كنت واقفًا على ما يشبه بلكون بيتنا في الناصرة مقابل الجامع الأبيض. وكان الشارع الفاصل بيننا وبين الجامع ضيّقًا لا يتسع لأكثر من جمل واحد محمّلا بالتبن. عند هذا البلكون باب يؤدي إلى بيت الجيران ودرج آخر يؤدي إلى بيتنا. أنظر إلى الناحية الشمالية أراقب جوقة من عصافير الدوري.
هذا من حيث المكان.. أما الزمان فكان سنة 1953، وكنت في العاشرة من عمري أصّوب مِقلاعي نحو العصفور الجاثم على شباك دار مقنطر.. تكسّر زجاجه ربما بفعل فاعل مثلي وربما أيضًا جراء قازان سقط بالقرب منه في عام النكبة. وعام النكبة أصبح عندنا نحن الفلسطينيين كعام الفيل علامة، فيه كان مولد الرسول، لكن عام النكبة هذا كان علامة الرحيل والهجيج والذبح والمجازر والرعب.
أصوّب المقلاع أطلق الحجر الصغير، أخطئ العصفور، أصيب الزجاج، ويسقط لوح آخر.
بعد ظهر ذلك اليوم يدق الباب.. أفتحه.. أرى ثلاثة رجال. يسألني أحدهم:"جدك هون يا ولد؟" أعود للداخل أكرر السؤال ذاته لوالدي وأنا أتضحوك.. يضحك هو أيضًا، يطلب مني أن أفتح باب الديوان. يدخل الرجال الثلاثة.. يلبس والدي العباءة الحمراء التي أرسلها له أخي اللاجئ في زرقاء الأردن، يستقبلهم مرحبًا بشوشًا كعادته ويصحح من معلوماتهم عني بشكل غير مباشر؛ المسْخوط يتمسخر ويقول لي يابا: إنت جدي من اليوم وطالع!
أدخل بعد برهة حاملا صينية القهوة السادة.. الفناجين والصبّاب الذي لم يكن يعرف البرودة. منذ النكبة وحتى ما بعد هذا الحدث بسنة لم يخرج والدي من البيت إلاّ محمولا في نعش. يُقال انه لم يُغادر المنزل احتجاجًا أو احباطًا! لا لا يمكن أن يكون محبطًا.. كان بشوشًا ومتفائلا في طبعه ولا يعرف اليأس.. على الرغم من كل شيء وعلى الرغم من مخلفات النكبة.. نصف أولاده في عداد اللاجئين.. أرضه مصادرة.. يكتفي بالقليل لكن قهوته كانت دائمًا ساخنة وديوانُه مفتوحًا كان.
الرجال الثلاثة يتسامرون مع والدي يتحدثون كلامًا لا أفهمه لكنني علمت فيما بعد وأثناء دخولي وصب القهوة وتقديم الدخان أنني أنا موضوع شكوى... قلت: نعم لكنني لم أقصد كسر الزجاج.. أخطأت العصفور فانكسر الزجاج. أبي يعرف جيدًا أنني لا أكذب. ولكن الغريب في الأمر أن الرجال الثلاثة صدقوني أيضًا وهم لا يعرفونني. قال أبي: مليح اللي الولد كسر لوح القزاز حتى كسبنا شوفتكو!
لقد كانوا أذكياء جدًا حيث إنهم استغلوا الحدث ليوثقوا روابطهم مع هذا الشيخ.. لم تكن زيارتهم زيارة خاطفة. كانوا على التوالي فؤاد خوري ومنعم جرجورة وخليل خوري وهم من أقطاب عصبة التحرر الوطني ثم بالتالي الحزب الشيوعي الإسرائيلي. علمت فيما بعد وعندما كبرت بحيث استطيع أن أحفظ سرًا.. أن أخي سامي الزرقاوي تسلل إلى الناصرة عن طريق عين ماهل لرؤية والدي ومكث أسبوعًا بدار خليل الخوري الذي كان يسكن بدار قريبة من دارنا.. أتعرفون ماذا كان حكم إيواء متسلل في تلك الأيام الأولى للحكم العسكري؟ أتعرفون إذا ما نوعية هذه العلاقة التي كانت تربط والد خليل خوري- فرح خوري- بوالدي قبل أن يتم إغتياله في المجيدل بفوضى ثورة الـ 36؟ لم يكن ذلك الحجر الذي طار على شباك مقر الشبيبة الشيوعية مجرد حجر لصيد العصافير إنما كان حجرًا ألقي في بركة ماء...بركتي الشخصية، أتدرون كم دائرة خلّف؟!! أتدرون كم كانت حنكة هؤلاء الرجال الثلاثة؟ حين عادوا والدي وحين صدقوني ومبرراتي الطفولية... من يومها وحتى اليوم صرت صديقًا للشبيبة وبالتالي الحزب. حيث عرفت ما معنى أن تعطي ثقتك لإنسان وأن تصدق طفلا وتحتمل تفاهاته وتبريراته وتتفهمها.
