ابتداءً، يجب الإشارة إلى مقولة هامة للمفكر عبد الوهاب المسيري، وهو مثقفٌ مصريّ، عربيٌّ، إسلاميٌّ، رحل عنّا هذا الأسبوع، في كتاب سيرته الذاتيةٌ(رحلتي الفكرية)، قال فيها: " المطلوب منا أن نخضع مقولات الصهاينة للتمحيص والتساؤل، فلا نهون ولا نهوّل، ولا نكتفي بالتلقّي السلبي والرصد الآلي". تشكّل هذه المقولة منطلقاً ودليلاً لنا
لتناول, فهم وتحليل التعديل الجديد لقانون أساس: الكنيست، الذي صودق عليه، في الأسبوع الماضي، والذي بحسبه "من زار دولة عدوّ لا يستطيع أن يترشّح للكنيست" وذلك لكون هذه الزيارة، بحسب قناعات مقترحي القانون تعتبر دعماً للكفاح المسلّح ضد دولة إسرائيل". وقد شكّل سنّ هذا القانون فاتحة لأسبوع، ضُرِب فيه رقمٌ قياسيّ لسيل من القوانين العنصرية التي لا مجال لتفصيلها في هذه العجالة.
قراءة متسرعة لدوافع مقدّمي القانون والمؤيدين له، تخلق انطباعاً أولياً، بأنهم مدفوعون باعتبارات انتخابية وحزبية، وخصوصاً في ظل الحقيقة، بأن رائحة الانتخابات تفوح من الجهاز السياسي الإسرائيلي الفاسد. أو، أن مقدمي القانون يرغبون في اقتناص فرصة للظهور في الإعلام وتعزيز مكانتهم لدى الجمهور. ولكن، حفر ونبش متأنٍّ في الآثار يكشف الجذور العميقة لظاهرة خطيرة ومقلقة، وهي ليست مقصورة على عدد قليل من أعضاء البرلمان اليهود، وإنما أصبحت واسعة الانتشار وسيطرت على الكثيرين منهم وغالبية الرأي العام اليهودي في إسرائيل.
يقف في صلب هذه الظاهرة عدد كبير من السياسيين اليهود. الذين ينشطون بطرق مختلفة، بمنهجية ومثابرة ضد الممثلين العرب في البرلمان: يعرضونهم تارة على أنهم متطرفون، خونة، طابور خامس وعملاء أجانب ومتعاونون مع العدو. ويحاول بعض هؤلاء الانتقاص من شرعية أعضاء الكنيست العرب ويحاولون نزع الصفة الإنسانية عنهم. ويقومون بهذا الأمر في محاولة للتقليل من شأنهم وإقصائهم عن محاور التأثير ومحاولة إسكاتهم والتعتيم على أفكارهم وعلى مطالب المجتمع الفلسطيني في الداخل.
إضافة لذلك، يقدمون وبشكل متواصل، اقتراحات قوانين تهدف إلى محو العرب من الخارطة السياسية، والمسّ بحقوقهم وحتى نفيهم وطردهم من وطنهم. وقد عبّر العديد من أعضاء البرلمان اليهود عن رغبتهم بعدم رؤيتنا هنا، وعدم تقبل وجودنا هنا كمجموعة أصلانية، صاحبة وطن، تشعر بانتماء عميق للوطن، وذات تطلعات مستقبلية.
وقد أصبح جلياً، أن الرأي العام في إسرائيل يدعم هذه القوانين العنصرية فقراءة لمعطيات استطلاع للرأي العام أجري من قبل قنال الكنيست في شهر آذار الماضي تفيد بأن 75% من المجتمع اليهودي في إسرائيل يبدي دعمه وتأييده لطرد العرب من البلاد. وقد أشار استطلاع آخر للرأي العام، أجري من قبل جامعة حيفا في شهر نيسان، أن ثلث المواطنين اليهود يدعمون منع العرب من التصويت للكنيست.
هذه الاستطلاعات العلمية، الموضوعية والمحتلنة تدلّ على تزايد الكراهية والعنصرية والتطرف، لدى المجتمع اليهودي، وهو ما يشكّل شرطا مثاليا لأعضاء الكنيست من اليهود ترجمة هذه التوجهات إلى إمكانيات فعلية للمسّ بالمجتمع الفلسطيني. كما يمكن الاستنتاج بأن هنالك حلقة مفرغة، وجدلية مضبوطة بين السياسي اليهودي والمجتمع, كلّ منهما يغذي الآخر بشكل تبادلي، مما يزيد من تصاعد الأجواء العدوانية للعرب.
وعلى صعيد آخر، فإن قدرة الممثلين العرب في البرلمان على التأثير محدودة لأسباب بنيوية ومتأصلة تتصل بطبيعة وشكل النظام السياسي في إسرائيل، بهوية الدولة وتعريفها، بأمكانيات الحراك المحدودة والأفق المسدود. من هنا، يصبح جُلّ جهد الممثلين الفلسطينيين موظفا لفكّ الطوق المفروض عليهم وكسر الصورة النمطية والتمثيلات التي ينتجها لهم زملاؤهم اليهود كذلك. لدرء المفاسد عوضاً عن جلب المصالح. وفي حين يتوقع المجتمع اليهودي من منتخبيه أن يكونوا جزءاً من السلطة أو بديلاً ممكناً لها. فالمجتمع العربي لا يتوقع أن يكون المنتخبون العرب جزءاً من السلطة بل معارضة لها، ناقدين، متّحدين، ومسمعين صوتاً حراً يعبر عن مواقف وأحاسيس الجماهير العربية بشكل قوي وحادّ.
الأفق المسدود لاختراق الوضع من خلال البرلمان، يُفضي إلى حالة يكفّ المجتمع العربي فيها عن حصر مطالبته منتخبيه بتمثيله في البرلمان مقابل الدولة والأغلبية فحسب، بل أن يكونوا قادة حقيقيين للمجتمع، وأن لا يقصروا عملهم ونشاطهم في إطار الإجراءات، والأدوات والآليات التي يوفرها البرلمان، بل أن يعملوا على خلق سياقات ومواقع أخرى للعمل في المجتمع العربي على سبيل المثال لا الحصر. فهم مطالبون مثلا، ببناء مرجعية وطنية قوية، وبناء حكم محلي عربي ناجح والنشاط في المجتمع الدولي. وكون المجتمع العربي في الداخل مجزءاً ويواجه أزمات ومآزق عديدة، يتوقع من منتخبيه أخذ دور فعّال ومركزي في إخراج المجتمع من مآزقه من خلال الاتفاق بينهم على تصور مستقبلي ورؤى واضحة. لبناء مجتمع قوي ومتماسك، وتطوير آليات عمل
جديدة للنضال من أجل تحقيق الحقوق، والتعاطي مع مطالب الناس الحياتية والمعيشية إلى جانب القضايا السياسية الكبرى والهامة.
وعودٌ على ذي بدء، المجتمع العربي في الداخل وممثلوه لا يرون بالأمتين العربية والإسلامية وفي الدول العربية والإسلامية أعداء، بل هم جزء من هذه الهويات، وحقهم الأساسي في التواصل مضمون بالمواثيق الدولية. زيارات الممثلين العرب للدول العربية هي جزء من رسالتهم وواجبهم السياسي الذي من أجله انتخبوا، والمسّ بحقوق ممثّلي الأقلية بمعارضة الأغلبية يفرغ الحق بالترشح , وهو أحد أسس الديمقراطية, من أي مضمون حقيقي.
في هذا السياق، يترتب علينا أن نشير إلى أن من يتابع أنماط التصويت لدى المجتمع العربي في السنوات الأخيرة يستطيع أن يلاحظ بأن هنالك هبوط في نسبة التصويت للكنيست. وفي رأينا أن أحد الأسباب لهذه الظاهرة هو إدراك الفلسطينيين في الداخل بأنهم لا يستطيعون أن يكونوا جزءاً من اللعبة السياسية في إسرائيل.
هذه التشريعات تضيف وصمة سوداء أخرى لسفر القانون الإسرائيلي وتزيد قائمة القوانين العنصرية والمميزة وغير الديمقراطية، وأكثر من ذلك، فهي تجسّد سعي الأغلبية اليهودية لفرض هيمنتها والسيطرة على الأقلية وممثليها. هذه ليست ديمقراطية تدافع عن نفسها، بل "إيتنوقراطية عدائية". لا يمكن السكوت على هذه الظاهرة ويجب مجابهتها بشكل جماعي ومدروس ومن الضروري أن تلتمس الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية للمحكمة العليا، بشكل فوري، على أمل أن تستجيب المحكمة لهذا التحدّي وتلغي القانون لعدم دستوريته.
وبالمقابل، على قيادات المجتمع العربي، والحركات السياسية التفكير والعمل على بناء مرجعية وطنية قوية ولجنة متابعة منتخبة وفعالة تشكل المركز السياسي للفلسطينيين في البلاد، دون التنازل عن حقنا الجماعي بالتمثيل، وأن نعيد ترتيب الأدوار والأولويات. هذا هو احد الآليات لمواجهة ظاهرة العنصرية، والتي يشكّل سيل التشريعات إحدى تجلياتها.
(عبلين)
المحامي علي حيدر
الثلاثاء 8/7/2008