قبل فترة ليست ببعيدة لا ولا قريبة ...فترة زمنيّة مهجورة التاريخ والهوية...كنت واقفة
بمكان لا أستطيع إسناد رأسي إلى شيء سوى بعض ذكريات أكل الدهر عليها حتى الامتلاء وشرب حتى الارتواء....فكنت مسنودة الراس بالذكريات..وإذا بطفل زقزق إليه الفجر بثوب أبيض اللون ناصع ...وسربال أسود اللون حالك ...وحلق فوق هامته ذكاء ليس من أم ولا من أب ذكاء غريب عجيب..
وما زلت مسنودة الرأس مرفوعة الهامة حتّى دنا منّي ذاك الطفل يسأل بصوته الطفولي : أرأيت بتجوالك هنا أختاه أمّا تبحث عنّي ؟؟ أريت طفلاً يسأل عنّي ؟؟
أسمعت صوتاً ينادي باسمي؟؟
ترقرقت الدّموع في عينيّ وأجبته بسرعة البرق ..لا يا ولدي لم أر ولم أسمع ...وخفت سوء العاقبة ..خفت أن يصاب بالخيبة بعد سماع جوابي الجاف .........لكنه أبرق إليّ بعينيه حسناً أختاه ...حسناً أماه ...وعانقني بحرارة وعانقتني إذ ذاك نشوة عظيمة ...وكان أن صار وأصبح إبني ...وغدوت أمّه .....
وكان ما زال رأسي مسنوداً إلى الذكريات .....وقال هاك قصتي فامسحي دموعك واقرأي...... وأخرج كيساً صغيراً حوى ذرات من الرماد فنثرها على الارض فبلورت كلمات هذا مفادها..
اليوم أشرقت شمس جديدة وتلألأت قطرات النّدى فوق أوراق الاشجار فابتسمت ُ ابتسامة الرّبيع لثغر الرّبيع وصمتُّ..
ففي الصّمت قوّة لم نعهدها لا في الكلام ولا في الصّراخ.... قوّة عجيبة ....
أزاحت رأسها خلف المكان وانتفضت كأن شبحاً هزّ كيانها... لا أريد لا أريد ...هذا ما فاهت به وعادت لتلبس حلة الصمت وعباءة الخجل...ها أنا سأسافر.. سأحمل معي كلّ أشيائي حتّى أعمق أسراري سأخلي الغرفة لن أُبقي فيها شيئاً حتّى ذكرياتي ستكون معي فقد لا أعود فقد أجد حُلم حياتي ينتظرني لنستقلّ مركبتنا ونغادر ...
لذلك قررتُ أن آخذ ذكرياتي ذكريات حبّي ... لا ذكريات حبّي.... سأحرقها هنا بعود الكبريت لا أريدها مرافقتي... سأحرق كلّ أسراري... لا أريدها أن تنتظرني في الغرفة الخالية ...سأحرقها وأرمي رمادها في البيداء ....لا بل سابقي الرماد معي فيعُزّ عليّ أن يختلط رماد حبّي برمال صحرائي..
... سأحتفظ بالرّماد سأتنفس من الرّماد... سالعب مثل الاطفال ولكن ليس بالرمل بل بالرماد..فرماد حبّي غال ويعز عليّ أن أذريه مع الرياح حائرة أنا برماد حبّي ماذا أفعل ؟؟
وصرخت لُبنى لتقذف مولودا بحكم الحياة ...هو ابنها ...وبحكم الحبّ هو حبّها ...وبحكم المجتمع هو هو عارها..
نظرت إليه نظرات غريبة لا أمومة فيها ...وقبلته قبلة مجردة من كلّ حبّ وعاطفة....
وألقت به في سلّة صغيرة كانت قد استغنت عنها طفلة كانت تلعب هناك ..واسلمت سيقانها للريح وغادرت من حيث لا ندري ولا طفلها بها يدري........
وقرأت ما في الرّماد من حروف ، وما في ذراته من أسى ...
...وحضنت بحرارة ذاك الابن الذي يبحث عن معنى للرماد....يبحث عن قصّته الضائعة بين ذرات الرّماد ...
وقلت في ذات نفسي ...حتّى الرّماد لا يخلو من الذّكريات .
***
قانا الجليل
عدلة شداد خشيون
الأحد 27/7/2008