فجعنا بالخبر الاليم المفجع والمفاجئ الذي نقله لنا رفيقنا النائب محمد بركة اثناء اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الاسرائيلي مساء السبت الماضي، الخبر المشؤوم ان فارس فرسان الاصالة الابداعية الادبية المميزة، شاعر شعراء العصر، فارس الاصالة الوطنية الصادقة، شاعر فلسطين وهادي قضاياها، ابن شعبه وابن قرية البروة المهجرة البار، الشاعر محمود درويش الذي فشلت قباطنة العنصرية العدوانية الصهيونية ودناصير انظمة وساسة معاداة الحقوق الوطنية الشرعية الفلسطينية في بلدان العالم المحكوم بسرطان العولمة الرأسمالية وانظمة شريعة الغاب، في وقت فشلت به قوى اعداء الانسانية والشعوب والعدالة وعجزت في احياء هذا الفارس الفلسطيني الانسان الثوري المقاوم على الترجل عن فرسه الاصيل او خيانة لسان قلبه النظيف بالتوقف عن اطلاق الصواريخ عابرة القارات المعولمة بقاذفات الحق العادل الفلسطيني وبهموم وقضايا شعبه المنكوب عل وعسى يتحرك الضمير الانساني العالمي المهتوك وينصف العدل والعدالة ويناصر حق شعب اغتصبت "عدالة" حق القوة قوة حقة.
اعشق الشعر واتذوقه، ولكنني لست ابدا ناقدا ادبيا او شعريا لأقيّم محمود درويش الشاعر العملاق، ومحمود لم يكن شاعرا عابر السبيل، سائحا يتغنى بجمال الطبيعة وبأم الجدائل، بل كان كما يجمع الادباء والساسة شاعر قضية وجامعة شعرية قائمة بذاتها تنتج الابداع الجمالي الذي يجدل بصورة ابداعية رائعة العلاقة الجدلية بين الطبيعة والانسان والجمال والعدالة التي لا تشوه معنى ومدلول الحرية وجمال الطبيعة والحسن والجمال في رحاب كوكبنا الصغير، الذي اصبح معولما. سأترك الخبز لخبازه، والفرن الادبي يدخر بالنقاد من مختلف الاصناف، من الموضوعية الاكفاء الى القصابين الانتهازيين الذين يحاكمون شخص الشاعر او الكاتب اكثر من التركيز على غلته ومنتوجه الادبي.
ساختصر الحديث عن محطات كان لي علاقة ما بالشاعر الابداعي العالمي، وحقيقة هي انني من "صحن الدار" التي سرح ومرح محمود درويش في رحابها. فأكثر واوثق علاقة تربطني بمحمود درويش هي علاقة الانتساب الى هوية نفس الموقف الذي اختاره كل منا طاوية، موقف ان لا نكون لا مبالين ونفترش المقاعد الدثيرة في مدرجات وملاعب الفرجة في وقت واجه ويواجه شعبنا العربي الفلسطيني في مختلف اماكن تواجده والبقية الباقية منه في اسرائيل ولم تترك الوطن، شتى انواع المعاناة والمآسي والمجازر، سياسة الاقتلاع والتطهير العرقي التي حولت شعبنا الاصيل الى شعب من اللاجئين والمهجرين قسرا في الشتات القسري والى ضحايا سياسة القهر القومي والتمييز العنصري التي انتهجتها وتنهجها الاوساط الصهيونية الحاكمة في بلادنا وبدعم من الدوائر الامبريالية الامريكية وغيرها ومن تواطؤ الرجعية العربية وبعض انظمتها معهما. محمود درويش اختار، ومنذ صغر سنه، منذ ان طالبا في المدرسة الثانوية في كفر ياسيف اكان يكبرني سنا بخمس سنوات وخمسة صفوف مدرسة" احتار محمود درويش ان يكون الاسد في مواجهة وحوش الغاب وقوانين الغاب الصهيونية. بدأ نظم الشعر وهو في المدرسة الثانوية