قبل ستة وخمسين سنة انفجر البركان في ارض الكنانة، انتصرت ارادة الشعب المصري من خلال ثورته المباركة بقيادة الضباط الاحرار وخالد الذكر الرئيس جمال عبد الناصر الذي سطع نور مواقفه الشجاعة والتقدمية في جميع ارجاء الدنيا. قبل ستة وخمسين عاما في الثالث والعشرين من تموز انتصرت ثورة التحرر الوطني المصري التي اطاحت بالنظام الملكي المتعفن مطية ثقل الانتداب الاستعماري البريطاني على مصر. لقد كان انتصار ثورة يوليو المصرية انعكاسا وتجسيدا لارتفاع سقف موجات حركات التحرر القومي الوطنية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مرحلة القضاء على الوحش الهتلري النازي، على السرطان الفاشي وما رافقه من انهيار وتفكك الامبراطوريات الاستعمارية، خاصة الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية، ونيل العديد من بلدان المستعمرات في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية استقلالها السياسي.
قد يسأل البعض ما هي العبرة للكتابة اليوم عن ثورة وعن مرحلة مرتا منذ زمن بعيد، خاصة وان مصر النظام اليوم، ومنذ حكم السادات الاسود، النقيض الصارخ لمرحلة الرئيس خالد الذكر جمال عبد الناصر.
وبرأينا ان التناقض الصارخ في طابع ومدلول بين مراحل التطور في مصر، كشف ابعاد واسقاطات هذا التناقض يكتسب اليوم اهمية قصوى من حيث المدلول السياسي، خاصة في ظل الردة الخيانية الرهيبة لمعظم الانظمة العربية التي اصبح مفهوم القومية الممارس على ايديها مرادفا للخيانة الوطنية، ومفهوم الصراع القومي والتضامن القومي لا يقف عند حدود طمس جوهر ومدلول الصراع الطبقي، بل اصبح يعني التواطؤ العربي مع اعداء المصالح الحقيقية القومية الوطنية لشعوبهم. فالقومية بحد ذاتها ليست ايديولوجيا او برنامجا ايديولوجيا – سياسيا، بل مفهوم بجميع مجموعة من الناس تربط فيما بينهم عدة عوامل مشتركة مثل اللغة والارض والعلاقات الاقتصادية – الاجتماعية والتراث التاريخي والتقاليد والدين.. اما خصخصة القومية الى تيارات سياسية فان كل تيار قومي وطني يمثل عمليا مصلحة شريحة اجتماعية او شرائح اجتماعية من قومه او من شعبه متعدد القوميات. ولعل مراحل تطور الثورة المصرية تعكس وتؤكد ما نقوله.
فالثورة المصرية التي هجرها الضباط الاحرار المصريين، الذي عاد قسم منهم محبطا من جراء المؤامرة الاستعمارية – الصهيونية – الرجعية العربية على الشعب العربي الفلسطيني والتي ولدت نكبته الكارثية بتحويله الى شعب من اللاجئين في الشتات القسري، هذه الثورة الهبت مشاعر وعطف وتأييد مختلف التيارات السياسية والقوى الشعبية والاجتماعية المصرية التي كانت متضررة من النظام الملكي والاستعماري البغيض. فقد شارك في الثورة وايدها في البداية حركة الاخوان المسلمين والحزب الشيوعي ومختلف التيارات القومية والفلاحون.. والسؤال الذي طرح نفسه امام قيادة الثورة المصرية التي كانت تشمل مختلف التيارات والميول السياسية الاجتماعية اليمينية والمحافظة واليسارية، ماذا بعد الاطاحة بالنظام البائد؟ أي طريق ستختطه مصر يمكن ان يطور مصر تنمويا ويجلب السعادة لشعبها، وخاصة لغالبيته من الفلاحين وفقراء المدن؟ وبضغط من التيار اليميني المحافظ في مجلس الثورة امثال محمد نجيب وانور السادات توجه النظام المصري الى الغرب الى الولايات المتحدة الامريكية والمؤسسات المالية الامبريالية الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي طالبا المعونة لتحسين اوضاع مصر الاقتصادية والمعيشية.
