ما بين الساحل الشرقي للبحر الأسود ومشارف بحر قزوين، تمتد جورجيا من دون أن تلامس حوافي بحر النفط والكافيار، إذ تقف بينها وبين هذه الملامسة أذربيجان من الشرق، وهي تطوّق أهم منطقة ساخنة في روسيا، الشيشان، وتحاذي منطقة أخرى مرشحة لأن تكون ساخنة ألا وهي داغستان، بلد الشعر والجمال الأسطوري، عبر أبخازيا وأوسيتيا. جورجيا، هذه الدولة الصغيرة المساحة وعدد النفوس (حيث لا يتجاوز عدد مواطنيها الخمسة ملايين نسمة) التي تحاذيها من الشمال روسيا الكبيرة، ومن الجنوب تركيا وأرمينيا، تنغرس في أحشاء التاريخ.
لقد دخلها القائد العربي حبيب بن مسلمة الفهري عام 644، وفيما بعد أصبحت تبليسي العاصمة مقرا للإسلام في منطقة البلقان وجنوب القوقاز حتى عام 1122، ثم توطّدت العلاقة كثيرا بين العرب وجورجيا طيلة القرنين الثاني والثالث عشر.
كان موقع جورجيا الصغيرة حساسا للغاية، وهاما للغاية، إذ كانت تقع بين ثلاث قوى كبرى، هي الإمبراطورية العربية، ومن ثم العثمانية، والفرس، وروسيا. وقد كانت مسرحا لمعارك طاحنة وغزوات، بحيث تلوّنت بكل الأطياف، ففيها كل أديان ومذاهب المنطقة، وفي أوديتها وروابيها يتحدثون بلغات الأمم المحيطة، والعابرة.
في مطلع القرن التاسع عشر، دخلت جورجيا ضمن الإمبراطورية الروسية، وأصبحت مصدرا لجنود القيصر شأنها في ذلك شأن جميع دول القوقاز. بعد تأسيس الاتحاد السوفياتي أصبحت جورجيا واحدة من دوله. لم تكن جورجيا راضية فحسب بهذا الوضع، بل كانت مفتخرة. فزعيم روسيا الجبار وزعيم الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين جورجي، وكذلك أبرز قادة البلد وقتذاك، وحتى في أواخر عمر الاتحاد السوفييتي، كان الجورجي تشيفارنادزة وزيرا لخارجية هذا الاتحاد.
قبل عقدين من الزمن، لم يكن بمقدور أحد أن يتصور أن روسيا يمكن أن تُخترق من خاصرتها الجنوبية، وبالتحديد من منطقة القوقاز. لقد حاول هتلر اختراق المارد من هذه الخاصرة التي توهّم بأنها رخوة أثناء الحرب العالمية الثانية، بعدما عجز عن اختراقها من الشمال عبر بحر البلطيق ولينينيغراد (بطرسبورغ)، وقد سجل بمحاولة الاختراق هذه نهايته، ونهاية حلمه.
كما اكتفت أميركا أثناء الحرب الباردة بالمرابطة في قواعدها على أرض حليفتها تركيا. لكن الأمور تغيرت كثيرا منذ أوائل تسعينات القرن المنصرم وحتى الآن. فقد تهاوت دول المنظومة الاشتراكية في أوروبا الواحدة بعد الأخرى. توحدت ألمانيا، وقسّمت تشكوسلوفاكيا، وتمزقت يوغسلافيا، والتحقت دول البلطيق وبلغاريا وهنغاريا ورومانيا بالغرب، وانضمّ بعضها لحلف شمال الأطلسي، وآخر الدول التي تم قبولها في الحلف هي ألبانيا وكرواتيا حيث قُبلت عضويتاهما في الاجتماع الأخير لـ «الأطلسي»، فيما تأجّل انضمام أوكرانيا وجورجيا.