وعلمت فيما بعد لماذا خاطر خليل الخوري بإيواء أخي المتسلل. فلا شيء يأتي من الفراغ؟ ولماذا كان هؤلاء الرجال أهل ثقة عند والدي.. ووالدي كان أهل ثقة لديهم.
كان هذا الشيخ في أواسط أربعينيات القرن الماضي رئيسًا للجنة القومية وكان الناس ضد التقسيم بما في ذلك الشيوعيون. عارض الجميع سياسة الإنتداب البريطاني، قاوموه، قاوموا انحيازه إلى جانب الحركة الصهيونية.
عندما رأى الشيوعيون ما آلت إليه أوضاع البلاد غيّروا رأيهم بعد دراسة مستفيضة فصاروا من دعاة التقسيم. وفي تلك الفترة نزل غضب الله على دعاة التقسيم وغضب العبد وغضب جيش "الإنقاذ" وغضب الجهاد المقدس وغضب أبو إبراهيم الكبير وأبو إبراهيم الصغير!(المرحوم توفيق المحمد الذي توفي مؤخرًا في دمشق وكان وكيل أملاك رافع الفاهوم الذي إغتيل في فوضى الـ 36 بعد أن نسف الإنجليز داره المؤلفة من 36 غرفة والتي احتوت على غلال خمسة آلاف دونم كان ذلك في قرية إندور وبتهمة إيواء جماعة القسّام.. كما دلَّ الأثر بُعيد معركة الشرّار قرب دبورية والتي قتل فيها سبعة ضباط إنجليز).
علم ذلك الشيخ من أحد الشباب عن اعتقال ستة رجال من شيوعيي الناصرة بالمسكوبية.. وعلم أن النيّة قد عُقدت على تسليمهم لجيش "الإنقاذ" وبالتالي تسفيرهم إلى سوريا حيث سيعدمون هناك بتهمة "الخيانة" لكونهم موافقين على التقسيم ومن دعاته. كان هذا الشاب ضابطًا في جيش الإنقاذ "ربما"! سيتبين فيما بعد أنه الشاعر عبد الرحيم محمود من عنبتا الذي استشهد في معارك السجرة سنة 1948 ودُفن في المقبرة القديمة ثم رُمم ضريحه في أيام توفيق زيّاد في رئاسة البلدية، والذي سوف يتبيّن أنه والد الطيّب عبد الرحيم أحد رجالات منظمة التحرير...
كان هذا الضابط الشاب ذا ميول يسارية، وعضوًا بعصبة التحرر الوطني. بعد أن علم مباشرةً بأمر الرفاق الستة جاء إلى الشيخ سِرًا ، قال له:عمي إبراهيم المسألة كيت كيت وبيلا بيلا.. إلحق! فهرع الشيخ بصفته رئيسا للجنة القومية ولم يغادر المسكوبية إلا ومعه هؤلاء المعتقلون الرجال الستة.
سأعلم فيما بعد أن "قاروط" جرجورة كما أسماه أهل الحارة الشرقية كان واحدا منهم، وسأعلم أيضا أن هذا الشاب منعم كان من الذين رموا بأنفسهم تحت عجلات السيارات لمنع الرحيل. كما سأعلم أن ذلك الشيخ جرح برجله جرّاء شظية قازان- قنبلة رمتها طائرة صهيونية- بالمعركة ذاتها التي إستشهد فيها ذلك الضابط الشاب اليافع... لم يكن والدي مُقاتلا، لا بالسيف ولا بالقلم لكنه كان صادقًا. هرع إلى السجرة لكي يُشجع فزعة المقاتلين الشبان، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا.
أتعلمون ماذا كان سيحدث لو أنني أصبت ذلك العصفور؟ أولا لانقطع نسله وما ليخلّف ملايين العصافير وراءه خلال كل هذه السنوات، أما ثانيًا فما كانت لتكون هذه القصة.. الحكاية.
وليد الفاهوم *
الخميس 3/7/2008