تـَمْهيد:-
حُـروف الاختصار في عـِنوان المقالة, تـُخفي وراءها اسمي أديبين عملاقين في سماء الأدب العالميّ: الأول هو جبران خليل جبران ( J. K. J.), الأديب والفيلسوف العربيّ الكبير الذي كتب باللغتين العربية والإنكليزيّة فأجاد بهما بنصوص رائعة, إنسانية وجميلة.
والاسم الثاني يعود إلى كاتبة روائية إنكليزية حديثة نسبيا, أصبحَ اسمها مؤخرا أشهـَرَ من نار على عـَلـَم, وعلى ألسنـِة أطفال العالم, هي كاتبة قصص هاري بوتر الإنسانية الرائعة, جوان كي. رولينج (J. K. R.). تمّ اختيار حروف الاختصار الإنكليزية بالذات (وليست الحروف العربيـّة) لسببين:
الأوّل: وهو السبب الأساسّ, يكمن في إدعاء المقالة المركزي عن إمكانيّة تأثـّر رولينج البالغ, بفلسفة جبران الحياتيّة والتي صدرت أغلبها بالإنكليزية في الأصل. تتجلّى إمارت هذه الفلسفة الوجدانية الجبرانيّة بشكل بارز في وقائع روايات هاري بوتر, وخاصة في الرواية الأخيرة منها. والثاني, وهو ثانويّ, يردُ في الحواشي التي تذيـّلُ المقالة .
البـداية:-
عندما بحث كاتب هذه المقالة جاهدا, وفتّـش "بالفتيل والفأرة", داخل ثنايا مواقع الإنترنيت العديدة جدا, الرسميّة منها وغير الرسمية والتي تبحث في أدب الكاتبة جي. كي. رولينج ومصادر إلهامها المعترَف بها وغير المعترف بها, فوجئ بانعدام وجود اسم جبران خليل جبران كليا, من قوائم هذه المصادر على نوعيها! وهو الذي ظنّ, أنّ نقاط التقاطع بين فلسفة جبران وروايات رولينج هي خطوط واضحة جليّة.
ولكن كاتب المقالة لم يجدْ في كل تلك المصادر الهامّة والمُلهمة للكاتبة, وخاصة في المصادر التي صرّحت بها الكاتبة رولينج بنفسها, أي ذكر كان لأدب وفلسفة جبران, لذا ارتأى كاتب المقالة أن يَعرض هذه الخطوط الواضحة الجليّة على صفحات الإتحاد, لأنّه يعتقدُ أنّ خطوط التشابه والتشابك بين الفكرَين, هي أقوى من الصُدف وأعتـَى من تواردُ الأفكار بين الأديبين فحسبْ!
كما أنّ خطوط التشابه والتشابك بين فلسفة جبران خليل جبران العامّة, وبالأخص تلك المتجلّية في كتابه الأكثر رواجا "النبي", وفي كتابه "رمل وزبد" (اللذين نـُشرا في الأصل بالإنكليزية, وهي لغة أمّ رولينج) من جهة, وبين أعمال وتصرفات وأخلاقيات بطل روايات رولينج عبر سبع القصص البوتريـّة من الجهة الأخرى, هي خطوط واضحة وقوية.
سأورد أهمّ تلك الخطوط وأكثرها وضوحا.
1. عـَن الخـَير والشرّ
في كتاب "النبي", يـُسهب جبران في شرح نظريته وفلسفته في وعن موضوع الخير والشرّ. فجبران لا يرى أنّ الخير يتواجد بمعزل كامل عن الشـّر, كما يفسّره علماء اللاهوت والدّين في الأديان الثلاثة, بل يرى جبران أنّ الأمرين هما وجهان لنفس العملة, لا بل في كثير من الأحيان يصعب على المرء التمييز بينهما, لأنهما مترابطان بعلاقة جدليّة. وهكذا يكتب جبران:
"إنني أستطيع أن أحدّثكم عن الخير, لا الشر الذي فيكم. لأنّه أليسَ الشرّ هو بعينه الخير المتألم آلاما مبرّحة من تعطشـه ومجاعته؟ فإني الحقّ أقول لكم, إنّ الخير اذا جاع سعى إلى الطعام ولو في الكهوف المظلمة, وإن عطش فإنه يشرب حتى في المياه الراكدة المنتنة!"
وفي مكان آخر من كتاب رمل وزبد, يكتب جبران بهذا الصدد:
"إنّ الذي يستطيع أن يضعَ إصبعـُه على الخطّ الفاصل بين الخير والشرّ يستطيع أن يلامس ثوب الله." ...
