(رواية لا أعرف مسارها ولكنني أعرف نهايتها)
*لا شبابيك زانيات في فلسطين*
انفجار دمعتها كان موعد اللقاء، لقاء انتظرته عشر سنوات، منذ أن بلورت جمالها في مخيلتي. ليست طويلة جدا، ليست قصيرة، ممتلئة بعض الشيء، لون بشرتها قمحي، نهداها كحبتي برتقال ريحاوي، قاسيان، دائما باندفاعة، وكأنهما يريدان تمزيق ما يغطيهما، عيناها كعيني بدوية خرجت لتوها من الحمام، ابتسامتها فرحة، ترسمها حسب تموجات شهوتها، صوتها حريري، دمعتها كحبة البلور، مشيتها واثقة تقول: هذه أنا! رائحة جسدها كخمرة معتقة منذ مئات السنين.
قرأت ما في رأسي، وقرأت وصف جسدها وروحها من عيني المبحلقتين في فضاء بدا لي أزرقا في ساعات الصباح، وكأن القمر يأبى أن يفقد سحره الليلي الذي مارسه علي في لحظات السكر، والتخييل، والتخيل، وفي لحظات اليأس من نفسي، لحظات التجلي الكاذبة، النابعة عن تفتح خلايا الدماغ، القارئة للباطن، الجبان، الذي يظهر فقط في حالات السكر، وتعاطي الخمرة، وكأن " الوحي" الكتابي يظهر فقط بعد أن ملأت رأسك بالخمر، أو في تعاطي السموم الخفيفة، الحشيش، أو الغراس...!
دمعتها المتفجرة نقلتنا إلى زمارين، وكانت الساعة تشير إلى السادسة صباحا.
سألتني: كم شربت الليلة لكي تتوصل إلى وصفي؟
أجبت صادقا: القدر الذي يمكنني من استيعاب روحك.
قالت هادئة:أنت تحبني! وفي تلك اللحظة استغنت عن ضحكتها الهازئة مني ومن نفسية الكاتب الذي يحول معاناته الشخصية إلى رواية، إلى عمل أدبي لكي تحكي الصحف والناس عنه.
قالت: سأكف عن الضحك والسخرية منك.. الساعة الآن تشير الى السادسة، وعليك أن تعود إلى البيت.
صرخت: أنا الآن في الحديقة، حديقة بيتي، لا تسخري مني...!
قالت هازئة من نفسها ومن تخييلي: استرح الآن لكي ترتب أمرك معي ومع ماضيك الذي يؤرقك.
واختفت...!
قالت لي: أنت تحبني! واختفت....سألت نفسي: هل خذلتها؟ لماذا لم يستطع تخييلي أن يحتفظ بها ؟ وسألت نفسي:ما دامت حياتنا تسير إلى الأمام، ننام وخلفنا آلام ومسرات، نفيق صباحا لكي نبدأ يوما جديدا يحتوي على آلام ومسرات، لماذا علينا أن نحتفظ بالذي مضى؟ هل علينا دائما أن نراكم الذاكرة؟ في النهاية سنموت، وكما قال هايديجر: يولد الإنسان لكي يحضر نفسه لموته، يحضر الإنسان لنهايته...هذا ينطبق على الذاكرة الشخصية، الشخصية جدا، ولكن...هل ينطبق ذلك على الذاكرة الجماعية؟ هل يستطيع ذلك المشرد من قرية الطنطورة، والمقيم عدة مئات الأمتار منها، في الفريديس، والذي شاهد المجزرة، هل يستطيع أن ينام دون أن يتذكر؟ هل يستطيع أن يفيق في الصباح، مثلما أفيق أنا المشغول بذاكرة الشهوة، والمشغول بفانتزيا الكتابة عن زانية وهمية؟ أنا الكاتب الذي يسعى لبناء موديل لزانية فلسطينية، لأنني أريد أن تكون لدينا زانية مثل كل الشعوب على هذه الأرض التي تملك الزانيات، اللاتي يملأن فراغ المشتهين، وفراغ محبي الفانتازيا الجنسية؟ هذا حلم...اعترف أنه حلم، أريد الاستقلال لفلسطين، لكي يتمشين الزانيات بشوارع مدنها لكي يسددن حاجات الذين يبحثون عن إشباع حاجاتهم في ظروف إنسانية، وفي وطن مستقل.. أريد دولة فلسطينية مستقلة فقط لهذا الهدف،.كنت مرة في حالة سكر مخيفة للغاية، مرعبة، شربت، ولا أعرف كم شربت، ولكنني أعرف أنني شربت أنواعا كثيرة من الخمرة، الجيدة والسيئة، شربت العرق، والبيرة والويسكي، والفودكا، والليكور، والمارتيني.كان ذلك بعد أول عرض لمسرحية أخرجتها، لا أعرف كيف عدت إلى البيت، ولكنني أتذكر الحوار الذي دار بيني وبين زوجتي، القرفانة من حالتي، ومن حال " المثقفين" أمثالي، الذين يحاولون أن يبنوا مجتمعا، ولكنهم لا يستطيعون، لأنهم تقوقعوا في أنانيتهم ونرجسيتهم، وأرادوا أن يظهروا وكأنهم منقذوا هذا المجتمع، من خلال تحليلهم المشوه له.