ومحمود درويش كان ومنذ سن مبكرة احد فرسان الشعر في المهرجان الشعرية التي كان ينظمها الحزب الشيوعي والنوادي الثقافية في قرانا، لقد بدأ يلمع اسم محمود درويش في نجومية الشعر وكشاعر مطلوب جماهيرية منذ اواسط الخمسينيات في عز اوج ارتفاع موجة حركة التحرر القومي الوطنية العربية والعالمية. اذكر انه في كفر ياسيف، في "النادي الثقافي" الذي كان الشخصية الوطنية الكفرياسيفية خالد الذكر حنا دلة ابو خالد مسؤولا عنه، كان ينظم كل عدة اشهر مهرجانا شعريا يستقطب الشعراء الشيوعيين والتقدميين من مختلف انحاء البلاد، الذين كانوا يتجاوزون عقوبات تصاريح الحكم العسكري السماح لهم بالمشاركة، وبعضهم كان في السجل الاسود محاكم العسكرية واسمه في خانة من المغضوب عليهم". اذكر عندما كنت في الصف السادس ابتدائي، شاركت في المهرجان الشعري الذي عقد في النادي الثقافي في آذار الخمسينات على ما اذكر وشارك فيه من الشعراء عصام العباسي وحنا ابراهيم وراشد حسين وكريم عوض والطالبان الشاعران محمود درويش وسالم جبران. وفي هذا المهرجان الهب محمود درويش بقصيدته "سجل انا عربي" حماس الجمهور الوافد عبأته ليس من كفر ياسيف فحسب، بل من جديدة والمكر وابو سنان ودنون ويركا ومعليا وترشيحا والبقيعة ودير الاسد والبعنة ونحف والرامة ومجد الكروم. فقصيدة انا عربي قيلت في وقت تصعيد مقاومة جماهيرنا بقيادة الحزب الشيوعي لمشاريع مصادرة الاراضي العربية وبضمنها المحاجر، خاصة في منطقة الجليل وحصرا في الشاغور، قصيدة تتحدى السياسة العنصرية وتعبر عن اصرار جماهيرنا على مقاومة السلطات الترحيل والتمييز وقطع لقمة عيشه العربي، وان لا خيار للعربي وبدعم قوى دمقراطية يهودية سوى طريق الكفاح المنظم، طريق وحدة الصف الوطنية الكفاحية الذي يتبناه ويمارسه الحزب الشيوعي واصدقاؤه من الوطنيين الصادقين، فالمهرجان الشعري كان في مرحلة من مراحل تطور شعبنا بعد النكبة، بعد ان اصبح ما تبقى من اقلية عربية فلسطينية قتل "الايتام على مائدة اللئام"، كانت هذه المهرجانات، خاصة في المرحلة من اواسط الخمسينيات حتى اواسط الستينيات شكلا من اشكال النضال الجماعي المنظم الذي يقدمه الشيوعيين ضد السياسة الارهابية والاجرامية التي مارستها السلطة واذرعها من الحكام العسكريين في ظل فرض انظمة الطوارئ العسكرية يهدف انهاء مخطط ترحيل ما تبقى من عرب فلسطين الى مواطن اللجوء القسري خارج وطنهم او في "اطقع" الحالات الصهيونية تدجين البقية الباقية في وطنها في حظيرة العدمية القومية، ممارسة التمييز القومي والمدني ضدهم وتحويل مناطقهم في المثلث والجليل والنقب والمدن المحتلة (الاحياء العربية) الى ما يشبه معسكرات الاعتقال المحكومة بارهاب وتصاريح الحكام العسكريين التي تحدد حركة العرب، فشل عمليا حركة العرب في مدنهم وقراهم ووطنهم. وقد عانى محمود درويش ايضا مثل رفاقه الشيوعيين من ارهاب الحكم العسكري وفرض الاقامة الجبرية عليه في حيفا ومنعه من التنقل بهدف تجويعه ومحاربته نفسانيا لكسر شوكته النضالية، وارادة محمود الصوانية كانت اقوى من طغيان وضغوطات المجرمين.
اعتبر نفسي وابناء جيلي من المحظوظين الذين نشأوا وتربوا وكبروا في بيئة كفاحية صحية كان فيها السباحة ضد التيار والتضحية ومواجهة مختلف اشكال الصعاب متعة كبيرة ورضا عن النفس، مسلسل الفضل الاكبر الذي ساهم في شحن النفس الثوري الكفاحي دفاعا عن الحقوق الوطنية والانسانية لدى الاجيال الصاعدة والجماهير الشعبية يعود الى الحزب الشيوعي والى الكوكبة المميزة من قادته السياسيين ولادباء من شعراء وكتاب والفنانين وكوادر "الجنود المجهولين" قوة العطاء الاساسية، نعتز ونفتخر ان اهم شعراء وكتاب وادباء جماهيرنا الذين تصدروا قائمة الابداع كانوا خريجي جامعة الحزب الشيوعي وكلياته لنشر الوعي القومي الوطني والاممي والثقافي وخاصة في "الاتحاد" و"الجديد" و"الغد". نعتز بان فارس فرسان الشعراء محمود درويش كان عضوا في الحزب الشيوعي ومحررا بارزا في الاتحاد والجديد، كما نعتز بشاعر فلسطين الكبير سميح القاسم انه خريج الحزب والاتحاد والجديد كما نعتز بمؤرخ القضية الفلسطينية القائد الشيوعي والوطني الفلسطيني اميل توما الذي اثرى طريق النضال والاجيال الصاعدة بمؤلفاته العلمية الوطنية الهامة. نعتز بكاتب فلسطين الاغنى عن التعريف الاديب محمد علي طه والشاعر المبدع سالم جبران والكاتب محمد نفاع ومحمد خاص وحسين مهنا ونايف سليم وسميح صباغ والقادة السياسيين وعلى رأسهم اطال الله في عمره القائد الشيوعي توفيق طوبي والمرحوم توفيق زياد واميل توما، ولا ننسى الفنانين والممثلين والموسيقيين امثال محمد بكري وامل مرقس وريم بنا وغيرهم.
لقد فاجأتنا يا شاعر الانسانية التواقة الى الحرية والسعادة بغيابك الجسدي المفاجئ، فقبل حوالي شهر عقد في قاعة "بيت الصداقة" في الناصرة اجتماع خاص شمل هيئة تحرير "الاتحاد" وادارتها ومراسليها وقادة المناطق والسكرتير العام للحزب الرفيق الكاتب محمد نفاع، ومن ضمن اجندة البحث كان الاعداد لاحتفال جماهيري سياسي فني حاشد بمرور خمسة وستين عاما على صدور "الاتحاد" الذي يصادف في الرابع عشر من ايار الفين وتسعة. ونقلت للمشاركين وعد الشاعر محمود درويش الذي لا يسري عليه قانون التقادم ومرور الزمن تماما مثل قضية محمود وشعبه الفلسطيني. فقبل حوالي اربع سنوات على ما اذكر قمنا الرفاق الامين العام محمد نفاع ومسؤول ادارة "الاتحاد" عمر السعدي ونائب رئيس تحرير الاتحاد في حينه انطوان شلحت وكاتب هذه السطور رئيس تحرير الاتحاد، قمنا بزيارة خالد الذكر محمود درويش في مكتبه في رام الله، كان الهدف من الزيارة ان يشرفنا الشاعر الكبير بالمشاركة في مهرجان شعبي سياسي فني يعقد في احد متنزهات الجليل بمناسبة مرور واحد وستين عاما على صدور الاتحاد استقبلنا محمود بحميمية وبترحاب، وقال "لا حاجة لان اشرح لكم مدى معزتي وتقديري لصحيفة تعتبر جزءا عضويا من تاريخي، من بيتي العائلي، تشرفني المشاركة، سأرسل هذه المرة تحية بهذه المناسبة، الا تعتقدون انه من الافضل للاتحاد ولي ان اشارك في مناسبة "عدد مدور 65 او سبعين سنة"! قال له عمر سعيد، "سنعتبر ما قلته وعدا عليك، وعد الحر دين عليه، والبرواني ابن بلدك شاهد ملكي" اجابه محمود، نعم هذا دين علي وابن بلدنا بعرف انه "كثير وقشة" سياسيا منذ دراسته الابتدائية ولكنني يومها اتعلم في ثانوية كفر ياسيف.