وفي مكان آخر يسخرُ جبران من الشخصيات الخيالية الدينية التي تفصل كليا بين الخير والشر لا بل يُظهر أنهما يتصرفان بشكل مشابه:
"كثيرا ما تزورني الملائكة والشياطين, ولكنني أتخلّصُ منهم. فإذا كان الزائر ملاكا فإنّي أصلي له صلاة قديمة فيملّها ويتركُ منزلي. وإذا كان شيطانا فإنّي أرتكبُ جريمة قديمة فيمرّ بي مجتازاً!"
حيال ذلك نجد في رواية "هاري بوتر", أنّ هاري حين انتمى إلى المدرسة الداخلية للسحر والشعوذة (هوجوارتس) صارع جاهدا ليؤثّرَ على "قبعة التصنيف" المدرسية, حين اعتمرها لتختار له المسكن الذي يرغب به وفق ميوله قدراته وشخصيّته. إذن قبعة التصنيف تكتشف بطريقة سحريّة ميول كل طالب جديد ينتمي إلى المدرسة وفق خطوط شخصيّته الداخليّة الخاصة به. بناءً على شخصيّة الطالب ومواهبه المكتشـَفة, تقوم قبعة التصنيف (أو قـُل القبعة "المستشارة" في المدرسة) بتوجيه الطالب الذي يعتمرها, إلى أحد البيوت السكنية (للطلاب) الأربعة التالية:
1. "جريفيندور": هو بيت الطلاب الأخيار وأكثرهم عطاء. رمزُ هذا البيت هو الأسد.
2. "سليذيرين": وهو بيت الطلاب الأشداء والقساة (من نماذج جنود إسبارطة مثلا), حيث يستطيع القسم الأعظم منهم عادة, أن ينطق بلغة "البارسيل-تونج" هي لغة الأفاعي! وقد تخرّج من هذا البيت قاتل والدة ووالد هاري بوتر وأخطر ساحر ظهر على وجه البسيطة وأكثرهم شرا ألا وهو "فولد-مورت". عندما تصف رولينج داخل رواياتها عنصريّة "فولدمورت" الشديدة, تجاه أبناء العامّة من الناس (لأنّه كان يكرهُ ويشمئزّ من والـِده لكونه ينتمي إلى طبقة العامّة), نجدُ العديد من إمارات التشابه مع عنصريّة سياسات "هيتلر" مثلا تجاه الأقليات ونظريته العرقيّة. رمز بيت سليذيرين هو الأفعى.
(أمّا البيتان الباقيان في المدرسة الداخليّة فـُهما: "هافلباف", و"رايـفنكلو" وهما بيتان غير هامين لبحثنا هذا, سوى أنهما يستهويان عادة, الطلاب ذويي الميول الفنية والتنبؤيّة.)
عندما اعتمر هاري قبـّعة التصنيف تتفحّص القبعة أعمق ميول نفس هاري وتقول له القبعة بعدها, ولمّا يعرف هاري بعد أنّ الذي قتل أباه وأمه تخرّج من بيت "سليذيرين":
"هـِمـمّ.. إنني أرى في نفسك, يا هاري, مواهب وقوى عظيمة ورهيبة, إنك تستطيع بواسطتها أن تـُبدع في بيت سليذيرين. ماذا تقول؟ هل أسمعك جيدا, يا هاري؟ إنّك تقول لي بصوت عال: "كلّ بيت ما عدا بيت "سليذيرين "!! كلّ بيت ما عدا "سليذيرين"!!" ولكن لماذا؟ لا أعلم؟؟ إنها خسارة جسيمة لعالم السحر أن لا تنضمّ إلى بيت "سليذيرين" العظيم يا هاري! خسارة يا هاري! هممم... ما زلت تعارض بشدّة اقتراحي هذا, إذن لـَم يبق أمامي سوى أن أعلن أمامَ مدير المدرسة بأنك..." وتصيح قبعة التصنيف قائلة: "هاري بوتر يصنّف في "جريفوو..-ندور"". عندئذ يتنفـّس هاري الصعداء!!
عندما تستطلعُ القبعة السحرية للتصنيف خبايا نـفس "هاري", تجد فيها عناصر شريرة قويـّة ملائمة لبيت سليذيرين. إنّ هذا الأمر يتوافق مع فلسفة جبران بجدليّة الخير والشر. فجبران لا يستطيع, أن يتحدّث للشعب عن الشر لأن الشر, وفق جبران, هو خيرٌ مقموع ومقهور.