قالت لي عندما دخلت البيت، ولا أملك أي توازن جسدي وفكري:هل يعرف مشاهدو مسرحيتك أنك تأتي إلى البيت وأنت فاقد التوازن الإنساني؟ حضورك إلى البيت بهذا الشكل المخزي يتناقض مع رسالتك.
قلت لها ساخرا من " موقفها الرجعي": لا توجد شبابيك في الناصرة!
صرخت: يا الهي! أعني على هذا الزوج المجنون!
قلت لها: لست مجنونا. لا توجد شبابيك زانيات في الناصرة...كيف لنا أن نصل إلى أعلى درجات التطور دون شبابيك زانيات في الناصرة؟ شبابيك الزانيات تعني أننا مررنا كل المراحل، ونستطيع أن نحضر أنفسنا لمجابهة الشعوب الأخرى، وخصوصا الشعب اليهودي الذي يملك عددا هائلا من الزانيات.
قالت بهيستيريا اليائسة من زوجها: سأتصل الآن بالدكتور نبيل!
ضحكت مترنحا، ووقعت على أرض الحمام، مسرعا إلى المرحاض لأفرغ ما لم تستطع معدتي أن تحتفظ به، تقيأت، ولم أقرف من نفسي، ثم ارتحت، ولم أجد زوجتي إلى جانبي، وأفقت.... وقلت لنفسي: نظريتك فاشلة.... الزانية الفلسطينية ستأتي في موعدها.
******
أنا الآن أمام الحاسوب، وأفكر: كيف لي أن أتبع منطقا لرواية أعرف نهايتا، ولا أعرف مسارها. أعترف أمام القاريء أنني أخوض للمرة الأولى تجربة الرواية، وأنا خائف من القاريء ومن الناقد، الذي سيشهر سيفه ويقول: ما علاقة هذا الكاتب السخيف مع الرواية؟ حسنا! سأتخلى عن خوفي، وسأتخلى عن ضعفي، وٍسأسلح نفسي وداخلي بجرأة الخوض في بحار لم أعرفها... سأعتبر نفسي مولودا جديدا رموه في بركة السباحة، ولم يمت، لأنه وجد في البركة نفس شروط الحياة في رحم أمه...
****************
أمي! اغفري لي! لم أحقق أمنيتك بأن أصبح طبيبا، أو محاميا تتباهين بي أمام الناس، واغفري لي أنني تركتك وأنت على فراش الموت، تصارعين مرضا لم يمهلك طويلا. لم أرد يومها أن أتركك، لقد حملوني وأنا أبكي مثل طفل حاولوا أن يقنعوه أن أمه تركته لأن الله يريدها إلى جانبه، وضعوني في السيارة التي انطلقت إلى المطار. وصلنا إلى برلين في نفس اليوم، كان ذلك في 11 أيلول 1970، كنت يومها بصحبة رفيق لم أعرفه من قبل، ولكنه أصبح أخا لي، تركني هو الآخر بعد ست سنوات، انه وفيق حسيان، ابن البعنة،الفنان، المطرب،الكادح في حياته، الذي صمم أن يحصل على الشهادة الأكاديمية في الاخراج المسرحي، رغم ضيق إمكانياته التعليمية... وجدنا أنفسنا في عالم لم نعرفه من قبل، عالم رحب، سيغرقنا فيما بعد في متاهات نفسية، مرضية، نكتشفها بعد عشرات
