بئر التل.. ربما قصة!



 أقول: ربما قصة لأنها حكاية تشابه الكذب، فيها من المصادفات ما يجعل العقل البشري يكاد لا يستوعبها. أقول: ربما قصة لأنها لا تعتمد على فن القص بحسب النقاد.. فهي تميل إلى السرد التاريخي وتعتمد على الغوص في الأرشيف الشخصي والعائلي الايجابي. الأرض مؤنثة في اللغة العربية والخصوبة أيضا مؤنثة، فالأرض تلقح وتنجب وتدور دورات أشبه بدورات المرأة.. وفصول الطبيعة كفصول النساء... بتقلباتهن وحملهن وخصوبتهن وجفافهن. في الشتاء تضحك الينابيع وتفيض الغدران وتسقي الزرع والضرع والإنسان... أما في الأماكن التي يتعذر ذلك فقد اعتاد البشر على حفر الآبار الارتوازية وحين لا ينفجر الماء يحفرون آبار الجمع.. خصوصا في أماكن السكن.. ففي موسم والخريف والشتاء وأوائل الربيع تظل المزاريب تشقع في الآبار وتكفي أصحابها طوال العام وتقيهم من الجفاف وحر الصيف.
وقصة البئر والتل تبدأ في 25.12.1937 حين تم حفر هذه البئر في الصخر وتمت قصارته وتم إعداد الصحن ذي الميلان نحو فتحة البئر. كان ذلك في موقع لنا يدعى تل الفار في موارس يافة الناصرة..والفار هنا من الفرار.. وبدأ المرحوم والدي بزراعة بستان فيه التفاح الشامي والأجاص البلدي وبعض الحمضيات كما فيه بعض الخضر مثل الكوسا والباذنجان والخيار البلدي.. ومن أجل التلقيح الطبيعي للأشجار المثمرة بدأ والدي بتربية النحل في أجران خشبية كانت تفيض بالعسل حتى وصل إنتاجها سنة 1948 إلى ستين تنكة، نأخذ حاجتنا منها ونبيع الفائض. وكان لي أخوان اثنان يهتمان بهذا المشروع القائم على خمسة عشر دونمًا.. الكبير منهما (سامي) للرئاسة والأصغر منه (حسني) للسياسة. فكان الأخير صاحب الخبرة الزراعية اكتسبها من جيراننا العرب ومن صديقنا قمحي من كفار جدعون- كيدون كما يسمى- وهو من أصل روماني كما أذكر هاجر إلى البلاد في سنوات العشرين. كان أخي هذا يشُد الفلحة على بغلين أستراليين من الحجم الكبير لونهما كلون القهوة المحروقة، يساعده في ذلك أبو شحادة ومروّح من يافة... يساعدانه في الفلاحة بقسائمنا المحاذية للتل الصغير (البستان) في مواقع التل الكبير والمارس الشمالي والزعارير. في سنة 1942 قبل أن أولد بسنة مرّت التسوية على المرج فانتقى كل مالك جاره، انتقى أخي سامي أحد أصدقائه- عرسان المسعود (الخطيب)- فكانت قسائمنا ملاصقة لقسائمه! وهكذا كان وما زال الوضع.. حيث تمر ملكية الأرض من الأجداد والآباء إلى الأولاد والأحفاد. أما كيف وصلت الأرض وآلت إلى والدي فأغلب الظن أنه امتلكها من كدّه لأن إخوته وباقي أفراد العائلة كانوا يملكون في نواحٍ أخرى مثل دبورية واكسال واندور والرينة ووادي البيرة. أما ملك والدي فكان بعيدا عنهم في المرج في موارس يافة ووعر يافة وعين ماهل. وأما لماذا ابتعد عن جماعته فلست أدري ما السبب. ربما كان ذلك من باب (إلعب وحدك تيجي راضي)، هذا على الرغم من أنه لم يكن منعزلا أو معزولا عن جماعته. في أيام العثمانيين سكن الناصرة وفي أيام الإنجليز سكن جنين حيث عمل في العهد الأول كمستنطق وبالتالي مدير مال جنين. وكان مستور الحال متوسطه بالنسبة لأشقائه. ففي الوقت الذي كان يملك فيه أخوه الكبير عشرة آلاف دونم كان هو يملك خمسمائة تقريبا. مع مرور الزمن تفتتت الملكية من جهة وصودرت الأرض من الأخرى... لكن مع كل هذا التفتت وتلك المصادرة أورثنا والدي مساحة لا بأس بها من هذه الأرض ولم يورث عمي أولاده وأحفاده غير بعض الشواقل "تعويضا" عن المصادرات المتلاحقة!
