في نقطة تحوّل فاصلة في مسار الحرب العالمية الأولى، عندما بدأت الكفّة تميل لمصلحة «الحلفاء»، ظهرت فكرة الكيانات العربية القائمة اليوم، وكان أوضحها ما رسمته معاهدة «سايكس ـــ بيكو». كان ذلك في عام 1917. هل صدفة أنه في هذا التاريخ عينه، صدر وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؟
بعد الحرب العالمية الثانية، شهد المشرق العربي حدثين لافتين: كان الأول استقلال الكيانات العربية التي رسمت جغرافيتها إرادات القوى الاستعمارية ومصالحها وفق خارطة «سايكس ـــ بيكو». وكان الثاني إقامة دولة إسرائيل فوق القسم الأكبر من أرض فلسطين.
مرة أخرى يبرز السؤال نفسه: هل صدفة تزامن «استقلال» بلدان المشرق العربي مع إقامة دولة إسرائيل؟
إنه لذو دلالة تذكّر حقيقة بأنّ الأسر والعائلات التي وُضعت في الواجهة كصانعة للاستقلال، وتولّت السلطة في الأنظمة الملكية والجمهورية على حد سواء، كانت تلك التي ترعرعت في كنف الاستعمار، واستمدّت مكانتها ونفوذها وسلطتها من العمل في خدمته: الأسرة الهاشمية في العراق والأردن، والسعودية في نجد والحجاز، وأسرة محمد علي في مصر، ومعظم العائلات السياسية في سوريا ولبنان.
ثم جاءت الخطوة الثانية نحو السيطرة الاستعمارية الجديدة ـــ الأميركية تحديدا ـــ على هذا الشرق الأوسط، تحت شعار ملء الفراغ، وكان قوامها الآتي: تحقيق «السلام» بين الدول العربية المستقلّة وإسرائيل، وإقامة حلف «دفاعي» في المنطقة، يكمل سلسلة الأحلاف التي كان الغرب بقيادة أميركا قد أنشأها لتطويق الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، «الناتو» في الغرب، و«السياتو» في الشرق، ثم «السنتو» هنا عندنا في الوسط.
في مصر، كبرى الدول العربية، كان نفرٌ من الضباط الشباب قد استولى على السلطة، وأطاح بأسرة محمد علي.
«إنه جمال عبد الناصر، الرجل القوي في النظام الجديد وليس محمد نجيب»، همس السفير الأمريكي في أذن وزير الخارجية جون فوستر دالاس الذي كان ينزل من الطائرة في مطار القاهرة في أحد أيام شهر آذار 1953.
إلى مائدة عشاء جلس الرجلان. الشاب جمال عبد الناصر بلباسه العسكري ونظراته المتحفّزة، والكهل المحنّك وزير خارجية الدولة العظمى أميركا بكل أناقته ووقاره.
تحدث دالاس عن الفراغ وملء الفراغ في الشرق الأوسط، وعن الخطر الشيوعي وضرورة إقامة «حلف إسلامي»، وقواعد عسكرية للحلف. وتحدث أيضا عن السلام بين مصر وإسرائيل. وردّ عبد الناصر على كل ما أثاره دالاس. اختلف الرجلان، وبدأ فصل جديد من الصراع في الشرق الأوسط.
كانت مسألة التحرر الوطني هي القضية الأساس في مشروع عبد الناصر ومحور تفكيره. وحول هذا المحور تشكلت موضوعات استراتيجية كبرى: الصراع الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. موقع مصر في هذا الصراع. المواجهة مع الاستعمار. الأمن القومي. التنمية المستقلة وإعادة تشكيل بنية المجتمع بما يتلاءم وهدف التحرر الوطني...
في كل من هذه الموضوعات يطول الحديث. لنوجز بالآتي:
ـــ حدّدت ثورة تموز موقعها في قلب حركة التحرر العالمية، التي كانت تنفجر في عالم المستعمرات القديمة، من آسيا إلى أفريقيا إلى أميركا اللاتينية. واكتسبت، بالدور النشيط الذي لعبته، موقع الصدارة في هذه الحركة العالمية، شاركت وساندت وألهمت. وفي صراعها الثابت والشجاع ضد الاستعمار بأشكاله كلها، حدّدت تحالفها الموضوعي في المعسكر المواجه للاستعمار الرأسمالي، المعسكر الاشتراكي.