السنين في لحظات بدء عملية العد التنازلي وعند اقترابنا من الحقيقة المطلقة، الموت. لم نعرف حينها ماذا يخبيء لنا الزمان، ولم نعرف ماذا يخبيء لنا المكان في طياته. ضحك مني المكان وقال: غص أيها الطفل الخام في شوارعي، وفي أزقتي، جد ما افتقدته في وطنك الحزين المنكوب، وخذ لك من الطيبات قدر شهيتك وشهوتك.... المكان بمن فيه أنسانيك أيتها الأم الطيبة، كيف لا وأنا انزل في فندق اللجنة المركزية للحزب الحاكم في جمهورية ألمانيا الديمقراطية آنذاك، ولأول مرة في حياتي أستقبل بهذا الشكل الملوكي في فندق بدا لي أكثر من خمس نجوم، بطعامه وفراشه، ومشروباته، وبعاملات النظافة الجميلات، الساحرات، اللاتي من الممكن أن يتقدمن بسهولة لمسابقات ملكات الجمال، ولجنة التحكيم كان من الممكن أن تجد الصعوبة الخارقة باختيار ملكة من بينهن. كن يضحكن لي ولوفيق ولهشام... عرفنا فيما بعد لماذا كن يضحكن لنا...بؤسهن في عالم اشتراكي، إنساني، انهار بعد عشرين سنة من وصولنا إليه، جعلهن يبحثن عن مصدر للحصول على شكلانيات العالم الرأسمالي، على بنطلون جينس، على قطعة شوكولاتة مغلفة بغلاف رأسمالي.... وهذا ما اكتشفناه بعد اشهر قليلة من وجودنا في مدينة لا يبزيغ، التي قضيت فيها أجمل أيام حياتي وأصعبها، أيام مليئة بالفرح، وبالحزن. أيام قررت مسار حياتي، النفسي والعاطفي، والعملي.
بعد ثلاثة أيام وصلنا لايبزيغ، وبعد أسبوعين تصلني رسالة من أخي شحادة، بدأها بالبسملة، يخبرني فيها عن موت أمي، بعد يومين من مغادرتي، في 13 أيلول. انهرت على سريري باكيا، صارخا: أمي! وفيق كان إلى جانبي، حاول تهدئتي، ولا أعرف كيف أنهيت بكائي فجأة، عندما تذكرت في تلك اللحظات مناظر زملائنا الجدد في شارع لومومبا، في لايبزيغ، الفيتناميين الذين كانت تصلهم الرسائل يوميا، تخبرهم عن موت أب أو أخ أو أم، فينهارون في منتصف الشارع، كان هذا المنظر شبه يومي. هل خجلت من نفسي يومها؟ هل قارنت بين فاجعتي وفاجعة الفيتناميين، الذين على ما يبدو فقدوا عائلة بأكملها، على الأقل جزء منهم؟ لا أعرف.
*******
- هل ناديتني لكي تتقوقع في قصتك الشخصية وتهملني؟
صرخت في وجهي.
- أشفق عليكم أيها الكتاب في هذا الجيل الحرج. لا تعرفون ماذا تريدون. اترك قصتك الآن وركز في شخصي لئلا تموت، أو تمرض، فلن يكون باستطاعتك أن تكمل هذيانك وتخيلاتك عن امرأة بدأت في خلقها.
قلت والهدوء ما زال مسيطرا على وعيي:
- أنت جزء من قصتي، من حكايتي، من حكاية هذا الواقع. دعيني أدخل مكامن داخلي، من هناك ستخرجين، وسأدعك تتكلمين كما تشائين وكم تشائين.
- أعطني اسما ! قالت بإصرار.
- لا أقدر.
- لماذا؟
- سيذهب قرائي ويبحثون عنك في الواقع، كما حصل من قبل.
- جبان!
- سأتعايش مع جبني!
- أعطني كنية إذن!
- المخلوقة!
- هذه كنية ينقصها الخيال أيها المدعي!
- الغجرية! أو غجريتي!
- غجريتي أفضل!
- اتفقنا!
- والآن تعال معي إلى زمارين! استرح من ماضيك. هل تعرف؟ سأساعدك أنا أيضا على تفجير داخلك، بشرط، أن تمارس الكشف التوتالي.ولن يتهمك قراؤك أنك تقلد سعدالله ونوس.
