وكانت آخر الزيارات إلى شفاعمرو، وجاءني بيان عنبتاوي ابن العاشرة وبيده مئة شاقل، قال: هذا ما أملكه للتبرع لفيلم توفيق زيّاد، سألته ماذا يعرف عن زيّاد، فذهب الى غرفته راجعًا مع صورة لزيّاد، وعندما كرّرت السؤال أجابني أن والده قال له أن زيّاد كان "جدعًا".
سألته من أين له النقود? فقال أنه يدّخر وهذا ما يملكه الآن، فعرضت عليه ان أُبقي له خمسين شاقلا، رفضَ، فألححت عليه حتى قبل.
في قرية المغار ناولني معلّم مدرسة نصفََ معاشه، فالفيلم بعينه ليس توثيقًا وحسب، فهو كمربّي أجيال يدرك تجهيل الطلاب بتاريخهم، ويرى بالفيلم رسالة للاجيال القادمة في الشجاعة ونظافة اليد والمواجهة التي لا تخشى في الحق لومة لائم وموقف تقدّمي غير اعتذاري، شيئًا يتجاوز الشخص توفيق، هو توفيق الفكرة والدرب.
وما يدركه القراء أنه كان باستطاعنا الاتصال بعشرة متموّلين تقدّميين والحصول على مبلغ مئتي ألف شاقل في يومين، ولكن هذا ليس كلّ الهدف، وإنما أعزّ تكريم لتوفيق هو أن يساهم الأطفال والعمّال والشعب البسيط في تمويل هذا المشروع:
" لكِ يا ومضة عزمٍ
في عين مقاتل
لك يا ضحكة طفلٍ
يا ساعد عامل
..
من شدّة حبّي سأموت
إن يومًا سأموت
لا حُزنًا أو حسرة
لكن..
من شدّة حبّي"
والحقّ أن بَيان ابن العاشرة والمعلّم من المغار قد تبرّعا أكثر من أغنياء يتبرّعون بألوف الشواقل، هكذا آمن الناصريّ زيّاد، وهكذا آمن الناصريّ الأوّل - السيّد المسيح- وهو يرى أرملة تُلقي فِلسَيْن تبرعًا، فدعا تلاميذه معلَِمًا: "الحقّ أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة لأن الجميع من فضلتهم ألقوا وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل ما عندها كل معيشتها".
* * *
يا رفاق الدرب، رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ورغم الأعراس التي تُفْرغ ما تبقّى في الجيب، ورغم الانتخابات المحلية التي ستجاهدون بها بأموالكم و أنفسكم.. لنغذّ الخطى نحو المئة الثانية ولتنطلق كاميرات التصوير لتوثّق مسيرة هذه البقيّة الباقية في وطنها رغم النكبة، وما هانت ولا صغّرت اكتافها، وقفت بوجه ظلامها يتيمة، عارية، حافية، حملت الدمّ على الأكفّة، وما نكّست أعلامها وصانت العشب الأخضر فوق قبور أسلافها..
لنجذّر هذه القيم.
أيمن عودة
الأحد 13/7/2008