بكل الفخر والاعتزاز، وبشعور عميق من الرهبة؛ رهبة ولادة الجديد، قمتُ بعد ظهر الثلاثاء الماضي، الساعة الرابعة وخمس وخمسون دقيقة، بسَلسَلَة أربع قطع نقدية من فئة الشيكل في فتحة صغيرة في جهاز انتصب على عامود معدني، حيث سجل العداد 80 دقيقة. ركنت سيارتي خالي البال مطمئناً أنني وآلاف مثلي، قد دخلنا الحضارة من أوسع أبوابها. تنظيم عملية السير في الناصرة هو أكثر من عملية تنظيم سير عادية تجري في آلاف المدن في العالم، فالنظام، في أحد أوجهه المتعددة هو عملية قسر لا يمكن التنازل عنها، والدولة لا تقاس بما تقدمه للناس فقط، بل تقاس بنفس القوة، بإرادتها فرض ما تريده على الناس.. هنالك أنظمة تُخضع كل معارض وهي تُعرّف بالدكتاتورية، وهنالك أنظمة مفرِطة في الدمقراطية، تُخضع الخارجين عما اتفق عليه المجتمع، بالمحاكم والسجون والغرامات الباهظة.. بدون ذلك لا يمكن أن يسير المجتمع الحديث خطوة واحدة للأمام. ولأن الموجودين اليوم في قيادة السلطات المحلية العربية هم أبناء هذا الشعب، فيعتقد المواطن أن المجلس بيتاً له، بمفهوم أنه يستطيع أن يفعل كل شيء، وبضمن ذلك تقويض أساسات البيت على ساكنيه.. يريد الناس من السلطة المحلية كل شيء، يريدونها أن تقيم الجنائن، أن تبني أفضل المدارس، أن تُخلي النفايات.. والشيء الوحيد الذي لا يريدونه لها هو أن تكون جوهرها، أي أن تكون سلطة. المشكلة تكمن في الحقيقة أن غالبية قيادات المجالس المحلية تعتقد هي الأخرى بأنها ليست سلطة وأنها مجرد جهاز تقديم خدمات. هذا الحكي مش صحيح الآن، ولم يكن صحيحاً على طول التاريخ. الدول لم تشيّد بسبب الانتصارات على الأعداء الخارجيين، الدولة أصبحت دولة عندما تم إخضاع الجميع في الداخل، أحياناً طواعية وأحياناً بحد السيف، لنظام واحد وعقاب واحد.. رئيس السلطة المحلية هو ليس ذلك الذي يقيم الحديقة ويبني المدرسة فقط.. رئيس السلطة المحلية أيضاً (وأيضاً هنا كبيرة جداً) هو الذي يقوم بإجراءات قاسية ضد من لا يدفع ثمن المياه والضريبة دون وجه حق، وضد من يعتدي على الشارع و"يبسّط" في الرصيف.. وإذا لم يفعل ذلك ولم يثبت هيبة السلطة، ضاعت الطاسة.. والطاسة ضائعة الآن في قرانا.. إذا لم تكن إقامة الجنينة مرافقة لأمر الحجز ضاعت السلطة وفَقدنا المصداقية لأخذ زمام أمورنا بأيدينا وآنذاك سأنضم، أنا، طواعية وربما بحماس، لمن يقول "خلي واحد يهودي يستلم إدارة المجلس.. أحسن". ولذلك ما يجرى في الناصرة هو أمر مفرح ومبشّر؛ أن أهل الناصرة قد قرروا، بعد تردد كبير، أن يكونوا مواطني مدينة عصرية، وأهم ما في الأمر أن هذا المشروع الرائد يُثبت أن الناس، على خلاف ما كان يُرَوَّج زوراً وبهتاناً، ليس فقط أنهم ليسوا ضد النظام، بل هم متعطشون للنظام، وإنهم يعتزون بالنظام، والدليل.. أولاً أن هذا المشروع يتم بدون إشكالات تقريباً، وثانياً هذا الاعتزاز الذي تلمسه من الجميع حينما يتحدثون عن الناصرة.. البلد السالكة. أحياناً تشير الشعوب إلى محطات رمزية في مسيرتها، هنالك من يتحدث عن الجامعة الأولى، أو النصب التذكاري الأول، أو قطعة النقد الأولى.. فهل ، بعد عشرين عاماً سنذكر إن أحد محطات بنائنا العصري كانت إقامة هذا المَوقََف.. المَوقَف الفلسطيني الأول.