وهكذا نحن نعتبر اليوم من الملاّكين نسبيًّا.. نفلح ما يقارب الثلاثمائة دونم في مرج ابن عامر في موارس يافة. وكانت هذه الموارس مصادرة منذ عام النكبة وحتى 1959.. بعد أن رفعنا قضية بواسطة المحامي حنا نقارة.. وكانت النتيجة أن دائرة أراضي اسرائيل قاسمتنا الملك، فاقتطعت حصة ثلاثة إخوة لي من لاجئي العام ثمانية وأربعين في عداد الأموال المتروكة، وسلمونا الباقي بعد أحد عشر عاما.. خلالها كانت الأرض لنا ولكننا ممنوعون من الدخول إليها بسبب نظام تصاريح الحكم العسكري- بمعنى أن الأرض لك وتصريح ما في وازرعها إذا كنت زلمة! كان كيبوتس المزرعة يفلح أرضنا هذه ونحن نتفرّج من بعيد! واليوم تراني أجد نسخة من كتاب كان قد أرسله المحامي نقارة بتاريخ 31.12.1959 إلى مراقب أموال الغائبين المحترم يقول فيه:
"تحية فائقة وبعد، أشير إلى كتابي إليكم المؤرخ في 19.11.1959 بخصوص الموضوع المذكور أعلاه وأود أن أذكركم أنني حتى اليوم لم أستلم أي جواب عليه.
أرجو باسم موكليّ محاسبتي على المبالغ التي دخلت عليكم من الأملاك المذكورة من سنة 1948 حتى سنة 1958 ودفعها في أقرب وقت ممكن.
وختاما تفضلوا بقبول فائق الاحترام.
المخلص
المحامي حنا نقارة"

 

ومن يومها إذا كان أبي في القبر قبض نحن قبضنا. أكثر من ذلك ولنعد قليلا إلى الوراء.. في سنة 1948 أعلن عن المنطقة أنها عسكرية. تم تخريب الشجر وقلعه من جذوره وهدمت البراكية التي كانت تأوي الدواب وامتدادها الذي كان يأوي الآدميين كما وتم تخريب البئر والران المحاذي له الذي كان لسقاية الدواب.
لكننا مع كل هذا وذاك فرحنا وكاد أخي الفلاح الذي أصبح تاجر حبوب أن يرقص طربا لأنه في تلك السنة 1959 كان قد أكلها سخنة. خزّن في الحاصل الواقع تحت بيتنا في الناصرة سمسما، واستهلك كل رأس ماله في ذلك، لكن الحكومة استوردت كميات هائلة من السمسم من تركيا فهبط سعره وباعه بخسارة فادحة، ولولا أن استعدنا قسما من الأرض لافتضح أمر أهل البيت وقد كان هو المعيل الوحيد! سبحان الله.. يضرب بيد ويتلقّي بالأخرى... بدأ يفلح ما تبقى من الأرض ويتعكّز على التجارة ولا يجرؤ على المغامرة فيها. وعشنا مستورين حتى تخرجت من الجامعة فازداد سترنا. وعلى الأقل لم آخذ مصروفي منه!
