ليلة ثلج، ليلة محمود



ومَن غير قراءة اليوميات والرسائل يصلح لردم فراغات الظلام والصمت، بالذات في هذه الليلة البيضاء الـمتمادية في ضلالاتها العاشقة؟ فقط محمود درويش في (أثر فراشته). من يستحق أن أهديه كل هذا الجلال في طريقة سقوط الوحش الأبيض، والليل الصامت بخبث الأطفال؟ ثمّةَ في الخارج وحش أخرس يفضفض جسدَه سقوطاً، ويمنح روحه معنى شائقاً ولذيذاً للانتحار، الكهرباء مقطوعة، البشر نيام، الساعة هي بعد منتصف الليل بقليل، يوميات محمود تلغي السكون، تراوده عن نفسها بهياجاتها الوجودية والإنسانية وعواصفها الـمكانية، توسّع من أفق اللحظات، تعمّق الإحساس بالزمن وتعطي للأمكنة دلالات مفاجئة، وتقطع صِلاتنا مع العابر، سيخيب ظنّ الكثيرين ممّن يتلهفون إلى معرفة سيرة الرجل؛ لأن محمود لـم يكتب لنا يوميات تقليديةً تترك لنا ممرات وطرقاً مجانيةً للوصول إلى حياته الشخصية بسهولة. أقترح على خائبي الظن أن يجربوا جماليات اليوميات الشعرية، جماليات تضع أمامنا بعض جوانب السيرة ممهورةً برؤيا شعرية وجودية، محمود خلط ببراعة مدهشة بين الشعر واليومي، كان يخدعنا بشكل جمالي وهو يوهمنا بأنه يكتب يومه وأحاسيسه وأمكنته الحقيقية، ثم يتركنا وسط الطريق معلّقين على حبل نحيل لا نعرف ماذا نفعل، هل نواصل الـمشي نحو مجهوله الشعري أم نعود إلى يومه وحقائقه؟!!.

 

هنا متعة قراءة أثر الفراشة: في الحيرة والتوقفات والارتباكات الـمستفهمة والتلفّع بضباب الصور، شخصياً أحب هذا النوع الخادع من اليوميات؛ لأنه يخضّ ذهني خضاً عنيفاً لكنه محب وغني، يورطني في اشتباك ساحر مع غير الـمتوقّع، يسلّط على روحي ضوءاً كاشفاً سماوياً مبهراً، هو ضوء أفولي وخلودي معاً، فراشيّتي ونِسريّتي، فأنكشف أمام نفسي، أعرفها جيداً. أحبني أو أكرهني.
تحت اللحاف الثقيل، أمامي شمعة، أمارس لغز وروعة البقاء على قيد الحياة بكامل ثراء وتنوّع الليلة، البرد شديد خارج سريري، كم أحب أن ألعب مع البرد، أختبره، أتحسس فروه الصقيعيّ، بطريقة طفولية حلوة، كنت أخرج رأس إصبع قدمي الكبيرة من تحت اللحاف لأتحرّش بالشتاء، أناجيه وأستفزّه، أناغيه أو أسخر من زوجته العتمة، وحين أحسّ أو حين أرغب أن أحسّ أن ثمة من سينقضّ على قدمي لإخراجي من جزيرة لحافي الدافئ؛ كنت أسحبها، وأهرب بها إلى فردوس اللحاف. هكذا هو شعر يوميات درويش، لحاف قطني هائل الإخلاص والـمودة، يحمينا من برد وظلام الغرف ويعطينا الإشارة لنسحب أصابع أقدامنا في الوقت الـمناسب، حتى عشاءاتنا تصبح خفيفةً حين نهم بقراءته، ويحول الوحش الأبيض إلى خلفية موسيقية ويجعلنا نهاتف الأصدقاء نتقاسم معهم أنخاب التساؤل والاستغرابات والحنين. قلت لغسان زقطان صائحاً: يا غسان: بدأت أمارس الغواية مع فراشة محمود على إيقاع الأبيض الصامت الضخم، فقال: إنه حزين؛ لأنه نسي الفراشة، في كوبر لو كنت أعرف أن الليل سيكون هكذا لأحضرتها معي إلى رام الله.
كانت "سيدة دبي" قد وعدتني أن ترسل إليّ عبر (أرامكس) نسختين من فراشة محمود، نسخة لي والأخرى لـمحمود، وكنت معها أتمنى ألاّ تصل نسخ محمود التي سترسل إليه عبر دار النشر؛ حتى يفاجأ بامرأة فائقة الحب تهديه نفسه. لكن الأمنية لـم تتحقق؛ ومع ذلك فرح محمود لكتابه وهو يُهدى إليه، "أُهديك محمود". كتبت السيدة لـمحمود.
إلى متى سأبقى سجين علاقات الحب الغريبة والـمزمنة مع يوميات الأدباء ورسائلهم، أحب التلصص على هموم الأدباء الصغيرة، تفكيك وتأمل تفاصيل أمكنتهم وتقلباتهم وحنينهم وحزنهم. لـماذا لا يكتب الأدباء الفلسطينيون يومياتهم؟ لـماذا لا يتراسلون وينشرون مراسلاتهم كتباً؟ أحسّ بأن أدب اليوميات والرسائل سيكون هو فن الـمستقبل، هل سيحل محل الرواية والقصة؟ مهلاً، لا تغضبوا، هو مجرد إحساس. حين كان الـمحتلون يمنعون التجوال في الـمخيم، كنت ألوذ بيوميات سيمون ديبوفوار، أهرب إلى
هناك، أركض خلفها في طرقات الجنون والعزلة والنصوص، أسير خلف طفولتها الـمتحمسة، وأزور معها مدن العالـم، أسترق النظر إلى علاقتها الـمذهلة مع سارتر، علاقتها التنويرية مع جسدها، دفاعها الفطري والـمستميت عن حق الـمرأة في الحياة
الكريمة دون أن تلجأ إلى أساليب التنظير النسوي الـممجوجة والـمملة والـمتوترة.
في أيام الهجوم على رام الله شتاء 2002 كنت أختبئ في غرفة ضيقة جداً تشبه مخزناً مع صديقيّ العزيزين لورنس داريل وهنري ميللر، كانا في زيارة رام الله لتوقيع كتاب رسائلهما الـمشتركة، حين بدأ الهجوم ركضا مع الـمئات ووجدا نفسيهما على
باب غرفتي، السفارة الأميركية أبلغت الاحتلال بوجود الروائيين في رام الله، لكن الاحتلال لـم يكترث، لورنس وميللر أخذاني من أرض الـموت الـمريض والقتل السهل إلى سماء الصداقات الجميلة، الفقر والتشرد والحكايات الـمضحكة الـمبكية، اليونان وأناييس نن، وعملاق ماروسي، وجون سميث، وبروكلين، والعمة البلهاء، والكتابة الـمفارقة والنقاشات الفكرية والأدبية العذبة والنساء الـمشطورات، والـمعذبات والـمبدعات.
الآن أنا في طريقي إلى مبنى السكاكيني، ثمة لقاء حميم سيحدث بعد قليل بين لورنس ومحمود وهنري، أمّا سيمون فقد اعتذرت عن اللقاء؛ فلها موعد عاطفي مع سارتر!!!.


zkhadash1@gmail.com

زياد خداش
الأحد 10/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع