* فإن كانت "حماس" حققت، خارجيًا، خطوات للأمام على سبيل اعتلاء سكّة سياسية وليس البقاء في فلك الشعارات الضبابية، نراها تنكفئ للوراء داخليًا في خضمّ رقصة الموت بينها وبين فتح *
* كتب شلومو بن عامي في مقالة (أواخر تموز) أن سياسة بوش الخارجية فشلت "فشلا ذريعًا" لأنها قامت على تصوّر خاطئ مفاده أن "محور الشر هو ائتلاف لدول مجنونة، اهتمامها كله منصب على زرع الشر حولها". *
بات يتفق كثيرون على أن المشروع الأمريكي الموجّه ضد المنطقة، بصيغته الراهنة، يحصد الفشل تلو الآخر. أو أنه على الأقل لم يحقق ما أراده واضعوه منه. العديد من القوى المناهضة والقضايا التي تمثّلها خرجت غانمة تبعًا لذلك، فيما عدا واحدة أساسية فقط.
يمكن إعادة سبب الانكفاء الأمريكي الى حقيقة أن القوى المناهضة للإمبريالية الأمريكية ومشاريعها أظهرت إرادة صلبة تجلّت بقدرة لافتة على الصمود وعلى تنظيم الأنفاس لاجتياز سباقات المسافات الطويلة. وكذلك، الى فشل جوهري في المشروع الأمريكي، بصيغته الشهيرة عن "حرب الخير ضد الشر". أولا لأن هناك الكثير من الماديّ والملموس خلف هذا التعبير الأخلاقوي الغيبي. الخير والشر هنا يغوصان معًا في حقل نفط محاط بالكثير من السلاح. ربما لو كان غيبلز النازي على قيد الحياة لاكتشف مجددًا خطأ مقولته "أكذب ثم أكذب."...
لقد جرت محاولات أمريكية حثيثة، بتواطؤ عرب رسميين، لجعل ذلك المحور حقيقة ناجزة تسيطر على العقول وتبلور الوعي العام لتمرير مشاريع هيمنة سياسية واقتصادية. كانت تقنيات الترهيب أشبه بحكايا الغيلان والأشباح التي يخوّفون الأطفال بها ضمن الأساليب التربوية غير المحبّذة. أما الآن، فقد وصل الأمر درجة لم يعد فيه مجديًا حتى مواصلة الثرثرة حوله. وهناك نتائج سياسية حقيقية: الرئيس السوري خرج من قبو "محور الشر" مباشرة الى حفل استقبال رسمي تحت أضواء باريس؛ مجموعة من الدبلوماسيين الأمريكيين تستعد ربّما الآن للقيام بمهمة تمثيل واشنطن في طهران للمرة الأولى منذ أكثر من ربع قرن؛ حزب الله يتبادل اليوم وجهات النظر والاطراءات الدبلوماسية مع رئيس هيئة الأمم المتحدة لا أقلّ؛ حركة حماس الفلسطينية أنجزت تهدئة مع إسرائيل وتستعدّ لعقد وتطبيق عملية تبادل أسرى معها، رغم جميع الأحاديث/التكتيكات الاسرائيلية لرفض أي اتصال معها. بالمجمل، جميع محاولات إخراج المناهضين لإرادة البيت الأبيض من حيّزات الشرعية الدبلوماسية، تذهب مع نفس الرياح التي تأخذ معها جورج بوش وزمرته بعيدًا عن المنابر السياسية الأولى.
*إستنتاج أوّلي وملاحظة*
يصحّ التوقّع إنه لن يبقى قريبًا من عملية صناعة، تسويق، وفرض فكرة ذلك "المحور" إلا ما يشبه بقايا ملصقات دعائية ممزقة فوق الجدران لفيلم سينمائي مثير لكنه، ولشدة إثارته بالذات، ذو أجل قصير. لا يعني هذا أن صناعة هذا النوع من السينما ستتوقّف لكن آخر الأفلام وصل نهايته في صالات العرض. فلا بدّ أن هناك مموّلين يدرسون الآن سُبل إعادة إنتاج صيغة سياسية جديدة تُبقي على مصالحهم - وهذه الأخيرة لا يهمها بوش ولا غيره، لأن بوش نفسه وسيلة لها. أي أننا لن "نعاني" من فراغ أمريكي!
من هنا، على سبيل التلخيص المؤقّت، وجب أمران: الأول، الإستفادة من تجربة هذه السنوات الأخيرة التي انتهت الى فشل أمريكي رسمي محدود لكن مبارك، عبر تفعيل العقل وليس العواطف. والثاني، بناءً على الأول، عدم الإسهاب في احتفاليّات النصر ولربما لا بأس من اعتماد مضادّات عقلانية- واقعية للحدّ من الإفراط في نشوات النصر. مثلا: يجب الحذر من التوجّه نحو المستقبل القريب بناءً على أحلام يقظة إراديّة من نوع "قرب نهاية إسرائيل". نهاية أية دولة في العالم ليست مسألة عابرة، هذا تغيّر استراتيجي هائل. من يبني استراتيجيته على العواطف سيجد نفسه قريبًا في موقع الخاسر، فمهلاً. لا أحد يحتاج تلك الأجواء التي رافقت حزيران 1967 وما ترتّب عليها. من يهمل قراءة الواقع، سيجد الواقع يهمله بعد حين.