دهشت. ذهلت. وسألت: كيف تعرفت على سعد الله ونوس؟
اقترب فمها من فمي، تنفست، وكاد يغمى علي من رائحة هواء فمها، هواء مسكر، مخدر، يثير الشهوة. أغمضت عيني، رأيت سعد الله ونوس على فراش الموت، يصارع السرطان في كل أنحاء جسده، ثم تحول المشهد لأرى نفسي على فراش الموت. سمعتها تقول: كنت أتململ داخلك عندما قرأت كتابه الأخير، عن الذاكرة والموت، وضحكت عندما كنت تقرأ الفقرة التي يتخيل فيها الأطياز النسائية...كل الدنيا كانت بالنسبة له على فراش الموت أطياز نسائية.
صرخت محتجا: ولكنني الآن لست على فراش الموت.
تغيرت ملامح وجهها. ابتعدت خطوة واحدة، واحدة فقط. أدارت لي ظهرها، على ما يبدو لأرى جمال مؤخرتها المتصلة مع ظهرها الأسطوري، المتحرك دائما في جمودها الظاهري. التفتت إلى ذهولي وقالت: كيف وجدت مؤخرتي؟ متأسفة أيها الكاتب الجبان! كيف لك أن تصف زانية، دون أن تتطرق إلى مؤخرتها؟ إذا اخترت موتي فعليك أن تعري نفسك وتعريني. لن أسمح لك أن تدون حكايتي، هكذا ببساطة، سأملي عليك كل تفاصيل حياتي، حتى الجزيئيات المثيرة، والايروطية فيها، ولكن بشرط، أن أسمع منك وصفا موازيا.
استعطفتها وقلت ثانية: ولكنني لست على فراش الموت لأبوح. لست كاتبا أمريكيا مثل هنري ميلر، أنا كاتب فلسطيني، وسأحاسب على كل كلمة أكتبها. كيف لي أن أكتب اليوم عن مغامراتي، وحياتي الايروطية، والشهداء يسقطون يوميا جراء القصف الإسرائيلي المتوحش؟
تلقفت وجهي بيديها، وشدت عليه، صكت أسنانها، وزأرت كأسد لم يأكل اللحم منذ أيام، وقالت بوحشية تشبه وحشية المرأة الممحونة، التي تبحث عن رجل بكل ثمن: لماذا خلقتني إذن في داخلك؟ لقد بنيت شكلا ومضمونا لحياتي، دون أن تسألني، ولم تنتظر لقائي معك وجها لوجه. وشيء آخر:هل تعتقد أن الذين يكتبون عن النكبة، وعن تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا يعانون ؟ هل تعتقد أنهم خالين من العقد والأمراض النفسية، كما تعاني أنت؟ تحلى بالجرأة واكتب عن تلك الجدلية، ولا تخف من النقاد، الذين يعانون هم أيضا من نفس الأمراض. تحلى بجرأة سعدالله ونوس، ولا تصرخ ثانية أنه كان على فراش الموت عندما فعل ذلك! أنت هو الذي بدأت! والبادي أظلم، وأنا أقول لك الآن: البادي هو الذي سيعاني. تسمح لنفسك أن تتكلم الى زوجتك في لحظات السكر المقيتة عن شبابيك الزانيات في الناصرة، تنتزع حريتك في التعبير عما يدور في داخلك المريض، المتعفن، ولا تسمح للآخر أن يعبر عن الجميل في داخله. أعدك بأنني سأنتزع منك كل الاعترافات، وكأنك على فراش الموت مثل سعدالله ونوس، أيها الجبان!
*****
كنت أكتب وأنا متورط بالفانتازيا، فانتازيا غجريتي، وزوجتي تنادي: تعال! المنتخب التركي أدخل غولا! النتيجة 2 -1 لصالح تركيا. صحت، وشاركتني صيحات الحارة المحتفلة بنصر العالم الثالث على العالم الغربي، على ألمانيا. وكنت حينها متورطا في داخلي: هل علي أن أشجع ألمانيا، التي نهلت الكثير من حضارتها، أم أنه علي أن أشجع العالم الثالث الذي أنتمي إليه؟ قررت أن أنتمي إلى العالم الثالث الذي خذلني، ولم ينتصر على ألمانيا.هل كان قراري صائبا؟ ألمانيا انتصرت.ألمانيا انتصرت على الفلسطيني في داخلي. أعترف. علي الآن أن أخلد إلى النوم لكي لا أتمادى في حكمي على الآخرين.أنا متأكد أن غجريتي ستتململ في أحشائي لكي توقظني.
(الناصرة)
رياض مصاروة
السبت 5/7/2008