لا بد أن يلفت هذا الأمر اهتمام المتابع والمحلل. فجورجيا ليست أكبر وأهم من بولندا أو تشيكوسلوفاكيا، ولا هي أهم من الدولة السلافية الشقيقة بلغاريا، التي ارتبطت بروسيا روحيا منذ كيريل وميتودي، والتي تعزز ارتباطها وجدانيا بموسكو القيصرية التي حررتها من الاستبداد العثماني، ثم موسكو السوفييتية التي حررتها من النازية. جورجيا ليست أهم روحيا من بلغاريا، ولا هي أهم معنويا من تشيكوسلوفاكيا، فلماذا يتحرك الروس بكل جبروتهم رافضين كليا التحاقها بالغرب، أو انضمامها للحلف الأطلسي؟
بالترافق مع الانهيار السريع للاتحاد السوفييتي، أعلنت جورجيا استقلالها عام 1991، وقد سبقتها دول أخرى كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفييتي وتبعتها أخرى. ولكن إعلان استقلال هذه الدول تم بهدوء، إلا جورجيا. فبعد عام من إعلان استقلالها، انفصلت أبخازيا وأعلنت استقلالها عنها، وتمرّدت أوسيتيا، وعلى أثر هذا اندلعت حرب طاحنة بين جورجيا وأبخازيا، راح ضحيتها 30000 جورجي و3000 أبخازي.
ويعزو البعض الفارق الكبير في الخسائر إلى الدعم الروسي اللا محدود للثوار الأبخازيّين، وهذا ما دفع الحكومة الجورجية إلى الاحتماء بالغرب، وبأميركا تحديدا. ومنذ ذلك الوقت، وجدت قوات حفظ السلام الروسية بقرار من كومنولث الدول المستقلة المؤسس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وفي عام 1995، اندلعت ثورة الورود ضدّ فساد شيفارنادزة الذي أصبح رئيسا للبلاد منذ عام 1992، ودعمت أميركا بكل ثقلها التحولات في جورجيا التي زارها بوش فيما بعد. وإذا كانت الحروب ضد روسيا في زمن الحرب الباردة تجري في أميركا اللاتينية وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، فهي الآن تجري على تخوم روسيا المترامية الأطراف، وهي لا تجري في البلطيق، ولا في نواحي سخالين، ولا سيبيريا، ولا حتى في التخوم الغربية لروسيا، وإنما هنا جنوب القوقاز، وبمحاذاة بحر النفط والكافيار، وفي المجال الذي يربط بحرا مغلقا وبحرا شبه مغلق.
روسيا اليوم ما عادت مريضة، وهي في طريقها لاسترداد عافيتها واستعادة بعض مواقعها ونفوذها، وهي تنسج تحالفاتها مع الشرق الذي أهملته طويلا، مع الصين تحديدا، وإلى الجنوب حيث ثروة الغاز والنفط التي يسيل لهما لعاب الدول. روسيا تلملم الآن تلك الدول التي خرجت من فلكها، وهي ليست حريصة كليا على جورجيا. فإذا أرادت جورجيا الالتحاق بالغرب فلتفعل ولكن من دون أبخازيا وأوسيتيا! وعندما تكون جورجيا الغربية من دون أبخازيا وأوسيتيا، فإنّها ستكون غير محاذية لأذربيجان النفطية ولا لداغستان المرشحة للالتهاب.
إن حرمان جورجيا هذا المجال الحيوي يجعلها عديمة الأهمية استراتيجيا، وعندها سيبقى نفوذ روسيا على منطقة جنوب القوقاز. وروسيا مستعدة لدخول الحرب من أجل أبخازيا تحديدا. والسؤال المطروح في هذه الحالة هو ما الذي سيفعله الغرب إذا استعملت روسيا القوة؟ والجواب أنه ليس أمام الغرب من شيء يفعله سوى أحد أمرين أو الأمرين معا: الأول عرقلة انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، والثاني إبعادها عن مجموعة الدول الثماني الغنية. وهذان أمران ما عادا يخيفان روسيا.
* كاتب عراقي
صباح علي الشاهر
الأحد 29/6/2008