*بداية اعتراف اسرائيلي؟*
إسرائيليًا، كان لافتًا ما توصّل اليه أخيرًا مسؤول سياسي إسرائيلي كبير سابق، هو شلومو بن عامي الذي تولى وزارة الخارجية بين أواسط 1999 وحتى مطلع 2001. إذ كتب في مقالة (أواخر تموز) أن سياسة بوش الخارجية فشلت "فشلا ذريعًا" لأنها قامت على تصوّر خاطئ مفاده أن "محور الشر هو ائتلاف لدول مجنونة، اهتمامها كله منصب على زرع الشر حولها". وشدّد منتقدًا على أن ذلك الائتلاف "لا يعني استعمال التكتيكات الـمتطرفة الجنون بالضرورة. فسورية وايران غير معنيتين بأن تأخذا دور المعزولتين عن الجماعة الدولية. إن سياستهما تؤيد دفع الاهداف التي يمكن وضعها على مائدة التفاوض اكثر مما تريدان إشاعة الارهاب والثورة. وهما عالمتان جيدا بقيود تشجيع عدم الاستقرار، وتترقبان ادارة اميركية اكثر ودا تكون مستعدة لاجراء حوار معهما". هل يمثّل هذا الموقف إشارة أولى لعودة بعض الاسرائيليين من أبناء المؤسسة الى بعض الرشد؟ لا أقصد قيامهم بمراجعات اخلاقية، بل بقراءات واقعية ولو جزئيًا. حاليًا لا يزال من الصعب تقدير الشكل الذي سيقرّه مسؤولو المؤسسة الاسرائيلية للانسجام في هذا الواقع المتغيّر، خصوصًا أن الأنظمة العربية "المعتدلة" التي بنوا عليها تدخل أزمة هي بمثابة الارتداد العكسي لاتساع حيّز المناورة السياسية لدى "المتطرفين". (من نافلة القول إنه يجب الابتسام بسخرية في كل مرة نصطدم فيها بهذه الصياغة للتطرف والاعتدال!).
*لوقف الخسارة الفلسطينية*
وسط كل هذا هناك سؤال عن ذلك الطرف الذي لم يستفد أبدًا من هذه التغيرات. وهو الفلسطيني. فإن كانت "حماس" حققت، خارجيًا، خطوات للأمام على سبيل اعتلاء سكّة سياسية وليس البقاء في فلك الشعارات الضبابية، نراها تنكفئ للوراء داخليًا في خضمّ رقصة الموت بينها وبين فتح. فاللحظة الفلسطينية الداخلية الراهنة محكومة بالسلوك الإنفعالي. صحيح أن هناك اختلافات سياسية بين الطرفين، طرف أسرف بل قامر بتعويله على واشنطن، وآخر يتبنى نهج مقاومة عقائدية، وكلا الأمرين يحول دون صياغة برنامج مقاومة وطني شامل. ولكن، وكأن هذا لا يكفي، حتى انخرط الطرفان في حرب ضروس على الإمساك بسلطة انفرادية تحت الاحتلال الاسرائيلي، هي أشبه بالعشائرية منها للخلاف السياسي. "فتح"، أو بالأحرى المؤسسة المتنفذة في هذه الحركة، تواصل رهانها الخطير عبر وضع حماس في نقطة أبعد عنها من اسرائيل. وحماس من جهتها تنسجم في هذه اللعبة، عمليًا، حين لا يتردّد بعض كبار متحدثيها في إطلاق نعوت العمالة والتخوين صبحًا ومساء على خصومهم. وبين هذا وذاك، يصبح التخلّص من الاحتلال الاسرائيلي مسألة ثانوية قياسًا بالأولوية العجيبة التي اختارها الطرفان وهي الإصرار على الحسم الداخلي بمفردات العداء وسياسات الانقسام وممارسات السلاح.
المفارقة المؤلمة هي أن كل طرف يبذل كل الجهود للحفاظ على "تهدئته الخاصة" مع الاحتلال الاسرائيلي، هذا بمواصلة تفاوض عقيم من رام الله وذاك ببذل كل ما بوسعه للحفاظ على سلطته المحاصرة في غزة، بينما لا يكلف احدهما عناء تكبّد مسؤولية الوصول الى نقطة التلاقي الوطني الضرورية حفاظًا على القضية الفلسطينية التي تثقب جسدها الآن الرصاصات والقذائف التي يتبادلها الفصيلان الغريمان على الانفراد الإطلاقي بسلطة وهمية تقطّع فضاء تطبيقها جدران وحواجز ومنشآت ومستوطنات كولونيالية.
لم يعد ما يكفي من أعصاب، إضافة الى انعدام المنطق، لتحمّل الاتهامات المتبادلة والتحليلات النفعية بين الفصيلين، التي تدين الآحر تمامًا وتبرئ الساحة الشخصية حدّ التلميع. من هنا، يتوجّب على جميع أصحاب الضمائر والمسؤولية محاسبة الفصيلين بالنقد الدائم حتى يعودان الى الرشد السياسي، وحتى تعود القضية الفلسطينية الى مكانتها كقضية تحرّر وليس ككرة يتقاذفها قياديون صار من الصعب تمييز سلوكياتهم عن ألعاب الصبيان في الحارة، لأنهم يغيّبون السياسة لصالح لعبة التناحر.
هشام نفاع
السبت 9/8/2008