شهدت العقود الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بمفهوم التعددية الثقافية، وخاصة في الدول الغربية واللبرالية، جراء تنامي حجم الأقليات القومية والدينية والعرقية في هذه الدول، أصلية كانت أم مهاجرة. ولمفهوم التعددية الثقافية تفسيرات متنوّعة وموديلات عدة، خاصة فيما يتعلق بحقوق الأقلية في الدولة في ممارسة ثقافاتها وعاداتها. والاجتهادات حول هذه المسألة تتصل في أكثر من جانب بمكانة النساء العربيات داخل إسرائيل، وخاصة في ظل تمأسس الطروحات التي تطالب بضمان "الادارة الذاتية للعرب الفلسطينيين في مجال التربية والتعليم والدين والثقافة"، كما جاء على سبيل المثال في وثيقة "التصور المستقبلي".
تتسم غالبية التحليلات لمفهوم التعددية الثقافية بالتمييز بين الحيز العام والحيز الخاص وكذلك بفهم معيّن لـ "الثقافة". فهناك من يعتبر التعددية الثقافية تعدديةً ديمغرافية (أي مقياس رقمي للاختلاف بين المجموعات)، وهناك التعددية اللبرالية. وهناك النقد الماركسي للمفهوم الذي يعتبر التعددية الثقافية بمثابة أيديولجيا رأسمالية تهدف إلى تخفيف حدّة التناقضات والتغييرات الاقتصادية في ظل نظام العولمة، وتحويل النقاش من معركة ذات جوهر سياسي واقتصادي واجتماعي الى "صراع/ حوار" حضارات وثقافات، ومن تمايز طبقي إلى تمايز ثقافي. هذا بالإضافة إلى ترسيخ الطرح اللبرالي لهيمنة ثقافة واحدة، على جميع الثقافات الأخرى أن تتلاءم معها وتتأقلم على هامشها.
التعددية الثقافية التي تقضي بضمان حقوق أو امتيازات جماعية للأقليات، تثير نقاشًا حادًا حول حقوق الأفراد داخل الأقلية نفسها، خاصة حينما تتعارض بعض قيمها وممارساتها الدينية والثقافية مع قيم حقوق الإنسان وقوانين الدولة التي تعيش فيها هذه الأقلية. ومن الطبيعي أن يتمحور الأمر حول حقوق النساء داخل الأقلية تحديدًا.
فالجزء الأكبر من العادات والثقافة يتعلق بممارسات الأفراد في الحيز الخاص. الأمر الذي بطبيعة الحال يؤثر على النساء أكثر من الرجال. وهنالك عادات تمارس تجاه النساء، تخالف أحيانًا القانون وقيم حقوق الانسان، تتم شرعتنتها تحت يافطة "الخاصية الثقافية". ولنأخذ على سبيل المثال ختان الإناث، وتزويج الأطفال، وتعدّد الزوجات وغيرها. كما تستخدم هذه "الثقافة والعادات والتقاليد" كذريعة لتبرير أو تفهّم جرائم قتل النساء بحجة "الحفاظ على شرف العائلة".
هذا الصدام بين الحقوق الجماعية وحقوقنا كنساء، يضعنا أمام معضلة جوهرية: بين المطالبة بالحقوق الجماعية كوننا ننتمي لأقلية قومية مضهدة، ورغبتنا في تحقيق مساواة المرأة والتي من شأنها أن تتعارض مع بعض مضامين الإدارة الذاتية الثقافية. ولمواجهة هذه المعضلة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العديد من المسائل، بينها:
• أولاً، نسمع دائمًا الادعاء بأن مكانة المرأة في مجتمعنا هي "جزء من موروثنا الثقافي وهويتنا القومية"، وإذا أردنا تغييرها فإننا نهدد هذا الموروث وهذه الهوية. نعم، جزء من عاداتنا وتقاليدنا تقمع المرأة وتكرس دونيتها، والانتماء القومي والكرامة الوطنية لا يتنافى مع واجبنا، رجالا ونساء، أن نغيّر العادات والتقاليد التي تضطهد أو تقمع جزءًا من مجتمعنا. هذا لا ينتقص من هويتنا الوطنية، بل على العكس، الارتقاء بالمجتمع الى مجتمع متنور، يعالج مشاكله ويتعامل معها بشجاعة، هو مسؤولية وطنية بامتياز. وتقدم مكانة المرأة لا يمكنه بأي حال من الاحوال أن يهدد هويتنا كمجتمع. العادات والتقاليد هي أمور ديناميكية ومتغيرة، ترتكز على حاجات معينة، ترتبط بالسياق التاريخي والاجتماعي والجغرافي لأي مجتمع. وعلى أي مجتمع يريد التطور والتقدم أن يرى عاداته وتقاليده بعين ناقدة وتغيير ما لا يلائم رؤية وطموحات هذا المجتمع بكل مركباته.
