*ان التحقيقات ولوائح الاتهام التي واجهتها مؤسسة الحكم الاسرائيلية خلال دورة حكم واحدة، تطرح أسئلة أكبر من الأشخاص المتهمين، ويتحول الكم الى كيف، ويصبح واضحا أن ثقافة الفساد هي سيدة الموقف الطاغية في كل الساحات*
ما يشهده البرلمان الاسرائيلي مؤخرا من انفلات موتور في تشريع القوانين، العنصرية نحو الداخل، والعدوانية نحو الخارج، ليس ظاهرة جديدة في السياسة الاسرائيلية، بل يشكل جزءا عضويا من المشهد الاسرائيلي المأزوم، يطفو على السطح كلما اشتدت أزمة السياسة الاسرائيلية، وكلما ضاقت النخب السائدة في اسرائيل بقواعد اللعبة الدمقراطية، وكلما أوصلت المؤسسة الحاكمة في اسرائيل، فرص الحل السياسي الى الباب الموصود، وضاقت بأية فرصة سياسية تلوح في الافق.
ان سلسلة القوانين المعادية للدمقراطية والمعادية للحلول السياسية التي أقرتها الكنيست مؤخرا، تكاد تكون نسخة مكررة عن الانفلات التشريعي المعادي للسلام والمعادي للدمقراطية وللشرعية السياسية للمواطنين العرب وشرعية مواطنتهم، الذي شهدته الكنيست الخامسة عشرة (1999- 2003)، بدءا من نهاية العام 2000، والذي شكل في حينه، مقدمة وانعكاسا في الوقت ذاته، لتصعيد العدوان الاحتلالي على الشعب الفلسطيني، و"انتفاضة" اسرائيلية رسمية، على العملية السياسية والانقلاب عليها وتدمير مقوماتها للمستقبل. لقد جرى تحت جنح الانفلات المذكور، تمرير خمسة عشر قانونا في مراحل تشريع مختلفة ودرجات متفاوتة، تهدف الى عرقلة أي تقدم محتمل في المفاوضات السياسية وتشترطه بشروط تعجيزية من جهة، وتفضي الى اقصاء الجماهير العربية في اسرائيل وممثليها في الكنيست عن دائرة القرار والتأثير، وتثبّت تحت طائل القانون، مقولة "يهودية الدولة". ان الثابت الاساسي في هذه الظاهرة السياسية الاسرائيلية، هو هذه العلاقة الجدلية بين تعمق العداء للسلام والحل السياسي، وتعمق العداء للجماهير العربية في اسرائيل والتحريض على شرعية مواطنتها. وأصبح الهجوم على فرص الحل السياسي، ملازما لهجوم مواز على موقع الجماهير العربية والقوى الدمقراطية اليهودية المتحالفة معها، وعلى حقها في لعب دورها السياسي على الساحة الاسرائيلية من جهة، في تزامن مع تدهور مكانة الدمقراطية في المجتمع الاسرائيلي التي أخذت المؤسسة السياسية تتعامل معها ومع حقوق الانسان والقانون الدولي، كعوائق من المفضل ازالتها من طريق "الاجماع القومي الصهيوني"، والالتفاف عليها كلما اشتدت أزمة الحكم البنيوية في اسرائيل، وفي كل مرة تظهر ولو بادرة شكلية للحل السياسي.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يهدف تشريع قانون الجولان بالقراءة الاولى في الكنيست مؤخرا، والقاضي باشتراط اي قرار بالانسحاب من الجولان المحتل بالحصول على تأييد أكثرية برلمانية غير عادية، لا تقل عن ثمانين عضو كنيست، من أصل مائة وعشرين عضوا، مدعّمة باستفتاء شعبي، الى الالغاء المسبق لوزن المواطنين العرب وقوى السلام والدمقراطية (حتى في تعريفها الواسع)، وممثليهم في الكنيست، واخراجهم خارج دائرة التأثير في القضايا الاساسية. ولم يكن من قبيل المصادفة ان يتزامن هذا القانون مع تشريع قانون "منع كل من يقوم بزيارة الى "دولة معادية" من أن يجري ترشيحه في قائمة للكنيست خلال سبعة أعوام تالية لزيارته"، وهو قانون موجه بامتياز ضد المواطنين والسياسيين العرب. لكن الحقيقة هي، ان القانون الذي يمنع مواطني اسرائيل (الهدف هو مواطنوها العرب) من زيارة "دولة معادية" وفق التعريف الاسرائيلي، قائم منذ سنوات، وفي القانون الاسرائيلي ما يكفي من النصوص والبنود، لمعاقبة من يرتكب مخالفة جنائية أو أمنية من خلال زيارة "لدولة معادية". لكن ما يميز القانون الجديد ليس العقاب الجنائي على مخالفة جنائية أو تجاوز أمني، فهذا يوفره القانون القائم. ان القانون الذي جرى تمريره في "عجقة" الانفلات التشريعي الذي نشهده في هذه الايام يطرح عقابا سياسيا، على "مخالفة" سياسية، لا على جرم جنائي أو أمني. انه قانون للارهاب السياسي، أكثر من كونه قانونًا لضمان أمن اسرائيل. ان اللجوء، قانونيا، الى مصادرة الحق في الترشح الى الكنيست كوسيلة للعقاب السياسي، يشكل حضيضا جديدا من الابتزاز السياسي العنصري وتدهور الدمقراطية الاسرائيلية نحو منزلق خطير. ان هذا الارهاب السياسي ليس مقصورا فقط على المواطنين العرب وحدهم. انه يبتغي ارهاب الجمهور اليهودي أيضا وتخويفه من الحل السياسي مع دول "ميّزها حتى الآن"، و"لا بد ان يميّزها دائما" وفق هذا القانون، العداء لاسرائيل، وان القانون يلغي شرعية من يقوم بزيارتها، ويصادر حقه الاساسي في ان ينتخب للكنيست. فمن جهة يعمل هذا القانون على ارهاب المواطنين العرب الذين يزورون دولا عربية، ولكنه يعمل من الجهة الاخرى، على تخويف الجمهور الاسرائيلي اليهودي بالاساس من خطورة الاتصال مع دول المنطقة وشعوبها وتحويلها الى "بعبع"، لا يحسن البحث عن حلول سياسية ولا طائل من التفاوض معه، في وقت تطالب اسرائيل العالم العربي بتطبيع علاقاته معها، مقدمة للحل السياسي وليس نتيجة له.