ـــ في موضوع الأمن القومي، اكتشف عبد الناصر المضمون الاستراتيجي للعروبة، لا كهوية حضارية جامعة وحسب، ولكن كمدى استراتيجي لبناء منظومة الأمن القومي العربي المستقل، في مواجهة سياسة الأحلاف الاستعمارية، ولمحاصرة دور إسرائيل في المنطقة وإسقاطه.
ـــ في موضوع التنمية المستقلة، اكتشف عبد الناصر مرة أخرى العروبة كمجال استراتيجي لتحقيق التنمية المستقلة، فطرح مشروع التكامل الاقتصادي العربي.
وعلى مدى 18عاما، بأيامها ولياليها، بل بكل دقيقة فيها، قاتل عبد الناصر على كل الجبهات. وفي صراعه المرير من أجل الحرية والكرامة ضد كل عوامل التخلّف والضعف والهوان، اكتشف عبد الناصر ذلك الحلف الجهنمي الذي طالما تحدث عنه بين الاستعمار والصهيونية والرجعيات العربية.
هي الأمّة العربية، قاتلت على كل الجبهات تحت قيادة عبد الناصر، وصنعت حقبة عظيمة في تاريخها، زاخرة بالمعارك المجيدة والانتصارات، استعادت فيها الثقة بالنفس والإرادة والأمل.
ذلك التاريخ العظيم في حياة الأمة العربية، الذي يرمون به في غياهب الظلمات، يجب، من أجل الأمة لا من أجل عبد الناصر، أن يُعاد إلى النور، وأن يمتلئ به وعي الأجيال الشابة التي لم تعش تلك الحقبة.
إن الذين يحاولون حبس تلك المرحلة العظيمة في هزيمة حزيران 1967، لا يقتلون جمال عبد الناصر، ولكنهم يقتلون الوعي والأمل في الإنسان العربي، ويقتلون أيضا الإرادة.
واليوم؟ كيانات الشرق الأوسط العربية، ومعها إسرائيل، فقدت «شرعيتها» التاريخية المستندة إلى نظام دولي انقضى. ثمّة مخاض عنيف، في طول العالم وعرضه، لولادة نظام عالمي جديد.
أميركا، وفي الطريق إلى نظامها الدولي الجديد، تعمل على «ملء الفراغ» في الشرق الأوسط من خلال مشروع حلف عربي إسلامي «معتدل» مع إسرائيل. إسرائيل، كما عشية قيامها في عام 1948، تخطّط وتعمل من أجل اكتساب دور في خريطة هذا النظام الدولي من خلال مركزية دورها في نظام الشرق الأوسط الجديد.
الدول العربية بأسرها، الحاكمة والمهيمنة، كما قبل ستين سنة، تستجدي «وظيفة» لدى القوة الاستعمارية الأكبر، أميركا، في نظام لا تشارك في صنعه، ولو على حساب حرية الأمة وكرامتها. الأمة العربية يلفّها اليأس والضياع، وتخنقها مرارة الانكسار.
الإنسان العربي ممزّق بين الاستسلام والرفض، بين الإحساس الدفين بالكرامة، والذل الذي يقتات بما يُرمى إليه من قاذورات المال النفطي.
وفي رحم هذا الواقع، تنفجر مقاومات تعبّر عن الرفض العربي، وإن كانت تحمل هويات قطرية أو دينية أو عشائرية...
هكذا عبّر الرفض العربي عن نفسه قبل جمال عبد الناصر.
قيمة عبد الناصر أنه نقل المقاومات التي كانت تستجيب لبعض تحدّيات حاضرها إلى حركة تحرر وطني تجيب عن كل تحديات مستقبل الأمة، وهكذا تحوّلت هوياتها القطرية والدينية والطائفية والعشائرية إلى الهوية القومية.
ولكن عبد الناصر مات. سلامٌ عليه.
وسلامٌ عليها تنبعث حيّةً من جديد، هذه التي ناضل من أجلها عبد الناصر: حركة التحرر العربية.
* عن صحيفة "الأخبار" اللبنانية
نجاح واكيم
الخميس 24/7/2008