وفي حياة هاري بوتر العديد من المآسي والقهر اللذَين يدفعانه إلى الطريق الأسهل والأسرع هي طريق الشر, لتحقيق أهدافه.
وفي قصة "هاري بوتر" الثانية (هاري بوتر وحجرة الأسرار) يكتشف هاري فجأة وبدون سابق إنذار أنـّه (على العكس من كل طلاب بيت "جريفوندور" على مرّ الأزمان والأجيال) ينطق بطلاقة بلغة "البارسيل-تونج", هي لغة الأفعى. وفي القصص الست الأوائل, يتصارع دائما الخيرُ والشرّ في نفس "هاري بوتر" المعـذّبة. وفي أحد الفصول يتمنّى هاري أن يقتلَ خالته وزوج خالته وابن خالته الذين يتلذّذون بتعذيبه عندما يقطنُ في بيتهما, ولا يتوقفون عن التهكّم على أمه وابيه المقتولين, وعلى ميولهم السحريّة وأطوارهم الغريبة. كما أنهم يرغمون الصبي اليتميم "هاري" العيش في غرفة بدون شبابيك تحت الدرج الداخلي في بيتهما, لئلا يراهُ أحد زوار البيت فيكتشف "العار" في عائلتهم في وجود الولد "الساحر-المسحور" داخل بيتهم العادي!
في مكان آخر من قصص "هاري-بوتر" (هاري-بوتر والأمير هجين-الدم), يكاد هاري بوتر يوجّه لـعنة قاتلة (تسمّى "Avada Kedavra") إلى أحدِ المعلمين في المدرسة, اسمه "سنياب" لمجرّد أنّه تجرّأ وتهكم على طباع والد "هاري بوتر" عندما كان طالبا على مقعد الدراسة معه في المدرسة, أمام هاري وأصدقائه. وفي هذا العمل الدفين في نفس هاري, الكثير من الشرّ العظيم.
و تتردّد هنا في نفسي كلمات جبران السابقة: "إنّ الذي يستطيع أن يضعَ إصبعـُه على الخطّ الفاصل بين الخير والشرّ..", لا شك أنـّه في كثير من المواقف الشديدة مثل انتفاضة شعب مثلا أو ثورة أو في مواقف إنسانية معقدّة من الصعب جدا وضع حدّ فاصل بين ما هو خير وبين ما هو شـر, فهل قتل جنود الغزاة مثلا, وإرجاعهم داخل توابيت إلى أهاليهم عبر البحار, هو خير أم شر؟ وهل إعدام الملك والملكة بالمقصلة بعد نجاح الثورة الفرنسية مثلا, خير أم شرّ؟
2. عن الولادة والموت و...
مثل شعبي إنكليزي قديم يقول:
"إنك تعيش مرّتين: مرة ًعندما تولد, ومرّةً عندما تبدو إشارات الموت على وجهك!"
يفسـّر المثلُ إلى حد ما, انجذاب العديد من المراهقين والشباب إلى السرعة الزائدة في السياقة, وإلى الإفراط في شُرب المشروبات الروحية, وممارستهم لرياضات متطرّفة, مثل قفز "البانجي", والنزول بواسطة حبال من قمم جبال شاهقة وغيرها. هل يسعى القافز المربوط بحبل "البانجي", أن يعيش مرّة ثانية (بعد أن وُلدَ فعاش في المرّة الأولى) عندما يقفز من علوّ شاهق؟ إنّ هذه الفلسفة الحياتية تفسّر ايضا بعض أحداث قصص هاري بوتر المثيرة وهي متواجدة أيضا في فلسفة جبران. فجبران يكتب في رمل زبد:
"الولادة والموت مظهران من أنبل مظاهر الشجاعة" .
