أساطير الشرق ومآسيه القديمة، قراءة في كتاب (التراجيدي) لعبد الرحمن العابو



العودة إلى منابع التراث تقود الباحث إلى تلمس جذور المفاهيم وأصول الطقوس وطرائق النظر، وحضارة بلاد الرافدين بأساطيرها وملامحها وما جسدته من تشكيلات فنية ووعي جمالي تقدم رؤية واضحة لمفهوم المأساة، وطقوسها وتجلياتها التي لازمت شعوب هذه المنطقة منذ البدء حتى يومنا هذا.
وكتاب (التراجيدي في أساطير الشرق القديم) الصادر عن دار نون 4 بحلب عام 2008، هو بحث علمي منهجي تناول مفهوم المأساة وتتبع العلائق بين الأسطورة والملحمة وموقع التراجيديا فيهما، واستند إلى مصادر ونصوص ودراسات سابقة أغنت البحث وحللت ظاهرة التراجيديا ومواضعها في تراث الشرق.
تساءل الباحث في المقدمة عن وجود مفهوم التراجيديا وحضوره في أساطير الشرق وملاحمه، وأكد أنه كان حاضراً في وعي إنسان بلاد الرافدين، ورأى أن الظاهرة التراجيدية هي محاولة إنسانية غايتها تعميق الإحساس بالحياة، والحلم بحياة أجمل، والتكيف والتطهر في لحظات الصراع الدرامي المحتدم.
وعرف الباحث مفهوم التراجيديا لدى أرسطو، وعناصرها من حبكة وشخوص وأفكار وموقف مسرحي وبنية موسيقية، وأهميتها تكمن في تقديم العزاء للبشر عند إحساسهم الخادع بالعظمة، ووازن بين رؤية القدماء والمحدثين للمفهوم التراجيدي. ورأى أن كُتاَّب التراجيديا المعاصرين أكدوا قدرة الإنسان على محاولة الإفلات من مظاهر الجبر والاستلاب، وجعلوا شخصية البطل من الناس العاديين بعد أن احتكرها الآلهة وعلية القوم طويلاً.
ورأى الباحث أن الأسطورة الشرقية نشأت استجابة لحاجات مادية وموضوعية طبيعية ملحة. وهي تعلمنا أن نتوجه إلى داخلنا ونجسد تجربتنا الإنسانية. ص 35.
ضم البحث ثلاثة فصول، تناول الأول التراجيدي في أساطير الخلق والتكوين:
أسطورة أبسو وتيامت وأولادهما والصراعات التي قامت بينهم، وأسطورة أنزو الذي سرق ألواح القدر وأسرار الحكمة، وأسطورة ولادة الآلهة وأدوار كل منها.
وتناول الفصل الثاني التراجيدي في أساطير البعث والموت: أسطورة إنانا ودموزي، ونزول الأخت إلى العالم الأسفل لتفتدي أخاها وتعيده إلى الحياة. ص 82.
فالموت هو الحدث التراجيدي المؤلم والغامض، إذ ترك إنسان بلاد الرافدين في قلق دائم، بينما تعود الآلهة إلى الحياة مرة بعد أخرى، لا يقدر الإنسان على مجاراتها في ذلك، ومن هنا احتفى الإنسان القديم بالحياة:
يا بن الملوك يا أخي يا ذا الوجه الجميل
لقد أنقذت حياتك خارج أسوار المدينة
ولكن ها أنت ذا قد أصبحت
هدفاً لمصير في منتهى القسوة. ص 94.
كما تستطيع الآلهة التحول من حال إلى حال، وسجلت أساطير البعث والموت أولى المحاولات للإفلات من الموت، وأشهر أبطالها الإله دموزي. وانتقلت أفكار الأسطورة إلى الديانات والحضارات اللاحقة. ومثلما خلَّص دموزي الناس من الفوضى والقحط والموت غدا لكل ديانة مخلص منقذ.
وتتبع الفصل الثالث التراجيدي في ملاحم الشرق القديم: ملحمة جلجامش وملحمة إيرا، فجلجامش يبكي صديقه أنكيدو الذي انتهى إلى مصير البشر ومات، مما جعله يهيم على وجهه ويطيل شعره ويلبس الجلد الخشن، ويرثي مدينة أوروك التي فقدت فتاها ص 133.


ولخص الباحث السمات المشتركة لأبطال الملاحم وهي: الشجاعة وتقبل الهزيمة، ومحاولة الهرب من الموت، وإن كان يسير إليه بثبات. كما أن المرأة لها حضور في الملاحم، فهي أم وزوجة حكيمة ومفسرة أحلام، وإن لم تكن شخصية محورية. وهذا الوعي المبكر للشرقيين بقيمة الحياة وجمالها، وبرهبة الموت وغموضه، دفعهم إلى البحث عن حياة أخرى، وإلى إطالة الحزن على الراحلين، حتى تحولت طقوس العبادة إلى مآتم حزينة تستعاد فيها لحظات الألم، ولا يبقى للفرح وتذوق الجمال أدنى اهتمام.
وإضافة البحث المهمة أنه ربط بين قيمة الأساطير والملاحم وما قدمته من مادة غنية للمسرح والفنون والأجناس الأدبية كلها، وما تضمنته نصوصها الغنائية ولغتها الرشيقة المنسابة من عزاء لعذابات الشرقيين وهزائمهم وانكساراتهم.

خليل البيطار
السبت 9/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع