*الدول المستقلة التي تحررت من الاستعمار بقيت غير مستقلة وواقعة تحت سيطرة المؤسسات الاقتصادية العالمية وقوى الاستثمار (أو الاستعمار) الكبرى* الاستقلال القومي أداة لتحقيق كرامة الإنسان ويجب ألا يأتي بمعزل عن، أو على حساب، حقوق الإنسان الاجتماعية* هويتنا الفلسطينية ليس حقيقة بيولوجية- تاريخية بل هي دائرة انتماء ووعي له دور هام في تنظم نضالنا من أجل الكرامة وحقوق الإنسان*
حين وقعت، خلال القرنين الماضيين، العديد من شعوب أفريقيا وآسيا وأماكن أخرى في العالم تحت نير الاستعمار، كان الإنسان في تلك الدول المستعمَرة مستغَلا وفاقدا كرامته وحقه في موارد البلاد التي استُغلت لصالح المستعمِر. حينها رفع مطلب "حق تقرير المصير" والاستقلال القومي لاستعادة كرامة المواطنين وتوفير حاجاتهم من خلال مؤسسات الدولة المستقلة. وفعلا بعد الحرب العالمية الثانية نالت معظم الشعوب التي كانت مستعمَرة استقلالها بما فيها الدول العربية ما عدا فلسطين.
المقصود "بالاستقلال القومي" في هذا المقال، هو إقامة دولة مستقلة يمارس فيها كل شعب سيادته على نفسه في وطنه، والمقصود "بحقوق الإنسان" هو أكثر بكثير من مجرد منع التعذيب والتنكيل بل يعني الحفاظ على جميع الحقوق الاجتماعية والإنسانية التي تشمل العدالة والمساواة وحرية التعبير والحركة والحق في العمل والمسكن وإقامة عائلة وغيرها من الحقوق.
*الدول المستقلة غير مستقلة*
في نظرة فاحصة لأحوال هذه الدول المستقلة اليوم سرعان ما يتبين أنها ليست مستقلة وأن أوضاع ومصائر مواطنيها ما زالت رهينة بأيدي قوى سياسية واقتصادية عالمية لا تملك أمامها مؤسسات الدولة "المستقلة" الكثير من إمكانيات التغيير والتطور بل وفي غالبيتها الساحقة تتواطأ فيها الفئات الحاكمة مع مصالح الدول الغنية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وتنصاع لإملاءات المنظمات الاقتصادية العالمية كالبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والأوبيك وغيرها من المنظمات التي هي أدوات قمع وسيطرة تقوم على صيانة مصالح الدول الغنية في العالم.
في كتابه "نذر العولمة" يصف الدكتور عبد الحي زلوم التواطؤ الجاري بين طبقة الـ1% الأغنى في الولايات المتحدة التي تملك 50% من رأس المال الأمريكي وبين طبقة الـ1% الأغنى في كل دولة من الدول التي تعتبر مستقلة. بداخل كل دولة "مستقلة" يجري تحالف بين أصحاب رؤوس الأموال في الدولة وبين شركات واستثمارات عالمية بمباركة، أو بالرغم عن، النظام الحاكم الذي يفتح أبواب الدولة على مصراعيها أمام الاستثمارات الخارجية. هكذا تنمو شريحة رأس المال في الدولة على حساب إفقار المواطنين من جهة ومن خلال زيادة تبعية الدولة لقوى الاستثمار الداخلي والخارجي التي ليس لها مصلحة إلا زيادة رأسمالها بواسطة تسخير الأيدي العاملة الرخيصة في تلك الدول وبواسطة جعل الدولة سوقا لمنتجاتها. من خلال هذا التواطؤ ومن خلال السيطرة على وسائل الإعلام تم إفراغ "الاستقلال القومي" من مضمونه وجيّر التطور الحاصل في كل دولة "مستقلة" لصالح المستثمرين، طبقة ال 1%، على حساب الشعب الفقير.
*الاستعمار يلبس حلة جديدة*
يبدو أن الاستعمار لم ينته بعد بل تغير شكله فحسب. فبينما كان في الماضي يتم من خلال الاحتلال الفعلي للدولة والسيطرة عليها بواسطة الجيش، أصبح الآن الاستعمار يتم من بعيد بشكل عابر للحدود. الاستعمار الجديد يتم من خلال استثمارات أجنبية بداخل الدول "المستقلة" التي تستغل الأيدي العاملة وموارد البلاد الرخيصة وتزيد تبعية الدولة لقوى الاقتصاد العالمي. نشرت مجلة التايمز (1 حزيران 1998) أن مجموع الأجور السنوية التي يتلقاها 30 ألف عامل في مصانع أحذية "نايكي NIKE" الرياضية في إندونيسيا يقل عما يتقاضاه نجم كرة السلة الأمريكي مايكل جوردان مقابل ظهوره في الإعلان عن هذه الأحذية. إن هذا النوع من الاستثمار (أو الاستعمار) هو نوع جديد من العبودية يجري تحت شعارات براقة كالتنمية الاقتصادية، فيه يحضُر المصنع إلى أماكن سكن العمال "المستقلين والأحرار" في بلدهم بدلا من نقلهم إلى مكان المصنع كما كان في عصر العبودية.