• ثانيًا، أحيانًا تستعمل قضايا التمييز تجاه النساء داخل المجتمع لتشويه صورتنا الإنسانية وتبرير التمييز ضدنا. مثلاً، نواجه الادعاء الممجوج: "كيف تطالبون بالمساواة وانتم لا تمنحون نساءكم المساواة" وكأن النساء اليهوديات ينعمن بكل حقوقهن وكامل مساواتهن! وهنا يجب أن نوضح أننا كأي مجتمع آخر، لا نتمتع بالكمال، وأن المؤسسة الحاكمة، التي أثبتت عداءها لنا ولحقوقنا، لا تعرف مصلحتنا أكثر منا، ومن غير المعقول أن نقبل إملاءات فوقية بما يخصّ مكانة المرأة. فكل مجتمع يمر بسيرورة خاصة به، ناهيك عن أن مجتمعنا يناقش وينتقد ويعالج العديد من القضايا التي تتعلق بالنساء وحقوقهن. وهذه هي السيرورة الصحية بعيدًا عن الإملاءات الفوقية.
• ثالثًا، من الواضح أن التغيير الداخلي في المجتمع مرتبط بمكانتنا كجماهير عربية، فمنذ النكبة حتى الآن عرقلت الدولة تطورنا الطبيعي كأي مجتمع (ولا يمكن بالطبع تجاهل الحقيقة أننا، قبل النكبة، كنا نرزح تحت الانتداب البريطاني وقبله الحكم العثماني). هذا بالإضافة إلى أن معاناة مجتمعنا كأقلية مضطهدة، يشكل عائقًا أمام التقدّم الداخلي، وخاصة أمام رفع مكانة النساء. مثلاً تقدم النساء الاجتماعي منوط بتقدمهن الاقتصادي وطالما تميز الدولة اقتصادياً واجتماعياً ضد المجتمع العربي وضد الفئات المستضعفة فستبقى النساء العربيات على رأس سلم التمييز، مما يعرقل مسيرتهن نحو التقدم الاجتماعي والمساواة.
• رابعًا، في حالة مجتمعنا، فإن منحنا "إدارة ذاتية ثقافية"، من الممكن أن يؤدي لوضع الصلاحيات في أيدي نخبة، يمكنها أن تعرقل أي تغيير مرجو بحجة الحفاظ على الهوية، كنوع من الرد على الاضطهاد الخارجي أو الرغبة في السلطة والسيطرة على المجتمع. وسيُنظر إلى اي تدخل من قبل الدولة على أنه تهديد، وتُطالـَب النساء بالتنازل عن حقوقهن من أجل مصلحة الأقلية الجماعية. وهذا سيؤدي بالضرورة الى إسكات أصوات النقد الداخلي في مجتمعنا. وهنا تجدر الاشارة الى بعض الادعاءات التي تستغَل للهجوم على الاطر النسوية او التي تعمل على رفع مكانة المرأة، خاصة تلك التي تحاول تكفير مطالب النساء او تصويرها على انها مؤامرة غربية.
• خامسًا، في أي حوار مع الدولة حول الحقوق الجماعية وخاصة الإدارة الذاتية، يجب ضمان مشاركة النساء، من خلفيات وآراء مختلفة، وذلك لكي يتم الأخذ بعين الاعتبار حقوقهن ومصلحتهن في بلورة الحلول. من الصعب في العديد من الأحيان ان نرسم خطًا واضحًا وفاصلاً بين تدخل الدولة (المطلوب أحيانًا - بالأساس الجهاز القضائي) وبين استقلاليتنا الثقافية. وحول هذا الموضوع تطرح العديد من الاسئلة، مثلاً، ما هي مرجعيتنا؟ هل هي المواثيق الدولية لحقوق الانسان وحقوق النساء؟ هل هي المرجعية الدينية؟ والاهم، كيف نضمن ان لا يصبح تدخل الدولة اداة بيد السلطة للسيطرة على مجتمعنا؟
هذه الأمور وغيرها تطرح الحاجة لمناقشة مطلب الإدارة الذاتية بشكل معمق ونقدي. وربما يكون من المفيد إجراء حلقات نقاش منهجية، لنحاول بشكل أو بآخر أن نوفق بين طموحاتنا القومية كجزء من أقلية وطن أصلية وطموحنا كنساء للحصول على حقوقنا ومساواتنا الكاملة.
عبير قبطي
الأربعاء 2/7/2008