يتعرّض هاري بوتر الرضيع الذي لمّا يبلغ العام الأول من عمره, إلى لعنة سحرية (كانت من المفروض أن تكون قاتلة), انطلقت من عصا "فولدمورت" السحريّة وهو في كامل قوّته الشريرة, بعدما قتل فولدمورت والد هاري وقضى عليهما بإشارتين من عصاه. لكنّ اللعنة ترتدّ لسبب ما من جبين الرضيع (وتتركُ على الجبين نـَدبة على شكل البرق) إلى جبين فولدمورت, فتضربه ضربة شبه قاتلة. "فولدمورت" يتحوّل بعدها إلى شبح بائس. يظنّ كل عالم السحر أنّ سبب نجاة هاري يكمن في نبوءة قديمة عن طفل سيدمّر لوحده شرورّ فولدمورت وأتباعه عندما يكبر. ويظنّ هؤلاء أنّ الطفل هو هاري بوتر, إذ كيف استطاع طفل رضيع أن يصدّ وحده أفظع لعنة؟ يلقّب الناس هاري بالمُختار (one ,(the chosen و استعمل جبران نفس التعبير لكي يعرّف النبي, لا بل زاد عليه كناية المصطفى. ولكنّ السبب الحقيقي في فشل مـُحاولة قتل هاري بوتر, وفق الكاتبة رولينج, نجدها في نهاية القصة الأولى: إنّ حب الأمّ الشديد لإبنها هاري, وقـُبلتها الأخيرة الغامرة بحبها له على جبينه , هي التي استطاعت بقدرة سحرِ الأمومة وحبها العظيم أن تصدّ اللعنة القاتلة لترتدّ إلى جبين المعتدي. هاري لم يرتق إلى درجة الأنبياء! وباختصار: قوة المحبّة الحقيقيـّة أقوى من أفظع لعنات الشرّ قاطبة! سنعود إلى موضوع المحبّة بإسهاب لاحقا.
هاري بوتر يعيد ماضي أمّه وأبوه في الكتاب السابع والأخير عندما يعرف في نهاية المطاف, أنّه لكي يستطيع أن يخلّص العالم من شرور فولدمورت وأتباعه, ليس أمامه طريق آخر, سوى أن يذهب طواعية وهو مجرّدَ السلاح إلى عدوّه اللدود فولدمورت ليواجهه بنفسه وليقدم ذاته "قربانا" أمام سيـّد الظلام فيضحي بنفسه لأجل كل سكان عالم السحر والسحرة! وهو يحذو بهذه التضحية حذو أمه ليلي وابوه جيمس .. نعم وحذو السيـّد المسيح الذي سمح – وفق الإيمان المسيحي – للجنود الرومان بصلبه لكي يخلّـص البشرية! وهنا تتكشف أخيرا شخصية الكاتبة رولينج الحقيقية, المؤمنة بالمسيح بطريقتها الخاصّة غير الأصولية وغير المتشدّدة, وفق تصريحاتها إلى صحيفة "التايم" الأميريكية بعد نشر كتابها الأخير فتقول رولينج: " كان أبي ملحدا, وأمي كانت تذهب إلى الكنيسة في أوقات متباعدة. وأنا كنت الوحيدة من بين افراد عائلتي, أذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد! لكنّي أعارض بشدّه أي تعصّب كان, وأيّ متدين أصولي من كل الأديان قاطبة! وإنني اكرر دائما وأقول: هناك متدينون متعصبون يقومون بأعمالٍ شريرة في كل يوم تقريبا, وهناك ملحدون يعملون الخير في كل ما يقومون به, بدون أن يؤمنوا بشيء ما خارج الطبيعة! يجب على الإيمان أن يكون إيمانا شخصيا فقط, بدون رجال دين وبدون أعراف وفتاوى, وليس فئة متشدّدة من دين واحد ضد دين آخر". نسترجع هنا كلمات جبران خليل جبران الخالدة: "مرّة في كل مائة سنة يلتقي في لبنان المسيح الناصري مع مسيح النصارى في حديقة بين جبال لبنان, فيتحادثان طويلاً, وفي كل مرّة ينصرف يسوع الناصري وهو يقول ليسوع النصارى: "أخشى يا صاحبي أنّنا لا نتفّق أبدا أبداً.
أي أنّ جبران يرى أنّ رجال الدين المسيحي عامّة الذين يبنون شخصيّة المسيح وفق نظرتهم ويسوّقونها إلى رعيتّهم, هم في الواقع مخطئين.
(* * *)
عن الولادة والموت و...
تدور أحداث قصة "هاري بوتر" السابعة والأخيرة في قلعة مدرسة السحر هوجوارتس, وفي الغابة الممنوعة بجانبها. في الغابة يتلقى "هاري" طواعية ً, كما ذكرنا سابقا, لعنة الموت من عصا فولدمورت السحريّة, فينتقل بعدها إلى مرحلة "الأموات الجدد" ليـقابل مدير مدرسته المحبوب المقتول منذ سنة, "دمبلدور" في محطّة القطار "كينجس-كروس ". وهناك في الفترة ما بين الحياة والموت تحت سقف محطة "كينجس-كروس" الزجاجي العالي, وهي فعلا محطة قطار مركزية كبيرة موجودة في مدينة لندن, يسأل "هاري بوتر" مديرَه الحبيب العديد من الأسئلة الهامّة التي تكشف الإجابات عنها كل أسرار حياة "هاري" وحياة والديه. فتكتب رولينج:
"وبعد وقت طويل, أو لا وقت على الإطلاق, خطر بباله (بال هاري بوتر هـ.ع.) أنه لا بد أن يكون موجودا... وما أن وصل إلى هذا الاستنتاج حتى أدرك أنه عارٍ, ولكن هذا لم يزعجه. .....وجلسَ. كان جسده سليما. ولمس وجهه; لم يكن يرتدي نظارته...ووقفَ, ونظرَ حولهُ. وفكّر. هل هو في حجرة طلب كبيرة؟ .. ورأى سقفا زجاجيا مقببا تحت ضوء الشمس الساطع فوقه. ربما كان في قصرٍ ما. كان كل شيء حوله هادئا وساكنا, ..."
وفي كتاب النبيّ يصف جبران عمليّة الموت أمام الشعب:
"وهل موت الإنسان هو أكثر من وقوفه عاريا في الرّيح وذوبانه في حرارة الشمس؟"
ويتحدّث النبي عن مثالب الثياب أمام الشعب أيضا فيقول:
"إنّ ثيابكم تحجب الكثير من جمالكم,...
ويا ليت في وسعكم أن تستقبلوا الشمس والريح بثياب بشرتكم عوضا عن ثياب مصانعكم, لأنّ أنفاس الحياة في أشعة الشمس, ويد الحياة تجري مع الريح".
وهكذا كان هاري بوتر أيضا, عاريا تماما من ثيابه, وليس بحاجة بعد إلى نظّارته الطبيّة, عندما انتقل إلى "عالم الأموات".
في نهاية لقاء هاري بوتر مع مديره في الصليب-المحطّة , يـَقول له مديرُه " دَمبلدور مبتسما:
"أوه, نعم. إننا في محطّة كينجز-كروس. ... وأعتقد أنّك إذا قرّرت عدم العودَة (إلى الحياة. هـ. ع.), ستكون قادرا على... دعنا نقول.. ركوب قطار"
هاري: "وإلى أين سيأخذني؟"
قال دمبلدور ببساطة: "إلى الأمام".
.. قال دمبلدور: أعتقدُ أنّك إذا اخترت العودة (إلى الحياة. هـ. ع.), ستكون هناك أمامُك فرصة القضاء عليه (على فولدمورت. هـ.ع.) إلى الأبد. لا يمكنني أن أعِدُ بذلك...
قال هاري:" أخبرني بشيء أخير. هل كل هذا حقيقي؟؟ أم أنّه يحصل في رأسي ودماغي؟"
ابتسم دمبلدور له, وبدا صوته عاليا قويا في أذني هاري رُغم أنّ الضباب المُتألّق قد بدأ يتجمّع مرّة أخرى مخفيا شخصـَه كليا (أي مُخفيا شخصَ دمبلدور هـ.ع.).
"بالطبع يحدث كل هذا في رأسك يا هاري, ولكن لماذا بحق السماء ينبغي أن يعني هذا أنّه ليس حقيقيا؟!" وبعدها ينبعث الصبي هاري بوتر حيا محقـِّقا بذلك ما هو مرسوخ على ضريح والديه: "إنّ الموتَ هو العدوّ الأخير الذي سيـُباد" . هاري بوتر ابن ليلي وجيمس البشريان قد هـزم الموت هو أيضا, وعاد إلى الحياة مجدّدا!
كتب جُبران بالإنكليزية أيضا كتابا بعنوان: "يسوع إبن الإنسان" وطرح فيه فكرة جريئة بأن يكون يسوع إبن الإنسان, وليس إبن الإله وفجعله إنسانا من لحم ودم. ولكن جبران يبعـثُ هو أيضا يسوع ابن الإنسان حيا بعد صلبه, فيقول على لسان مريم المجدليّة:
"مرة ثانية أقول لكم أنّ يسوع بالموت غلب الموت, ونهض من القبر روحا وقوّة. .. فهو لا يضطجع هنالك في تلك الصخرة المنحوتة وراء الحجارة."
هاري بوتر غلب الموت عندما اختار واقتنع أن عليه أن يموت لأجل فائدة عالم السحرة.
وجبران يكتب أيضا في النبي عن الموت فيقول: "إنّكم تريدون أن تعرفوا أسرار الموت ولكنْ كيف تجدونها إن لم تسعَوا إليها في قلب الحياة؟"
... وفي مكان آخر:" لأنّ الحياة والموت واحد, كما أنّ النهر والبحر واحدٌ أيضا.
... لذلك فلتكن ثقتكم عظيمة بالأحلام, لأنّ بوابّة الأبدية مختفية فيها" .
وبالنسبة إلى موضوع الأحلام فهنا نواجه نقطة مركزيّة جدا في بحثنا هذا, عند وصولنا إلى الأحداث الأخيرة في صراع هاري بوتر ضد الشرّ.
ففي بداية كتاب النبي يهتفُ مصطفى-جبران مناديا ملاّحي السفينة التي أتت لتنقله على متنها (إلى أين بالضبط؟ إلى جزيرة-الموت؟ فبدلا من قطار الموت في محطّة كينجس-كروس الذي لم يستقلّه هاري, تأتي في النبي سفينة الموت, التي يعتليها المختار بعد خطبة وداعه؟) فيقول النبي:
"يا أبناء أمّتي الأولى, أيـّها الراكبون متون الأمواجِ, المذلّلون مدّها وجزرها. كم مرّة أبحرتم في أحلامي؟ وها قد أتيتم ورأيتكم في يقظـتي التي هي أعمقُ أحلامي! إنني على أتمّ الأهبة للإبحار,.."
إنّ هذا ما قد يكون قد حدث في القصة الأخيرة من قصص رولينج: هاري بوتر, ربـّما لم يكن قد فارقَ الحياة أبدا, بعد أن تعرّض إلى لعنة عدوّه, إذ قد يكون قد أغمي عليه فحسبْ (كما يحدُث للكثيرين من المصابين بعيارات ناريّة غير مميتة مثلا) وحلـم عند إغماءه أنّ مديره السابق والمحبوب قد ترجّل من قطار الموت ليأخذُه معه إن شاء بذلك, وحلم بالمُحادثة السيريالية العجيبة التي دارت بينهما, وحلم أنّه رفض أن يستقلّ القطار (بالعكس من نهج النبي الذي اعتلى سفينة الموت) "فعاد" إلى الحياه, بعد أن عاد إليه وعيه, لكي يقوم بواجبه.
لماذا على هاري بوتر ان ينبعث حيا بعد "مماته", إذا كان يمكن تفسير كل "ما جرى" أنّه "حدث" في رأس هاري أي في خيال أحلامه, كما تشككّ هاري فسأل المدير "الميت".
نستعيد هنا مرّة ثانية كلمات جبران الخالدة:
"وها قد أتيتم ورأيتكم في يقظـتي التي هي أعمقُ أحلامي!" ماذا سيحدث في هذه المرحلة من تحليلنا, لو قـَلبْنا ترتيب هذه الجملة الرومانسية الفلسفية الرائعة, مع بعض التغيرات الطفيفة فكتبنا:
"وها قد أتيتم (دمبلدور مثلا هـ. ع.) ورأيتكم في أعمق أحلامي, فـبدوتم كأنّكم أشخاصٌ حقيقيين في يقظتي المُطلقة!" كم منّا مـَن أفاق بهلع من كابوس فظيع ظن أنّه حقيقي للغاية.
هذا تماما, ما قد يكون قد حدث داخل رأس هاري بعد أن أغمي عليه من شدّة الصدمة! خاصّة أنّه وجد نفسه لا يحتاجُ نظّارته الطبية, وفي هذا الكثير من التفكير بالتمنّي (Wishful thinking) الذي كثيرا ما يحدث في الأحلام, عندما ينطلق حرّا اللاوعي من أغلاله.
وهنا تتداخل رومانسية جبران في علاقة جدليّة مع مفهوم الحلم الذي يعتبره جبران مركبا أساسيا من الواقع (وحتى من الموت), مع براعة رولينج الكتابية في التلميح إلى أنّ ما حدث لهاري في محطة-مفترق "صليب-الملك", يمكن اعتباره بعثا, وفق الإيمان المسيحي من جهة واحدة, ولكن يمكنُ اعتباره حلما دار كله من أوّله إلى آخره داخل مخيّلة هاري وهو مغمى عليه, ولم تحدث أية واحدة من "مجرياته" في الواقع أبدا!
3. عـَن المحبّة وأهميّتها
وعظ جبران بالإنكليزية عن أهمية ال -love القـُصوى في حياة الإنسان, وقد أحسن الأرشمنديت أنطونيوس بشير عندما ترجمها إلى كلمة المحبّة. وكتب جبران عن المحبّة وغنّت من بعده فيروز:
" إذا أومـَت إليكم المحبة فاتبعوها, وإن كانت مسالكها صعبة متحدّرة.
وإذا ضمّتكم بجناحيها فأطيعوها, وإن جـَرَحكـُم السيف المستور بين ريشها.
وإذا خاطبتكم المحبّة فصدّقوها, وإن عطّل صوتها أحلامكم وبدّدها....
لأنّه كما أنّ المحبّة تكللكم, فهي تصلبكم."
فلأجل محبة ليلي بوتر العظيمة لإبنها هاري, تـُلقي الأم بنفسها أمام لعنة القتل التي وجّهها اللورد فولدمورت الشرير إلى طفلها, رضيعها هاري, "فتصلبُ" نفسها وتموت بدلا عنه! وقبل دخول اللورد فولد-مورت بيت هاري كان "جيمس بوتر" والد هاري ينتظر فولد-مورت ("مورت" بالإنكليزية تعني المـَوت!) في مدخل داره, لكي يُحاول عرقلة تقدّم الساحر الشرير إلى بيته فيموت جيمس هو أيضا قتلا, وهو يحاول إنقاذ ابنه. من منّا نحن الأهل غير مستعد في لحظة الحقيقة, أن يدافع عن حياة أولاده أمام الموت حتى لو كلـّفه ذلك حياته, فتجد الأب أو الأم يسارعون بالتبرّع بكـِلية ناقصة من أجل الولد أو البنت, وهم يدركون تماما الأخطار الحقيقية التي تحيق بحياتهم عندما دخولهم غرفة العمليات!.
إنّ "فولدمورت" يسخر, في كل قصص هاري, من المحبّة ويعتبر كل من يتبعها أو "يُصاب" بها ضعيفا وساحرا متدنيا.
ولكن عندما تبحث الكاتبة رولينج في روايتها عن الأسباب الحقيقية إلى لجوء الساحر الشرير "فولد-مورت" إلى طريق الشرّ الفظيعة, تحدثنـّا عن والدته ووالده اللذين تركاه وحيدا بعد أيام معدودة من ولادته, في بيت أيتام بائس ليفترقا عنه كلّ واحد إلى طريقه. وعندما يكبر الإبن الذي سمّاه الوالدان "توم ف. رِدِل", ويكتشف الحقيقة المرّة عن ما فعله به والديه, يغيـّر الصبي اسمه من "توم ف. ردل" ("ردل" اسم عائلة الأب, وتعني أيضا, اللغز بالإنكليزيّة) فيصوغ لنفسه اسما آخر من نفس الأحرف السابقة: "فولد-مورت". يذهب الآن فولدمورت ليبحث عن أبيه فيقتله قتلا مثقلا بالعذاب فيكون الأب "رِدِل" أول ضحية لإبنه ردل-فولدمورت, وهذا في طريقه لكي يتحول إلى أكثر السحرة شرا! نعود مرّة ثانية إذا, إلى البند الأوّل من مقالتنا عن طبيعة وماهيّة الشر لدى جبران: الشرّ, في صميم الحال, هو خيرٌ, جائع, مقموع ومقهور, فعلى ما يبدو أنّ ردل-مورت الطفل كان قد تحوّل تدريجيا في بيت الأيتام, إلى شرير بسبب أنه لم يرَ الخير من والديه اللذان آثرا "قذفـه" أمام باب بيت الأيتام من أن يستمرا في حياة عائليـّة طبيعيّة معه بدل أن يفترقا!
وتدور المحادثة الأخيرة بين هاري وفولدمورت, بعد انبعاث هاري بوتر إلى الحياة مجدّدا, لكي يواجهه مرّة ثالثة وأخيرة:
"...لم ينطق "فولدمورت", وظل يتحرّك في دائرة حول هاري, وعرف "هاري" أنّه قد أبقاهُ مؤقتا مترددا وقلقا من احتمال أنّ هاري ربما يعرف فعلا سرا أخيرا...
قال "فولدمورت" وقد ارتسم التهكم على وجهه الشبيه بالثعبان: "هل هي المحبّة, مرّة أخرى؟
إنها حلّ دمبلدور المفضّل عليه المحبّة, والذي يدّعي أنها تهزم الموت, المحبّة التي لم تستطع أن تحـمه من السقوط من فوق البرج, والتحطم مثل تمثال شمعي قديم؟ المحبّة التي لم تمنعني أنا من سحق أمّك ذات الدم المخلوط الموحل مثل الصرصور يا "بوتر"- يبدو أن لا أحد هنا يحـبك بما يكفي للقفز أمامك, وتلقي لعنتي القاتلة والأخيرة, بدلا منك. ما الذي سيمنعك من الموت عندما أصوّب نحوك هذه المرّة يا ترى؟"
وأخذ "فولدمورت" يضحك؟
قال "هاري": "شيء واحد فقط". وظـلا يدوران حول بعضيهما, ولا شيء يوقفهما سوى السر الأخير.
قال "فولدمورت": "إذا لم تكن المحبّة هي التي ستنقذك هذه المرّة, فأنت تعتقد إذن أن لديك سحرا لا أملكه, أو سلاحا أكثر قوّة من سلاحي؟"
قال "هاري": " أعتقد بأنّ لديّ كليهما!"
يستطيع القارئ هنا أن يتخيل نهاية قصة هاري بوتر السعيدة, ولكن السرّ العظيم الذي استطاعت الكاتبة "رولينج" "الحفاظ" عليه ببراعة خلال الست قصص الأولى, السر الذي لم يكن يعرفه أو حتى يستطيع أن يتخيلهُ "فولدمورت" لإستهزاءه الأبديّ بالمحبة والحب, هو أنّ أحد "مؤيديه" الكبار الأستاذ في مدرسة السحر "هوجوارتس" الأستاذ "سنياب" (الذي قَـتـَل مديرَ المدرسة, لأجل "سيـّده" "فولدمورت"), كان في الواقع مغمورا بحب والدة "هاري بوتر", حتى بعد زواجها من جيمس, وظلّ وفيّا أبدا على عهده هذا على الرغم من زواجها من غريمِه, حتى أنّه بعد أن قـَـتل "فولدمورت" الأمّ حبيبته, عاهـَد "سنياب" نفسه أن يحافظ ما استطاع على حياة إبنها, وأن ينتقم من ذلك الذي قتلها, فأخذ يقوم بدور العميل-المزدوج للفريقين في كل هذه الفترة الطويلة, لكي يكسب ثقة "فولدمورت" المطلقة, ولكي ينتقم منه عندما تسنحُ الفرصة لذلك. لا بل إنّ مصرع دمبلدور على يد سنياب, كان جزءا من خطّة مدروسة ودقيقة, لكي يستطيع هاري أن ينال أخيرا من غريمه قاتل والديه, بمساعدة العميل المزدوج الذي وقع بحب والدة هاري. هذا السر الكبير عن حب الأستاذ "سنياب" السري لوالدة "هاري," يغلق دائرةَ قصص هاري بوتر, ليجعل النهاية سعيدة للغاية, بفضل قوّة المحبّة والحب! المحبّة التي تصلُب وفق جبران, والتي استهزأ منها دوما فولدمورت واعتبرها ضعفا,هي نفسها التي تنقذنا!
الخاتـمة:
تشبه ظروف تاريخ شعبنا الفلسطيني وحياته منذ نكبته حتى يومنا هذا, إلى حد مـا حياة "هاري بوتر" الطفل الذي أصبح شابا, في المعاناة اليومية على مرّ عقود من السنين, وفي فقدان "الأب والأم" العربيين, منذ نكبته, ومرورا بفقدان الشعب الفلسطيني "إشبينـَه" السوفيتي في بداية التسعينات من القرن السابق, ومن ثم اضطراره مـُكرها في العيش في غرفة صغيرة تحت الدرج, بين أربعة جدران بيت الخالـة السعودية الثريّة وزوجها (غير الشرعي) الكاو-بوي الأمريكي, هو في الواقع سجن معدوم النوافذ الذي يحرسُه السجاّن ابن العمّ الإسرائيلي, وما زال حتى يومنا هذا. لكن مثلما استطاع هاري بوتر أن يفوز بحريته بواسطة إصراره وإيمانـه الشديد والعميق بصدق قضيـّته وعدالتها, بعد أن ظنّ الجميع أنه قد مات وانتهت قضيته العادلة, قضيّة أجداده معه, هكذا سينبعث شعبنا الفلسطيني حيـّا كالعنقاء, التي تولد كل مرة من جديد من بين الرّماد, لتعود إليه حريته الكاملة في وطنه.
فمَـن لا يهابَ الموت, كما كتب جبران بكلمات مغايرة, هو فقط الذي سيعرفُ حتما على أسرار الحياة (الحرّة-الأبيّـة!).
حيفا
بقلم: هشام عبدُه
السبت 26/7/2008