لم وين يحالفنا الحظ بمشاركة محمود درويش جسديا احتفال الاتحاد، ولكنه لن يكون ابدا غائبا وسيكون وجوده المشارك لافتا للانظار.
لقد شاءت الصدف انه عندما ارسل الحزب الشيوعي الشاعر محمود درويش للدراسة الفكرية في المدن الحزبي "الكلية الاجتماعية" التي يكتب عنها رفيقنا العزيز توفيق كناعنة، اثناء معدله سنة السبعين مع الرفيقين غازي شبيطة ويوسف الغازي كنت طالبا في الاتحاد السوفييتي وشاركت في استبقالهم في موسكو، وبعد عدة اشهر وجهت له دعوة بصفتي سكرتير الفرع الطلابي في ليننغراد لاحياء امسية تضامن مع الشعب الفلسطيني في مركز ليننغراد الثقافي، وقد لبى الدعوة في وقت آخر بحضوره مع زميله شاعر فلسطين المعروف معين بسيسو، كانت ندوة لا يمكن ان تمحى من الذاكرة، خاصة وانها كانت ندوة فراق والى لقاء قريب، اذ غادر محمود موسكو متوجها الى دار الغربة، استمعنا الى تصريحه الاول في الغربة بتأكيده "غيرت موقعي ولكني لم اغير موقفي"، وقد اثبتت ثمانية وثلاثين عاما منذ انتقاله وتنقله حاملا قضيته كالبدوي "بيتي على ظهري على، ان محمود كان صادقا وامينا في تجسيد مقولته المذكورة. فقد اثبت للعالم كله عن معدنه الاصيل وطنيا، لم يغير موقفه كشاعر وطني يساري ملتزم بقضايا شعبه الوطنية، ولهذا لم يكن من وليد الصدفة ان يختار محمود وينتخب الى اعلى مسؤولية فلسطينية كعضو في منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولا عن الملف الثقافي، وان يتسلم مسؤوليات وطنية متعددة في مركز الابحاث وفصلية الكرمل وبغيرها، عمره ما دافش على منصة او مسؤولية، بل العكس هو الصحيح. واعترافا بدرجة وعيه السياسي الوطني سلم المجلس الوطني الفلسطيني الامانة بكتابه وثيقة الاستقلال الفلسطيني التي قدمت في دورة الجزائر سنة الثمانية والثمانين من القرن الماضي، سلمت الامانة الى محمود درويش ليكتب وثيقة الاستقلال الفلسطيني.
اصالته الوطنية عكست بصماتها وآثارها على الاصالة الابداعية الشعرية، فمحمود درويش ليس شاعرا فلسطينيا فحسب، بل في نفس الوقت رسول القضية الفلسطينية واحد ابرز الشعراء العالميين المعاصرين.
امثالك يا محمود لا يموتون بل تبقى مخلدا في اطار وطرق الاجيال الصاعدة، لأهلك وذويك ورفاق دربك واهل بلدك ولشعبنا الصبر والسلوان، ولتبق ذكراك عطرة في عطر شعبنا.
د. احمد سعد
الأثنين 11/8/2008