لقد ادرك جمال عبد الناصر وزملاؤه في مجلس الثورة امثال خالد محيي الدين وعلي صبري وغيرهما ان حيتان الدول الرأسمالية لا تقدم "لوجه الله تعالى" المساعدات للدول النامية، بل تقدم مساعدات مشروطة باملاءات سياسية تتيح لها التدخل في بلورة طابع التطور الرأسمالي الذي يخدم شريحة خفيفة من المجتمع وعلى حساب استغلال وزيادة فقر الجماهير الواسعة من العاملين والفلاحين. كما ادرك الرئيس جمال عبد الناصر ان ضمان تطور مصر الحضاري الخلاق وانتشال الشعب المصري من هوة صحراء التخلف والفقر والتقاطب الاجتماعي الصارخ يتطلب الجرأة والشجاعة في اختيار طريق التطور الذي يعتمد على قاعدتين اساسيتين، القاعدة الاولى طريق التحولات الاقتصادية – الاجتماعية عميقة الجذور التي تخدم مصالح الطبقات والشرائح الاجتماعية التي لها مصلحة في الثورة – تحالف قوى الشعب العاملة من عمال وفلاحين ورأسمالية وطنية.
والقاعدة الثانية – ان تحدد الثورة المصرية موقع مصر على خارطة الصراع العالمي، هل هي مع والى جانب القوى الثورية العالمية التي تشمل الاتحاد السوفييتي واسرة الدول الاشتراكية والبلدان النامية وانظمتها المناهضة للامبريالية والاحزاب والحركات العمالية الثورية في البلدان الرأسمالية، ام مع معسكر المستعمرين.
وادرك الرئيس جمال عبد الناصر ان المصلحة القومية الوطنية للشعب المصري تستدعي توثيق العلاقات متعددة الجوانب، العسكرية والاقتصادية والثقافية مع الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية فبمساعدة الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية تم بناء القاعدة الصناعية في مصر، من مصانع النسيج في حلوان وغيرها، والذي توج ببناء السد العالي، اسطورة العصر الذي ادى الى دفع عملية تطور مصر اقتصاديا وتوفير ملايين اماكن العمل لابناء وبنات الشعب المصري وبلورة طلائع فصائل الطبقة العاملة المصرية. ومقابل الثورة في المجال الصناعي اكمل النظام الناصري دائرة الثورة بالاصلاحات الجذرية في المجال الزراعي حيث صادر املاك الاقطاعيين الكبار ووزع الارض على الفلاحين تحت الشعار "الارض لمن يفلحها".
ولمواجهة الطاغوت الاستعماري كان الرئيس جمال عبد الناصر من رؤساء العالم الثالث، الذين بادروا لاقامة التكتل السياسي العالمي الذي اطلق عليه في البداية اسم تكتل "دول الحياد الايجابي" بين المعسكرين، المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، وتحت شعار "نعادي من يعادينا ونصادق من يصادقنا". وبطابعه كان هذا التكتل السياسي للبلدان النامية معاديا للاستعمار ومدافعا عن استقلالية البلدان النامية المتحررة حديثا من القيد الاستعماري. وفي مؤتمر باندونغ في اندونيسيا سنة الخمسة والخمسين من القرن المنصرم عقد مؤتمر دول عدم الانحياز للبلدان النامية، وقد برز جمال عبد الناصر الى جانب نهرو والهندي وتيتو اليوغسلافي واحمد سوكارنو الاندونيسي ونكروما الغاني كأبرز قادة حركة التحرر الوطني العالمية.