مع انتشار هذا النوع الجديد من الاستعمار ازدادت تبعية "الدول المستقلة" للدول الغنية وأصبح اقتصادها منهكا بالديون. لقد ازدادت هذه الديون من 62 مليار دولار في سنة 1970 إلى 2000 مليار دولار سنة 1996 كما جاء في كتاب "عولمة الفقر" لميشيل شوسوروفسكي، مما جعل هذه الدول ترضخ أكثر وأكثر لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي ترعى مصالح أصحاب رأس المال العالمي والدول الغنية.
*الاستقلال القومي لا يضمن كرامة وحقوق الإنسان*
لقد حصل تراجع كبير في دور مؤسسة الدولة في الحياة الاقتصادية ولم تعد الدولة هي صاحبة الشأن في تحديد الأجور وأسعار البضائع لمواطنيها. يقع اليوم نحو 50% من الاقتصاد العالمي بأيدي الشركات الخاصة والباقي بيد الدول. وعليه فإن دور الدولة، في تراجع مستمر وقدرة الدولة على تأمين كرامة ومصالح مواطنيها في تراجع كبير خاصة الدول النامية منها.
بناء على قراءة تجربة الدول التي نالت استقلالها القومي يظهر لنا جليا بأن الاستقلال القومي هو أداة من شأنها أن تسهل تحقيق كرامة وحقوق الإنسان لكنها ليست أداة كافية، بل ومن الممكن أن تتحول إلى أداة لقمع الكرامة والحقوق والحريات باسم القومية. في نهاية المطاف ما يصبو إليه الإنسان ليس وطنا يرفرف فيه العَلم الوطني، مع كل أهميته، فوق رؤوس مواطنيه، بل يصبو إلى العيش الحر الكريم والعادل.
بعد تفكك الاتحاد السوفياتي الذي ،مع كل الانتقاد إليه، كان يشكل قوة داعمة لقوى التحرر، بقيت دول قليلة ترفض الخضوع لهيمنة قوى الاقتصاد العالمي وشركات الاستثمار الكبرى. فنزويلا بقيادة شافيز ودولا قليلة أخرى تتصدى بشجاعة كبيرة للهيمنة الأمريكية التي تقود هذا الاستعمار الاقتصادي الجديد. أما الغالبية الساحقة من الدول "المستقلة" ترضخ أو تتعاون بشكل كامل مع إملاءات الولايات المتحدة وتنظيمات السيطرة الاقتصادية العالمية.
يشكل الإحباط الناجم من الحلول القومية ومن عجز الأنظمة في الدول المستقلة، أرضية خصبة لنشوء حركات أصولية تَعِد المواطنين بحلول في الآخرة على حساب تحمل شقاء الحياة الدنيا، لذلك نرى مثل هذه الحركات تنتشر أكثر وأكثر بداخل الدول "المستقلة" كأفغانستان والباكستان والجزائر ومصر وغيرها من الدول.
من أهم إخفاقات المشاريع القومية في العالم أنها رأت بالاستقلال القومي هدفا بحد ذاته وليس أداة من أجل تحقيق كرامة الإنسان وحقوقه. معظم الحركات القومية فصلت القضية القومية عن القضية الاجتماعية ووضعت الأولى فوق الثانية، وهكذا بقيت قضايا العدالة الاجتماعية والقضايا الطبقية وقضايا المرأة متفاقمة بعد الاستقلال. قليلة هي حركات التحرر التي التفتت إلى ضرورة ربط القضية القومية بالقضية الاجتماعية والإنسانية. المؤتمر القومي الأفريقي ANC بقيادة نلسون منديلا كان من بين الحركات القليلة التي رأت بالحل الإنساني والاجتماعي هدفا يفوق هدف الاستقلال القومي لذلك لم يطالب المؤتمر بدولة مستقلة للسود في جنوب أفريقيا ولم يطالب بحقوق جماعية على أساس عرقي بل عمل على إقامة دولة ديمقراطية تعتمد مبادئ حقوق الإنسان لجميع مواطنيها السود والملونين والهنود والبيض مرجعية لها، وليس الحقوق الجماعية لكل فئة قومية أو ثقافية بالرغم من أن السود يشكلون أغلبية ساحقة في الدولة. نتيجة لهذا الربط بين حقوق الإنسان الاجتماعية وبين القضية القومية والنضال ضد حكم الأباتهايد تأخذ المرأة الأفريقية اليوم دورا مرموقا في السياسة وفي مؤسسات الدولة الديمقراطية.
