحيدا" يجاهد في الميدان وأنت تعلم اننا خيول دقت قوادمها وهزلت اجسادها لا تقوى الا بك ومعك وفيك. لماذا تركتنا هكذا على عجل هل خذلناك يا شاعر الحسنى؟ ونحن شعب كم خذل محبيه.
محمود، ايها الغائب الحاضر، كم كبرت وكبرنا معك، كم قفزت وقفزنا معك، شعرا وثقافة وادبا وفكرا. عشقتنا فعشقناك وصرت ايقونتنا. كل ما فيك فينا، وكل ما فينا فيك، كل حبة تراب فلسطينية مدينة لك، كل حجر، كل صخرة، كل جبل، كل سهل، كل ساحل، كل قفر، كل كل فلسطيني مدين لك. فقد استنطقتها جميعا ونبشت خلف ظواهرها وضعت منها ومنّا ملحمة عز وإباء وكرامة نسيجها خمر وارجوان.
كبرت وكبرنا معك، وصرنا ننتظر طلتك وكلماتك، فبين ديوان وآخر، بين حوار وآخر، اشعلت ليالينا وأنرت سهراتنا، فكنت الحديث كل الحديث. كنت المبتدأ والخبر، اللؤلؤة والمحارة، الفعل والفاعل، نتسقط اخبارك، نشتهي كلامك وقصائدك ونثرياتك، لتصير جميعها لنا زادا يخترقنا، يحمينا ويرد كل شر عنا، ويدفعنا نحو التطور والصمود والتحدي والجمال، جعلتنا نتعشق العشق، عشق الوطن والارض والهوية، وعشق الانسان الانسان همك وشغلك، الذي لأجله سهرت وقلقت وبكيت وعانيت وتعذبت وحزنت وفرحت قضيت عمريك الزمني والشعري تمسح دمعة وتزرع آلاف البلابل والحساسين على اوتار قلبه المعذب. سلخت العمرين تلعن ظالميه، وتحقّر مغتصبي فرحته، وتطارد الذين صاروا سعادته واوقفوا ضحكته، وزيفوا تاريخه، قضيت عمريك وأنت تلملم الشوك وتزرع الورد على دروبه المعذبة المقهورة. تقتلع من خاصرة جرحك وردة وتزرعها له/لنا، في تخفف ألمه/المنا، وتلطف جراحه/جراحنا.
لماذا رحلت؟! ولمن تركتنا وتركت الشعر، والارض والوطن، والقمح والزيتون، والملح؟ وكيف سنملّح حياتنا بعدك؟ ولماذا؟! لقد كنت عمود البيت، كنت الحقيقة والاسطورة، الواقع والخيال، الموجود والمنشور، القائم والمشتهى، الحاضر والمرتجى، فماذا سننتظر الآن وقد قمعت الحلم وهو في اوجه؟!
لماذا رحلت يا ملح ارضنا وشعبنا وشعرنا ونثرنا، للشعر معك طعم آخر، معنى آخر، نكهة اخرى، فكيف سيكون بعدك؟ وكيف سنستسيغه وسنتذوقه الآن؟ وقد رضعناه قطرة قطرة من ثدي قلمك وجمالياتك.
من سينتشل المعاني والقوالب والبلاغة والصور من مستنقعها ليرقى بها الى مدارج الصفاء، الى الشعر الصافي المصفى، مشتهاك ومبتغاك، سعيك وجهدك، سهرك وقلقك وحلمك؟! لماذا رحلت؟! يا فخرنا ومفخرتنا، ايها القلق الابدي، ايها الحائر المحير/ البعيد القريب/ المتواضع على كبر/ الهادئ على ثورة/ المرهف على بركان/ القابض على الجمر/ الممسك قرون الوعل.
لماذا رحلت؟! يا من تتبع اثر الفراشة فحلق وسما ولحقنا به وما ادركناه، يا من عشق زهر اللوز فصار أبهى وأجمل وابصر، ركضنا خلفه وما لحقناه.
لمن تركتنا يتامى، حيارى قلوب، من سنسرق منه قمحه؟ من سنردد كلامه؟ من سنستشهد بعناقيده؟ محمود، ايها الحائر المحير! كيف استطعت وما تجاوزت وعاء الستين ان تنبش في سرية الكون، في اساطيره وحكاياته، وتراثه، وآدابه وثقافاته، وتصل الى القرارة، قرارة الكون والانسان لتنسج منها جميعا اصواتا واجراسا هي مسرى الحرير؟! كيف استطعت ان تمازج بين الديانات جميعا وبين كتبها جميعا وتخلص الى الرحيق المصفى لتصوغ منها كلمات وجملا وايقاعات هي مجرى العبير؟! كيف تصير الكلمة بين يديك قارورة عطر وقنبلة!! كيف تصير الجملة بين يديك رقة انثى ومرجلا يغلي!! ايها الحائر المحيّر! يا من أعدت للمفردة القها وأزلت عنها ما تطيّن عليها من ركام التخلف والتعصب التشرذم، فأجت من جديد وابتهجت بك ومعك. يا من رددت الى الجملة بريقها وبهاءها فاشتعلت وتوهجت ورقصت فرحا بك ومعك برحيلك ستفقد الابجدية رونقها وأناقتها، وستحني الاسباب والاوتار هامها، وستميل عن نغماتها التفاعيل، ستتشوه آنات القوافي وعرائس البلاغة وعذارى البيان. من سيلهث وراءه المطربون والملحنون؟ من ستلهث وراءه الجوائز والقاعات والساحات والحناجر والأكف بكرحيلك ستمد الزعانف رؤوسها وستعلق لحاء شعرك وتمض جرحك في ينتفخ أناها فالايقونة صار في حضرة الغياب. انت حاضر فينا عصي على الغياب والنسيان وأقوى من العاصفة، ستظل الحلم والامل والايقونة والهاجس والمقتدى، نم قرير العين.
برحيلك ايها الحبيب الحبيب، "لم تبق زاوية بأرض حديقة الا اشتهت انها قبر". نم قرير العين.

(الناصرة)

حبيب بولس
الأثنين 11/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع