بداية أعتذر لكل اليساريين والتقدميين الذين تجاوزوا هذه الحالة، عن اللهجة في مقالي هذا، التي اقتضتها الضرورة. وثانيا اقول انني لو كنت مطرانًا و"لا أريد ان اعرف كرجل سياسي"، لما وافقت أصلا على اجراء مقابلة صحافية معي، في ظروف كظروف بلادنا، كل شيء فيها سياسة، من كيس حليب تنوفا، الى تدمير مئات القرى العربية ومصادرة الاراضي الفلسطينية، الى دوس قرار محكمة العدل العليا الذي ينص على اعادة اهالي اقرث وبرعم الى قريتيهم، ببصاطير عسكرية قذرة. وأظن سيادته من احدى هاتين القريتين.
ولا أدري من أين استقى الصحافيان من "كل العرب" (الجمعة 18/7) "النظرة العامة لدى العرب في البلاد، وخاصة المسلمين، بان المسيحي اقل وطنية"! وكيف تم استدراج المطران الى الاقرار بهذه الدونية الوطنية، فلم يترك لكل واحد من مئات آلاف المسيحيين في هذه البلاد، (اذا كان يقصد هنا فقط) حرية تصنيف نفسه في الخانة التي يريد(!)، كما ترك له حرية ترتيب اولويات هويته.
ثم حبذا لو عرفنا من الصحافيين ومن سيادته، ما هو المعيار "العلمي" الذي اعتمداه لقياس منسوب الوطنية، أهو استفتاء مثلا؟ وهل بنفس هذا المعيار يمكن قياس مستوى الخيانة لدى جميع الطوائف؟ وهدفي من ذلك معرفة الحصة النسبية للطائفة المسيحية من الخونة، حتى لا تتجاوزها كثيرا!
صحيح ان بعض العائلات المسيحية اللبنانية، قد باعت الصهيونية مساحات شاسعة من الارض، قبل قيام الدولة، وإلا فأين تقوم الدول؟ ولكن أفلا نتذكر كيف واصل البعض من مختلف الطوائف، وبعد قيام الدولة "بالسلامة"، تشغيل مكاتب السمسرة وبيع الارض؟ وربما ما زال يعيش في كل قرية ومدينة، سمسار او اكثر، ممن كانوا يطوفون ازقتها ليلا، برفقة "النحماني" (اليهودي الطبراني المكلف بشراء الارض العربية) يقنعون بسطاء شعبنا ويغرونهم بالمال؟!!
ذات عصر، احتل بلادنا غاز، تركي القومية، مسلم الديانة.
ولكن الصبغة الاسلامية لهذه المنطقة، لم تمنعه طوال اربعة قرون، من محاولة تنفيذ خطة لأسرلة- عفوا- لتتريك العرب. وكان ذلك حافزا لبعض الوطنيين العرب، كي يهبوا ضد هذا المشروع، وقد أوصلتهم هبتهم تلك، لا الى احضان امراء النفط، بل الى اعواد المشانق في سوريا ولبنان وفلسطين. ففي الدفعة الاولى (في 21/8/1915)، تم شنق الثوار الاحد عشر في ساحة البرج البيروتية (التي سميت فيما بعد ميدان الشهداء)، وكان احد هؤلاء الاحد عشر مسيحيا! (ربما كانت هذه نسبة المسيحيين في سوريا ولبنان وفلسطين!!). اما القافلة الثانية من الشهداء، فكانت تضم 17 مسلما و4 مسيحيين.
وهكذا استمرت حملة التنكيل والتتريك والقتل لتطويع اهل البلاد. وبعد 400 عام ونيف، زال الاستعمار التركي، ورفرفت اعلام الاستقلال العربية، مخضبة بدماء الوطنيين، المسلمين والمسيحيين. (راجع كتاب "البستان العامر والروض الزاهر" لمعده غطاس غطاس).
أفليس من سخرية القدر، ان الاسلاميين الحاليين يأخذون على هؤلاء المسيحيين!! اختراع بدعة القومية، وفي الوقت نفسه تطلع علينا اصوات تقترب من نفي الوطنية عن طائفة بأكملها!!
وبسرعة البرق نطير مع الزمن الى اواسط الستينيات، حين انطلقت رصاصة المقاومة الاولى ضد المحتل، الصهيوني هذه المرة، وهذه المرة ايضا كان في طليعة المقاومين رجال مسيحيون من امثال المرحوم جورج حبش (الجبهة الشعبية) وطويل العمر نايف حواتمة (الجبهة الدمقراطية)، وغيرهما!
ونصل الى الذين قادوا الحركة الوطنية في اسرائيل بعد قيامها. ألم يكن في مقدمة هؤلاء المرحوم اميل توما وطويل العمر توفيق طوبي والمرحوم اميل حبيبي والمرحوم رمزي الخوري، الى جانب توفيق زياد وسليم القاسم واسعد يوسف وغيرهم وغيرهم!!؟
وهل كان هؤلاء، وهم يقذفون بأنفسهم امام الدبابات لمنع "الهجيج"، متأكدين من انهم لن يقضوا تحت جنازيرها!
اذن قضية الاستعداد للاستشهاد كانت واردة بقوة، وكانت واردة بقوة في ذهن سهى بشارة الشيوعية اللبنانية المسيحية، حين انقضت على العميل انطوان لحد، المسيحي، فنجا من الموت، مكتفيا بالشلل وذل العمالة واللجوء حتى يومنا هذا!
وفي عصر قديم ما، عاش رجل قوي جدا. وذات ليلة ليس فيها قمر، جاء غريب اقوى منه، واحتل بيته بعد ان طرده منه. وعبثا حاول اخراج هذا الغازي من البيت، لم يترك وسيلة الا واتبعها. أصدر المنشور في قفا المنشور. رفع لافتات التنديد على مفارق غزة ورفح وخانيونس، وربما على مفارق العياضية والناعمة ومسكنة! وجّه الجاهات. استغاث بالامم المتحدة و"بلكي بيمون" (كما تسمي جدتي الامين العام الحالي للامم المتحدة "بان كي مون")، لكن كل ذلك لم يحرر مرحاضا في المنزل من المحتل! فماذا يفعل؟
اعتكف في محددة غزاوية صغيرة بضعة ايام، تمكن خلالها من صنع حزام ناسف، تزنر بالحزام، وجعل الرب (الذي كان جاهزا على الدوام لتلبية اوامر اليهود!) يرافقه، الى حيث الاحتفال. لم يهمه ان نساءً واطفالا وشيوخا كانوا يحتفلون. ولم يتأثر بوجود ثلاثة آلاف فلسطيني على سطح البناية، كما تقول الرواية التوراتية. (والله برج عزرائيلي لا يتسع سطحه لمثل هذا العدد!).
وفي أوج الطرب والمرح والفرح، ضغط شمشون على كبسة في الحزام! هو لم يكن حزاما كما قد تكونون قد فهمتهم! لكن أليس القاضي شمشون اول استشهادي بهذا المعنى؟ وهو عندما جذب اعمدة القاعة صارخا "عليّ وعلى اعدائي". ألم يكن كمن يفجر القنابل في نفسه وفي غيره؟ كانت قنابله من داخله، لم تكن القنابل الانشطارية قد وجدت بعد!! وأليس هذا هو بعض "المشترك مع الديانة اليهودية" يا صاحب السيادة؟!!
وهل مدعاة للدهشة، اذا ما قام أشرف ابو رحمة (هل هو مسيحي؟) او احد ابنائه بعملية استشهادية/انتحارية، من قبيل عملية "علي وعلى اعدائي"؟؟!
اشرف ابو رحمة هذا من نعلين، كان يشارك في مظاهرة سلمية ضد جدار ابتلع ارضه. ألقوا القبض عليه. عصبوا عينيه وكبلوا يديه خلف ظهره.
ومع ذلك صوب الجندي المحتل فوهة بندقيته نحوه.. وأطلق النار، لم تستطع أيدي الجنود الممسكة به منع انهياره. الجندي أكد ان قائده هو الذي امره باطلاق النار. بينما نفى الضابط ذلك مؤكدا انه امر الجندي بتخويفه فقط!! كأن ما كان يعانيه من رعب وخوف لا يكفي. أليس الانسان ابن الظروف يا صاحب السيادة؟؟!
وفي مصر الناصرية، وإبان العدوان الثلاثي عليها عام 1956، فعل جول جمال الشيء نفسه. "شكشك" القنابل حول خصره، وخاض في البحر بزورقه لا يلتفت الى شيء، وعندما صار تحت البارجة الفرنسية "جان بار" ضغط على الزر، تطايرت البارجة، وتطاير الـ 2055 جنديا فرنسيا الذين كانوا في طريقهم لمحاربة المصريين وقتل نظامهم الناصري الوطني الجديد. وطارت اشلاء جول جمال طبعا!
وجول جمال لمن لا يعرف، هو طالب جامعي سوري.... مسيحي، اورثوذكسي، أي على شاكلة "الأرعن"، المطران عطا الله حنا!! تطوع للدفاع عن الوطن العربي، كما فعل الكثيرون من المسيحيين الذين حاربوا الصليبيين الى جانب صلاح الدين.
ان الوطنية يا صاحب السيادة، لا دين لها. قد يكون الانسان وطنيا بغض النظر عن معتقده الديني. وقد يكون خائنا بغض النظر عن معتقده الديني ايضا! وقد يكون وطنيا وعلى غير دين حتى! فهل ثمة من ينكر على الفيتناميين وطنيتهم، التي جعلت الفرنسيين والامريكيين يركعون امامهم!!
وأخيرا، قد تكون حققت بعض الربح بسبب هذه المقابلة في زاوية ما، لكنك قطعا حققت عكس ذلك في زاوية اخرى، وفي داخل "حظيرة خرافك" بالذات...
*ومضة*
الله يهدي البال- خرائط كل ليلة بليلتها، تبين الشوارع المغلقة والشوارع المفتوحة، مساعدة للناس في الوصول الى منازلهم!!
يوسف فرح
السبت 26/7/2008