يوم اقتُلعت "التينة الدمقراطية"
كنّا قد انتقلنا الى العيش في دارنا "الجديدة"؛ جديدة قياسًا بدارنا القديمة زمنيًا، وكذلك من حيث معمارها العاديّ المشابه لما صار يُبنى من دور حديثة في القرية. تلك القديمة هي دار جدي وجدتي. كانت دارًا تكاملت على مراحل كما أستنتج اليوم. في كل مرّة، وحسبما يسُّرَه الحالُ الضيّق عمومًا، كانت تُضاف اليها غرفة. لاحقًا أقيمت غرفتان واسعتان جدًا على السطح، فيهما كبرتُ طفلا ولعبت على قطعة السطح التي تبقّت أمامهما. لو ظلّ هذا السطح موجودًا لكنت أرغب اليوم بقضاء جميع مساءاتي الصيفية عليه، لكن من اشتراها "جدّدها" بدوره، فذهبَ السطح ضحية للحداثة. في الطابق الأول، أَلأوّلْ، عاش جدّي وجدتي. كنا نُطلق على الغرفة الواسعة التي كانت للجلوس والطعام والنوم معًا بالتّناوب، اسمَ "البيت". هذا "البيت" كان خلاصة كل تلك الإستطرادات الإسمنية اللاحقة. أكاد لا أذكر جميع تفاصيله، لكني أشعر حتى اللحظة كم كان دافئًا شتاءً ومُنعشًا صيفًا. إحدى الصور التي تطفو دومًا في ذاكرتي، هي لجدّي النائم مبكرًا في الشتاء وقد تغطّى فوق اللحاف بعباءته السوداء الثقيلة ذات الرائحة التي أتشممها اليوم باستعادة غامضة كخليط عميق من الميرميّة والشاي الثقيل ودخان الحطب؛ عطرٌ صميميّ لغير غايات التبرّج. أمام الدار كانت حاكورة واسعة فيها شجرات مختلفة متآلفة: مشمشة، رمانة، خوخة، تينة، قراصيا، تفاحة (حمراء الثمار) وشجيرات عنب غُرست بعشوائية على الأطراف. كانت هناك أيضًا أحواض زهور أذكر منها لظرافة اسمها واحدة هي "الشاب الظريف"، وبلغتنا المحكية "شَبّ الزّريف"، وأخرى هي عُرف الديك، كانت تزهر عناقيد رفيعة عنّابية ليليّة اللون تتراوح على طرفيّ خشونة ونعومة معتدلتين، وكنت أستمتع بقطف بعضها خلسة وفرطها والتحديق في الصبغة اللامعة التي تتركها على أصابعي. وسط الحاكورة كانت تنضم إلينا مطلع الربيع، حتى تشرين، عنزات جدي الثماني، قبل أن تعود الى الرّاعي الذي يتعهّدها شتاءً. لا تزال في قلبي معزّة خاصة للعنزة "السّودا والبيضا"، خصوصًا أنها كانت تُسمّى على لسان الجميع كحقيقة ناجزة لا مجال للاعتراض والاستئناف عليها: "عنزة هشام". وكنت أصرّ على المشاركة في حلبِها صباحًا، فهي في النهاية عنزتي ولديّ حقوق ملكيّة عليها! لا أدري ما حلّ بها فيما بعد، ولربما أكلتُ من لحمها دون أن أدري! من تلك الدار انتقلنا الى الدار الجديدة في "الدّرجة". تلك التي يعيش فيها أهلي وأخوتي اليوم. يومها، حين كنت قبيل الخامسة عشر من عُمري، أرادوا توسيع الشارع المحاذي لدارنا. وهو ما كان يعني أخذ نحو ثلاثة أمتار على طول الأرض الملاصقة له، أرضنا. والداي وافقا بسخاء لأن هذا يخدم "المصلحة العامة". لكن ثمن السخاء كان يشمل أيضًا اقتلاع شجرة جوز كبيرة وشجرتي تين عتيقتين تلوح فيهما الكهولة الوقورة، واحدة "بياضيّة" وأخرى "بُقراطيّة"، كنّا نتضاحك أنا وأخوتي المترعرعين في بيت سياسيّ جدًا، ونحفظ ونفهم الكثير من مفردات السياسة مبكرًا، فسمّيناها "التينة الدمقراطيّة". في ذلك الصباح، كانت جدتي تجلس على أعلى الدرجات المؤدية الى الدار. الوقت صيف، خلال العطلة المدرسية، هكذا أذكر اللحظة، نهضتُ متأخرًا على صوت آليات تحفر وتضرب وتجرف، وخرجتُ. إقتربتُ من جدتي، وكانت متكوّرة على جسدها النّاحل بلباسها الأسود الكامل وغطاء رأسها الأبيض الناصع، وهي تحمل عكازها أمامها رغم أنها جالسة. عانقتها كعادتي وأنا أقول بعفوية يومية لا تحتاج الى تفكير: "سِتّا.."، لكنها لم تستقبلني بسيل قبلاتها المُعتاد وشعرت بها تبكي. جفلتُ وسكتُّ كمن خاب أمله، فيما أطلقت هي جملة بلون البرق الذي يخطف نوره عتمة لون الجبال: "هاي التينة أصغر من أبوك بستّ سنين، كنت أجيب مَيّ من عين النوم وأسقيها"، ثم خنقتها الدموع. قليلة هي النصوص التي انحفرت في وعيي ووجداني كهذا النصّ القصير الذي صاغه حزن جدتي، بما يشمل كل ما قرأته من نصوص في المدرسة والسجن والجامعة ومبنى الصحيفة والحياة عمومًا. فلا يوجد أقوى من نَصّ لسيدة فلسطينية تعبّر عن علاقتها بالأرض، بعفويّة خالصة ودموع ساخنة، من خلال مقارنة عمر شجرة زرعتها في أرضها بيديها منذ عقود وتُقتلع الآن أمام عينيها، بعمر ابنها. ثم يأتي من يقول لك: أرض بلا شعب.. هشام نفاع السبت 19/7/2008 |