يظهر اليوم أكثر من أي وقت مضى أن هنالك حاجة ماسة لربط النضال القومي والنضال الاجتماعي في نضال واحد يكمل كل منهما الآخر. من هذا المنظار يجب أن نرى بأن النضال القومي يجب أن يسير جنبا إلى جنب مع النضال العالمي ضد الدول الثماني الكبرى Big Eight وجنبا إلى جنب مع النضال العالمي من أجل حقوق الإنسان بمعناها الواسع المعرف بالمواثيق الدولية (عدالة اجتماعية وحريات).
القومية هي صياغة ووعي في الصراع من أجل حقوق الإنسان
في كتابة "كيف ومتى صنع الشعب اليهودي" يحلل الكاتب شلومو زند كيف تتشكل الشعوب ويظهر أن معظم الشعوب في العالم تشكلت عبر صراع بين حكم ظالم وبين شعوب أو قبائل وقعت تحت حكم ظالم. أمام استعمال الحكم الظالم للقومية لتثبيت حكمه تقوم قيادات سياسية وقومية بتحريض الشعوب الواقعة تحت الظلم وشحنها بفكرة التحرر القومي. هكذا تتشكل الشعوب بفعل التثقيف القومي الذي يصنع "شعوبا متخيلة" في وعي الجمهور رغم أنها لم تنحدر بالضرورة من بطن أو أصل واحد بل تجمعها قضية تحرر واحدة. هكذا صنعت الكثير من الشعوب، وأعتقد أنه هكذا صنع الشعب الفلسطيني أيضا.
الهوية القومية الفلسطينية تشكلت من خلال مواجهة الشعب الفلسطيني للصهيونية. من أجل الدفاع عن حقوقنا وفي مواجهة الإدعاءات الصهيونية بأنه لا يوجد شعب فلسطيني بل مجموعة من الأقليات، جرى بطبيعة الحال وبحق التأكيد على هويتنا القومية الفلسطينية. لقد بدأت الهوية الفلسطينية تتكون مع بداية الاستيطان في فلسطين. بعد حرب 1948 ساهم إطلاق مصطلح "النكبة" بتوحيد تجارب الفلسطينيين المتباينة (بقاء في الوطن وممارسة المواطنة الإسرائيلية، مجازر، استشهاد، تهجير وفقدان الأهل والوطن والكرامة) وأضفى شعورا بوحدة الحال ووحدة المصير رغم تباين تجربة النكبة بين الفئات المختلفة. حتى نكسة 1967 بقيت الهوية العربية تغلب على الهوية الفلسطينية. بعد النكسة وبعد خيبة الأمل من الانتماء العربي أخذت الهوية الفلسطينية تتعمق وتعلو على العربية. أذكر حينها ظهرت عناوين رئيسية في الصحف الإسرائيلية تقول "الطلاب العرب في جامعة حيفا يقولون أنهم فلسطينيون" إشارة إلى مرحلة جديدة في بلورة الهوية الفلسطينية.
الشعور بالانتماء الفلسطيني متجذر جدا في نفوسنا اليوم إلا أنه يجب النظر إلى هويتنا الفلسطينية ليس كحقيقة بيولوجية- تاريخية بل هي دائرة انتماء تربض بداخل وعينا جاءت لتنظم نضالنا من أجل الكرامة وحقوق الإنسان الفلسطيني. في استقصاء أولي لتاريخ العائلات الفلسطينية نرى أن بعضها جاء من لبنان وسوريا والأردن وبعضها من الجزيرة العربية واليمن ومصر وشمال أفريقيا وليس في هذه الحقيقة أي انتقاص من كوننا شعب كبقية الشعوب تكون من خلال وعي قومي نما عبر وحدة القضية ووحدة المصير والهدف في مواجهة الصهيونية. وعليه فالوعي القومي هو وعي أكثر مما هو حقيقة، يجب أن يسخر من أجل تحقيق الهدف الذي أقيم من أجله ألا وهو كرامة وحقوق إنسان، وليس من أجل حل قومي بحد ذاته ينتهي بالاستقلال القومي فحسب.