ونظام يخدم المصالح الحقيقية القومية الوطنية لشعبه كان لا مفر من ان يقدم على تأميم المصالح الاجنبية الكبرى التي كانت تمتص دماء وخيرات الشعب المصري. والرئيس عبد الناصر اتخذ خطوة وطنية شجاعة بتأميم شركة قناة السويس الفرنسية الاستعمارية المساهمة واعاد مصدر الدخل الهام هذا الى ايدي اصحابها، الى الشعب المصري. ونظام يخدم المصالح الوطنية القومية لشعبه ويقف مساندا وداعما لقرارات حركة التحرر القومي الجزائرية والانغولية والتونسية والفلسطينية وغيرها، نظام يؤمم المصالح الاستعمارية في بلاده ويوسع دائرة الممارسة الدمقراطية في بلاده ويوثق علاقات التعاون والصداقة مع الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية ودول عدم الانحياز، فنظام كنظام الرئيس جمال عبد الناصر هذه هويته كان محط انظار التآمر الاستعماري والرجعي ضده. فكم مرة حاولت الرجعية المصرية والعربية اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، وشنت قوى العدوان والاستعمار الصهيونية الحرب الثلاثية البريطانية – الفرنسية – الاسرائيلية في الستة والخمسين وبعد تأميم مصر عبد الناصر لقناة السويس وذلك بهدف الاطاحة بنظام عبد الناصر المعادي للاستعمار، وفي السبعة والستين وبدعم امريكي شنت اسرائيل حرب حزيران وكان هدفها المركزي اسقاط نظام عبد الناصر كمقدمة لضرب حركة التحرر الوطني العربية والعالمية.
لقد صمد نظام عبد الناصرة كالطول الشامخ في وجه عواصف المؤامرات والحروب الاستعمارية لأنه اثبت مصداقيته جماهيريا، خدم مصالح الجماهير الكادحة فصانت بملايينها نظامه. ولكن بغياب حزب ثوري طبقي حقيقي يجسد مصالح الطبقة العاملة المصرية، من عمال وفلاحين ومثقفين ثوريين، ويحمي الثورة من الاختراق المعادي، بغياب صاحب المصلحة في الثورات وصيانتها بفصائله المنظمة فكريا وسياسيا وتنظيميا وعسكريا، بغياب صمام الامان الحزبي استطاع انور السادات ان يقود الردة الخيانية على مختلف جبهات التطور الداخلية والخارجية. فداخليا صادر الارض من الفلاحين واعادها للاقطاعيين ووضع الصناعات الوطنية بأيدي لصوص الخصخصة وركع في محراب حظيرة التدجين الامريكية بعقد صلح انفرادي مع اسرائيل مخرجا مصر من دائرة الصراع الاسرائيلي – العربي وفي وقت لا يزال فيه الاحتلال الاسرائيلي جاثما على المناطق المحتلة الفلسطينية وتنكر حق الشعب العربي الفلسطيني بالحرية والدولة والقدس والعودة.
ان ردة السادات الخيانية بداية لمرحلة ردة حركة التحرر الوطني العربية والعالمية، خاصة بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي. فالتواطؤ مع استراتيجية الهيمنة الامريكية – الاسرائيلية في المنطقة وعالميا اصبحت الهوية المميزة "للانظمة القومية المعتدلة"، حتى لو كانت هذه الاستراتيجية معادية لمصالح الشعوب العربية او الامن القومي العربي. كلنا يتذكر موقف بعض الانظمة العربية مثل مصر والسعودية والاردن ابان حرب تموز الفين وستة العدوانية الاسرائيلية – الامريكية على لبنان المقاومة الوطنية كيف ان هذه الانظمة كانت مع المعتدي الجلاد ضد الضحية التي ببسالتها وقوة حقها مرغت انف المعتدين بالتراب – فهل انتصار المقاومة اللبنانية وحزب الله يسطر بداية مرحلة جديدة لنهوض حركة التحرر الوطني من تحت الركام من جديد. الناس الاحرار يقارنون اليوم بين الرئيس خالد الذكر والشيخ حسن نصرالله كأبطال القضية القومية الوطنية وليس القومجية الزائفة الممكيجة بالمساحيق الامبريالية. ولتحيا ذكرى ثورة 23 يوليو ومعها ذكرى بطلها الخالد ابو خالد جمال عبد الناصر وشعب مصر الطيب الذي يمهل ولا يهمل.
د. احمد سعد *
الأربعاء 23/7/2008