مات أخي وقبل ذلك كان قد أوصاني بالأرض وبإدارتها أو ما تبقى منها. في هذه السنة 2008 قلت في نفسي لماذا لا أرمم البئر؟ وكنت قبل ذلك بثماني عشرة سنة قد قدمت طلب انتساب لجمعية البشرى لمياه الري في يافة الناصرة وحصلت على سهم في 24/9/1990 بعد دفع خمسة آلاف شاقل عدا ونقدا أي ما يوازي ربع المنتوج السنوي من الفلحة البعلية.
لماذا أكتب هذه التفاصيل؟ أعتقد أنها مهمة للجيل القادم.. القادم من سلالتنا ومن سلالة  الذين عملوا في البئر والتل. بعد الدعوى تقرر في 14.5.1959 أن لمحكمة الصلح في الناصرة صلاحية النظر فيها بصفتها دعوى نزع يد، وان الوكالة التي أعطاها المرحوم والدي المتوفى في سنة 1954 لعمي وخالي غير باطلة... أما مسألة حصص الغائبين فيمكن إثارتها لدى القيّم على أملاك الغائبين في المحكمة المركزية في الناصرة. لم يستطع أخي المتابعة نتيجة لضغط الواقع... ولم نحرر حصص الأموال المتروكة وكان مثله في ذلك كمثل الجارية التي باعها صاحبها فقالت محتارة: "عليش سيدي باعني؟ هوّي كرهني ويلا احتاج الدراهم؟!"، حتما أخي لم يكرهها إنما احتاج الدراهم فلم يصل إلى آخر الشوط مع الأموال المتروكة في مشكلة الوكالة الدورية!
الحق أقول لكم أنني أعذره.. فقد عانى في حينه من شظف العيش والملاحقة كما عانى باقي شعبنا الفلسطيني في البلاد، وكان كلما قال تفرج حتى تتعقد أكثر... حتى جاء الفرج بنصف الحل... وشاركتنا "دائرة الأموال المتروكة" وأصبحت أحد الورثة! لقد كان منطق أخي يتلخص في مقولة: "عصفور باليد ولا عشرة على الشجرة". هكذا كانوا يفكرون في تلك السنوات(!) في بداية ستينيات القرن الماضي.
إن عملية الاسترجاع هذه ليست عملية تطهير وحسب إنما فيها شيء من التاريخ الشخصي والذي فيه الكثير من العام.. بمعنى قس على ذلك! هي رواية خاصة وعامة في الوقت ذاته. إنني بحاجة إلى الكتابة حتى لا أجن! أو على أقل تقدير حتى لا أفقد أعصابي. ربما يكون تفريغ في ذلك أو نوع من أنواع العلاج النفسي. ولا بأس في ذلك. إنني أكتب لجهاد ولمروان الباقيين من سلالة شقيقتنا "الأموال المتروكة"- وهما أولاد أخوي. أكتب لإبراهيم حفيد والدي إبراهيم الفاهوم من أخي الثالث من سلالة "الأموال المتروكة" أيضا. أكتب لولدي خالد وذياب ولابنتي الوحيدة خلود... لكي يحافظوا من بعدي على ما تبقى لنا.
يبحث أخي وصديقي إيلان بابي- الذي لم تلده أمي- في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (ترجمه احمد خليفة، إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية- بيروت، لبنان ط1، تموز 2007) عن جذور هذا التطهير العرقي و نتائجه المدمرة للشعب العربي الفلسطيني وعن الشعوذات القانونية التي انتهجتها حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ عام النكبة ومن بعد.. بفرضها سياسة الأمر الواقع وخلق الحقائق المفروضة قسرا وتدمير البيوت وهدم القرى وتهجير سكانها كي "لا يرغم احد إسرائيل على السماح لملاكها الفلسطينيين بالعودة إليها".. وكان الهدف هو التدمير والمصادرة والتشريد. (ص241). ويتابع ايلان، "كل ما نحتاج إليه" أعلن رئيس دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي، "هو 400 جرار زراعي، و يستطيع كل جرار أن يحرث 3000 دونم- يحرثها لا من اجل الحصول على غذاء فحسب، بل أيضا من اجل منع أي شخص من العودة إلى أراضيه. أما الأراضي الأقل جودة فيجب أن تباع للقطاع الخاص أو العام". (ص 241).