*كرامة وحقوق الإنسان فوق الدولة الفلسطينية المستقلة*
كجزء من حركات التحرر الوطني التي ظهرت في القرن الماضي وضعت القيادة الفلسطينية هدف التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية التي يتوخى منها استعادة كرامة وحقوق الإنسان الفلسطيني. بعد حرب حزيران 1967 تركز النضال الفلسطيني في إنهاء الاحتلال وفيما بعد تبنت منظمة التحرير هدف إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 إلى جانب إسرائيل. أمام هذا الموقف سمعت أصوات فلسطينية أخرى منها رفض الاعتراف بإسرائيل أو التمسك بدولة علمانية أو ثنائية القومية. جميع هذه الأصوات أجمعت على ضرورة إنهاء الاحتلال أولا. لقد كان صوت سري نسيبة وحيدا في ألسبعينيات حين دعا إلى ضم الضفة والقطاع إلى إسرائيل والمطالبة بمواطنه إسرائيلية للفلسطينيين بدل انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. لقد بدا صوته نشازا وخيانيا في حينه لأنه يتعارض مع مبدأ حق تقرير المصير والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية. ومن جهة أخرى كانت إسرائيل ترفض ضم المناطق المحتلة إليها خوفا من فقدان يهوديتها وتحويلها إلى دولة ثنائية القومية ربما أكثر مما كانت ترفض الانسحاب من المناطق المحتلة. بغض النظر عن موقف إسرائيل يحق لنا أن نسأل ما هو المطلب الأجدى لتحقيق كرامة وحقوق الشعب الفلسطيني.
اليوم وفي عصر العولمة التي فتحت بها حدود الدول أمام قوى اقتصادية عابرة للقارات والحدود والتي تسيطر فيها المنظمات الاقتصادية العالمية على مستوى معيشة السكان في كل دولة "مستقلة" أكثر مما تسيطر عليها الحكومات المحلية، يتحتم علينا أن نسأل فيما إذا كانت الدولة الفلسطينية المستقلة قادرة على تحقيق كرامة الإنسان وحقوقه بما في ذلك حق اللاجئين في اختيار الطريقة التي يحققون فيها حقهم المشروع بالعودة.
يصبح هذا السؤال جديرا عندما نرى دولا استقلت كالجزائر التي دفعت مليون شهيدا من أجل استقلالها ومصر وغيرها من الدول التي طردت المستعمر وبقي الفقر يتفشى فيها وتنهش الاستثمارات الأجنبية والداخلية بخيرات البلاد وشعبها. وفي المقابل نرى حال اسكتلندا وكويبيك مثالا لشعبين لم يستقلا ولكن كرامة وحقوق المواطنين فيها محفوظة نسبيا.
السؤال حول جدوى الدولة المستقلة يصبح ملحا عندما نرى حال القيادة الفلسطينية الذي يتراوح بين أصولية حماس وبين عجز السلطة الفلسطينية وكلاهما لا تستطيع التصدي لضغط مصالح الاقتصاد العالمي.
هنالك العديد من الحلول السياسية التي يمكن مناقشتها اليوم: دولتان لشعبين تفصلهما حدود 1967، دولتان ثنائيتا القومية تفصلهما حدود 1967، دولة فلسطينية للفلسطينيين في الضفة والقطاع ودولة ثنائية القومية في حدود 1967، دولة ثنائية القومية أو دولة دمقراطية علمانية في فلسطين التاريخية. هنالك طرح إسرائيلي قديم تجدد مؤخرا يعتبر الأردن وطنا للفلسطينيين، وهنالك طروحات أخرى تتحدث عن فدرالية أو كونفدرالية بين اثنتين أو ثلاث من دول إسرائيل وفلسطين والأردن.
أي حل سياسي يجب أن يكون مشروطا بضمان كرامة الإنسان وحقوقه وأي حل لا يضمن ذلك يجب أن يكون مرفوضا حتى لو كان هذا الحل دولة فلسطينية مستقلة على "كامل تراب الوطن". كرامة الإنسان وحقوقه هما الهدف أما الدولة وحدودها فهي الوسيلة، وعليه فإن تقييم أي حل سياسي (دولة واحدة أو دولتان، أحادية القومية أو ثنائية، فدرالية أو غير فدرالية) يجب أن يكون بناء على مدى استجابته للعدالة الاجتماعية والحريات. ومن جهة أخرى على النضال القومي أن لا يكون منغلقا في دوائر القومية الضيقة، بل عليه أن يسير جنبا إلى جنب مع النضال الطبقي والاجتماعي والنضال العالمي من أجل السلام وحقوق الإنسان والمحافظة على الطبيعة وضد التسلح وهيمنة الدول الكبرى على العالم.
بروفيسور مروان دويري
السبت 5/7/2008