*تناقضات المؤسسة الحاكمة في اسرائيل وضائقتها الاستراتيجية بعد الحرب على لبنان!*
في ظل الاجواء الموتورة السائدة في اسرائيل، لا غرابة في وجود اقتراحات قانون مهووسة بمثل هذه الفظاظة والاستفزاز، ومعادية لابسط القواعد الدمقراطية على طاولة الكنيست. فقد كانت المعارضة اليمينية العنصرية، معنية دائما باحراج الائتلاف الحاكم وتضييق هامش المناورة السياسية أمامه، في أشبه ما يكون بنشر الالغام السياسية في طريق أي حراك سياسي يحاول القيام به. وكانت تعتبر ان القوانين العنصرية المعادية للعرب هي ورقتها الرابحة لتوسيع رقعة قاعدتها السياسية، وجواز السفر الذي تعود به ثانية الى الكنيست. لكن الغريب هو أنّ التصديق على هذين القانونين الاول بالقراءة الاولى والثاني بالقراءتين الثانية والثالثة، ما كانت لتمر من دون الدعم الذي حصلت عليه من نواب من أحزاب الائتلاف الحاكم، بما فيهم نواب من حزب العمل. ان المفارقة الفاضحة هي أن هذا التشريع الاستفزازي، يتم في وقت تقوم به حكومة كاديما- العمل- شاس، بالتفاوض غير المباشر مع سوريا بوساطة تركية، وتنفيذ عملية تبادل أسرى مع حزب الله بوساطة ألمانية، واتفاق تهدئة مع حماس بوساطة مصرية. فالى أين ترمي المؤسسة السياسية الحاكمة في اسرائيل؟
ان تخبط السياسة الاسرائيلية بمثل هذه التناقضات، يعبر أكثر من أي شيء عن أفلاس السياسة الاسرائيلية من جهة، وعن عمق الازمة التي تعيشها مؤسسة الحكم في اسرائيل، سياسيا وأمنيا وأخلاقيا. ان هذه المؤسسة باتت تعي أنها ليست قادرة أكثر على مواصلة الاحتفاظ بوضعها المأزوم القائم من جهة، ولكنها ليست قادرة في الوقت نفسه، على الافلات من وضعها المأزوم القائم والمتراكم من الجهة الاخرى، بعد واحد وأربعين عاما على الاحتلال والمزيد من الحروب العدوانية. "ان اسرائيل من دون شك تشعر بضائقة استراتيجية في أعقاب حرب لبنان الثانية، وخصوصا بسبب توطد العلاقات بين "مركبات محور المقاومة"، وتعاظم قوتها" (المحلل السياسي والاستراتيجي ألوف بن "مستجدات استراتيجية"- حزيران 2008- تصدر عن "معهد دراسات الامن القومي" جامعة تل أبيب)، ان اسرائيل التي تشعر بضائقة استراتيجية بسبب الحرب العدوانية على لبنان، تبحث عن فرصة لحرب جديدة في المنطقة، (علها تستعيد ردعها المفقود). لكن ضائقتها الاستراتيجية ذاتها، هي التي تلجم جموحها، وتتخبط مؤسسة الحكم في اسرائيل في أزمة أخلاقية خانقة، ليس الفساد فيها هو سبب الازمة السياسية، وانما الازمة السياسية المتواصلة، وثقافة الغش والخداع من أجل الاحتفاظ بالاحتلال والاستيطان والالتفاف على القانون هي التي أنتجت ثقافة الفساد التي تمسك بالمجتمع الاسرائيلي من خناقه. ان التحقيقات ولوائح الاتهام التي واجهتها مؤسسة الحكم الاسرائيلية خلال دورة حكم واحدة، رئيس دولة (في تهم اغتصاب)، ورئيس حكومة (في تهم فساد وسرقة) ووزير مالية (في تهم لصوصية خطيرة) تطرح أسئلة أكبر من أولمرت وكتساف وهيرشزون، ويتحول الكم الى كيف، ويصبح واضحا أن ثقافة الفساد هي سيدة الموقف الطاغية في كل الساحات. ان التزامن بين الازمة السياسية والاخلاقية وبين انسداد الافق السياسي، والضائقة الاستراتيجية والرغبة الاسرائيلية الجامحة في اجراء المفاوضات بهدف التحكم بوتيرة التوتر، لكن، شريطة عدم التقدم نحو حل حقيقي، تفسر عمق الافلاس الذي تعاني منه السياسة الاسرائيلية والتخبط الذي تعيشه. لكن ذلك لا يجعلها أقل خطرا على السلام والدمقراطية والمساواة.
ان مواسم انفلات التشريع العنصري في الكنيست، شكلت دائما المقدمة لمحاولات الافلات من الفرص السياسية "الموهومة" التي تلوح بها اسرائيل نفسها. وحال الفرص على المسار السوري بهذا المعنى ليس بأفضل من حال الفرص على المسار الفلسطيني.
عصام مخول
السبت 19/7/2008