هل أقول أننا انتصرنا في تحرير جزء من الأرض المصادرة؟ هل رقص أخي حسني طربا كان في محله؟ هل المصيبة تتجزأ... فتكون نصف أو ربع أو خمس مصيبة كما هو الواقع بالنسبة لنا كعائلة نووية... لان "الأموال المتروكة" لطشت منا خمس الأراضي حصة الغائب!
انظر الآن إلى الوراء ويعن على بالي البكاء. وهل ينفع البكاء؟ قلت في نفسي: عليك أن تصمد... أكثر من ذلك عليك أن ترمم البئر، عليك أن تعيد البستان كما كان وأكثر.. كي لا يلعنك أبناؤك وأحفادك. عليك أن تدفن هناك في قمة التل تحت الزيتونة اليتيمة. تلك الزيتونة التي زرعت قبل أكثر من مائة وعشرين عامًا وكادت تموت من اليتم لولا أن زرع جيراننا دار الشايب رفيقات لها، فغارت منهن وأورقت من جديد. وتلك كانت الشجرة الوحيدة التي نجت من الدمار عام النكبة. قلت في نفسي أيضا: أنت لا تصنع التاريخ إنما تعيد ترميمه.. وبذلك ترمم ذاتك وعائلتك، فأنت والشجرة والبئر سواء. هل في تلك العملية المكلفة أنا.. أنت تقف أمام حقيقة أن التاريخ يكرر نفسه؟ لكني سأظل ابني وأرمم وهم يأتون ويدمرون سأظل اكرر حتى لو كنت وحيدا... حتى لو قتلت... فذلك البستان يستحق أن أموت أو أفنى فيه ومن أجله!
في تموز 2008 قلت: لا بد مما ليس منه بد. تعاقدت مع توفيق بسيوني (على البركة) فاخذ على عاتقه ترميم البئر. كان مهجورا لمدة ستين سنة. منذ نكبتنا كانت نكبته. جاء الحاوي أو مهووس الأفاعي جوني عاقلة.. اخرج منه ثلاث أفاعٍ، اضطر لقتل اثنتين منها بالإضافة إلى أم أربعة وأربعين هائلة. أخرجنا تراب الطم وكان على ارتفاع متر، لم نجد عظما آدميا.. لقد سرت شائعة في حينه أن المتعاونين كانوا يقبضون على المتسللين.. يقتلونهم، يقطعون لهم آذانهم، يلقونهم في هذه البئر ويقبضون من الحاكم العسكري وزبانيته على كل زوج أذنين. تلك الشائعة كانت حقيقة تاريخية وأسماء أولائك العملاء معروفة، لكن لم تستعمل هذه البئر لذلك الغرض. وجدنا دلو البئر متآكلا حتى النصف، وجدنا قطع حديد لأدوات زراعية و أجزاء مضخة وحذوة حصان على الأغلب أنها كانت لأحد البغلين الاستراليين الضخمين اللذين كان لونهما كلون القهوة المحروقة. وبعد.. فكانت المفاجأة عندما وجد توفيق حجرا من الاسمنت.. أخرجه ونظفه وإذا عليه تاريخ وكتابة تقول: "25.12.1937،  شغل سعيد وحسين". ذهل توفيق وذهلت معه. سعيد وحسين هما أخوان من عائلة الحمدان.. احدهما جد توفيق لوالدته. تأكدت هنا أن التاريخ يعيد نفسه. الجد يحفر البئر في الصخر ويأتي الحفيد بعد واحد وسبعين سنة ليرممها. كان يقف بجانبه ويساعده ولدي ذياب الذي هو حفيد والدي.. فهل هذه مصادفة أم أننا نحن الذين نصنع التاريخ؟

وليد الفاهوم
السبت 9/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع