موسم الحرّ هذا لا يستدعي أهمّ من الماء. تبدو المسألة بسيطة أو «مثل شُربة الميّ»، كمقولتنا الشعبية. مع ذلك، فهل إمكان شُرب الماء والحق فيه «مثل شُربة الميّ» فعلاً؟ هنا لا تعود المسألة بسيطة. كيف يمكننا تطبيق موقف سياسي وأخلاقي بالنسبة للماء؟ فمن ناحية، يبدو شُرب الماء مفهوماً ضمناً، أو قضية لا يحتاج إخضاعها للأخلاق. ولكن الوضع يتغيّر، مثلاً، في الحالات التي تشرب أنت فيها بينما يعطش آخرون. لسنا بحاجة إلى تنظير كثير. يكفي النظر إلى ما يحدث في عالمنا. أصلاً، فالحسم الأخلاقي برأيي يجب أن يجري من الأرض وعليها، وليس في أيّ «أوليمب» أو سماء.
في تقرير لمنظمة الصليب الأحمر عام 1995 جاء أنه «من المحتمل أثناء النزاعات المسلحة أن تكون المياه هدفاً للحرب، أو تستعمل كوسيلة للحرب. وفي كلتا الحالتين (...) لا يمكن التوفيق بينها (الحرب) وبين مبادئ القانون الدولي الإنساني وقواعده».
ويقول تقرير للأمم المتحدة عام 2002 إن نحو مليوني إنسان أفريقي يموتون (يموتون!) سنوياً بسبب عدم معالجة توفير المياه النقية أو تنقيتها بصورة صحيحة. وهناك أكثر من مليار شخص في جميع أنحاء العالم لا يتمكنون من الحصول على ماء نظيف للشرب، ونصف سكان المعمورة يفتقرون إلى المتطلبات الصحية العامة المتعلقة بالماء. أما «منظمة العمل السكاني» فكانت توقعت في تقرير لها (عام 2000) أن ثلاثة مليارات إنسان قد يعانون نقصاً خطيراً في الماء بحلول عام 2025. ومن الواضح أنّ الحديث ليس عن سكان الدول الأكثر صناعية أو G8 طبعاً! منظمة «الفاو»، منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، تنشر على موقعها الإلكتروني «خريطة للجوع». بحسب مفتاح الخارطة، فإن اللونين الأحمر والبرتقالي يدلان على الأوضاع الأكثر خطورة. وهما اللونان اللذان يغطيان معظم رقعة القارة الأفريقية ولا يمسّان الشمال الأوروبي والأميركي.
في أحد تقارير منظمة «بتسليم» الإسرائيلية لحقوق الإنسان جاء ما يأتي: الفلسطيني يستهلك من الماء سُدس ما يستهلكه الإسرائيلي. إسرائيل تسيطر على 80 في المئة من مخزون المياه في الضفة الغربية، وتُبقي20 في المئة فقط للفلسطينيّين. وهي تستغل ثُلث مياه نهر الأردن وروافده مقابل صفر للفلسطينيين. وهناك 218 قرية فلسطينية يعيش فيها 197000 إنسان غير مرتبطين بشبكة مياه. وحتى حين يحاولون إيجاد وسائل بديلة (آبار، عيون وغيرها)، تأتي قيود الاحتلال على تحرّكهم لتقلّص حتى من مساحة هذا البديل. مع هذا، فقبل أسابيع، حذّر المسؤول الإسرائيلي السابق عن سلطة المياه من أن الإسرائيليين قد يستيقظون يوماً فلا يجدون ماءً في صنابيرهم.
تمعّنتُ في مقولته وتذكّرت كيف أنه سنوياً، كلّما بدأ موسم المطر، يعود إليّ السؤال نفسه وأنا أرى كميات ماء المطر الهائلة تجري في الشوارع وتسدّها أحياناً، لكنها تتابع طريقها لتذهب سُدى. لماذا يجب تركها تغيب في البحر، أو في جدول أو وادٍ ينتهي إليه، وليس في أيّ مجمع أو سدّ؟ كان هذا سيمنع، على الأقلّ، تسجيل جريمة أخرى في سجلّ جرائم الحرب الإسرائيلية، والمتمثلة هنا في سرقة المياه من الضفة الغربية والجولان!
هناك العديد من الأجوبة عن السؤال السالف، أهمّها أن سياسات حكومات إسرائيل ليست مشغولة بالماء (النقيّ!) بل تغوص في مستنقعات ليس فيها حتى ماء آسن، بل محتويات من نوع: احتلال، حروب، استيطان، وتقديم خدمات مجانية (قياساً بمصالح المواطنين الحقيقية) للمشاريع التوسعية والاستغلالية الأميركية.
هناك طريقة أخرى لحلّ مشكلة النقص ولو جزئياً، هي تحلية مياه مالحة ـــ مياه البحر. لكن هذا غير ملائم في نظر سلطات إسرائيل. لماذا؟ لأنها مشاريع عالية التكاليف، بحسب زعم مسؤول في وزارة المالية، كما قال لإحدى الصحف. أما مشاريع التسلّح وتكديس جميع الآلات والأدوات والتجهيزات والمنظومات للتدمير والقتل بالمليارات، فلا يسري عليها قيْد «ارتفاع التكاليف» هذا.
وحتى تكتمل الصورة، أدلى بدلوه (الفارغ) أيضاً، «المسؤول عن قياس منسوب مياه بحيرة طبريا». فبعد أن نُشر عن أن منسوب ماء البحيرة وصل إلى آخر أطراف الخط الأحمر، لم يجد حضرته سوى هذه النصيحة: «صلّوا كي يكون الشتاء المقبل أفضل».
بهذا الاستغباء وبهذه الغيبية يواجه رجال السلطة اليوم أزمات الطبيعة والمجتمع في دولة إسرائيل العصرية.
إذًا، يا حضرات المواطنين، رهائن سياسات المغامرات العسكرية والتوسّعية (المنكفئة)، «صلّوا للمطر» بدلاً من التفكير في مواجهة أولويات الاقتصاد وتغيير أهداف السياسة. هنا، لا يعود القحط في الماء فقط، بل يتبيّن أنه قحط في أخلاق الأدوار العليا، لأنه يعني تضليل الجمهور وتوجيهه إلى غيبيّات أقرب للشعوذة بدلاً من احترام عقله، كيلا يبدأ بالتفكير بما يجب القيام به واقعياً، وبما لا يحصل فعلياً.
كل هذا والفرد في إسرائيل يتثاءب أمام الحرّ هارباً إلى مكيّفه الشخصي، منغلقاً على نفسه، منقطعاً حتى عن مصالحه الحقيقية. «يلّا نفسي» يقول معظم أفراد هذا المجتمع الإسرائيلي، من دون أن يهتموا بحمل أي همّ جماعي مدنيّ حقيقي. هذا ليس صدفة طبعاً، بل هو النتيجة المتوقعة بالضرورة لسيطرة معايير الفرديّة في نظام رأسمالي متوحّش لا يرفع سوى قيمة المصلحة المادية الشخصية. ويعكف بشكل مخطّط على تسميم عقول شرائح مجتمعية واسعة بأوهام التفوّق العرقي.
هذا أخطر من القحط نفسه، لأنه يمكّن السلطة من الهرب من مسؤوليتها، ومواصلة رفد الوعي الزائف لدى معظم المجتمع بالمزيد والمزيد من جرعات السموم الغيبيّة، أو بتبرير العدوان الدائم على الفلسطينيين وعلى المحيط... بحثاً عن توفير الماء لإسرائيل!
عن "الأخبار" اللبنانية
هشام نفاع *
الجمعة 25/7/2008