أيها الإخوة والأحبّة
قبل سنتين.. وفي سياق التكريم لأحد شعرائنا الذين ساهموا في بلورة الهوية الشعرية في هذا الوطن.. جلس الشاعر المحتفى به قبالتي في الصف الأول.. فلمحت دموع الفرح تكاد تطفر من عينيه.. رأيت أمامي طفلا ختم العقد السابع وما زال نبع عطاء ثرًّا. وأشرت في كلمتي إلى شلال الفرح الإبداعي الذي انهمر من عيني عريس التكريم.. وهو يسمع الكلمات الطيبة التي تحلق في سماء الحفل.. وحوله مملكة الأبناء والأحفاد وجميع الأحبّة من أقرباء وأصدقاء وكتاب وشعراء من مبدعين وغيرهم.
مشهد نبيل وجليل ومثير.. محبة وجمالا ووفاء..
فجميل أن يكون المبدع شاهدًا على حفل تكريمه ونهر الحياة يتدفق في عروقه.. في حياته.. وليس بعد غيابه عن المسرح.
وجميل أن يكون "فارسًا" في عرس ثقافي.. يتوّج الأحبّة رأسه إكليل غار.. بعد مسيرة أدبية امتدت على مسافة عقود.. وهب فيها شبابه وقلمه لشعبه لاجتراح حياة مشتهاة.
فشعبنا شعب وفيّ ونبيل.. ويعرف كيف يحفظ العرفان للذين ضحّوا وساهموا في ضبط الإيقاع للحركة الأدبية المشاغبة التي تشق طريقها إلى المشهد الثقافي في ربوع هذا الوطن الجميل..
مِن هؤلاء الذين آلَوا على أنفسهم أن يكونوا حراسًا للكلمة الطيبة.. الدكتور بطرس دلة.. عريس هذا التكريم..
ذات مساء عرس ثقافي.. أقيم فيه مهرجان الشعر الغزلي في كفر ياسيف.. دعوت الأحبّة إلى المشاركة في "نزهة في ربوع جمهورية الغزل". وقد نظم هذه النزهة وقام بدور "المرشد السياحي" الذي رافقنا إلى "جمهورية الغزل".. العزيز أبو حسام.
وفي ذلك المهرجان أشرت إلى "ظاهرة البطرسة".. وتمنيت عليها أن تغزو جميع ساحاتنا الأدبية والثقافية..
**
الزمن عام 1951
يغادر الفتى قريته الجليلية تاركا وراءه الصف التاسع ليتعلم في التخنيون المهني الصناعي. تجرى المقابلة الشخصية.. ويأبى المسؤولون إلا أن يتخذوا القرار الحاسم: اختزال المسافة الزمنية.. والقفز من التاسع إلى الثاني عشر. ويُعفى الفتى من الدراسة في الصفين العاشر والحادي عشر.. شريطة أن يغطي المادة التي تعلمها الآخرون في هذين الصفين..
مسلحًا بإرادة فولاذية.. يقبل الفتى التحدي.. يشطب من مفكرته "العطلة الصيفية".. فيعتكف في غرفته خمسَ عشرةَ ساعة يوميًّا.. وينكبّ على الدراسة.. وحوله غابة من الكتب المدرسية.. ويلتهم المادة التهامًا..
الفتى غارق في بحر الكتب والمراجع والمصادر المختلفة.. لطفًا.. لا تطرقوا الأبواب!
وتظل الشطيرة وكأس الشاي يتيمتين تحترفان الانتظار!
وعند الامتحان يُكرَم الفتى القادم من القرية الجليلية.. فيجتاز خط النار بسلامة.. ويجد نفسه في المقعد الأول من الصف الثاني عشر!
**
ينهض الرجل في ساعات الفجر الأولى.. فيتناول بنهم وجبته الأدبية الأولى.. يجهز على رواية أو مجموعة قصصية.. أو ديوان شعر وصله مؤخرًا.. ثم يستل قلم الحبر السائل.. ويروح يعدو حصانًا أصيلا في ميادين الإبداع.. يقتحم الساحات البيضاء.. فيطرز كلمة طيبة.. بخطه الذي تستطيع أن تميزه من بين آلاف الخطوط الجميلة.
ثم يذهب العاشق القروي ملهوفًا لموعد صباحي يومي مع عشيقته المعبودة.. يذهب لكي يعانق الأرض وترابها وصخرها وزيتونها.. فيشبعها ضمّا وتقبيلا ويغمرها عشقًا.. إنها حصته من أرض الوطن.. ولا يستطيع إلا أن يمارس هذا الطقس اليومي الذي يلامس حدود العبادة.
**
ويأبى الشيوخ الشباب الذين انطلقوا بهمّة الشباب وانضمّوا إلى موكب الجيل الذهبي.. إلا أن يكون أبو حسام شيخ الشباب.. وحادي القافلة.. فيكللونه قبطانًا لسفينتهم.. تمخر السفينة عباب الأعمار والبحار الهائجة.. وينطلق الملاحون شيوخًا شبابًا.. يتحدّون الأعاصير ويتوثّبون فرحًا وطفولة وعشقًا للحياة الأجمل.. ويركبون البحر شغفًا لاكتشاف الجزائر الخضراء..
إنهم يغافلون الدهر.. ويسرقون منه لحظة فرح ضنّ بها.. في هذا الزمن الذي بدأ يلوّح بالبطاقات الصفراء.. ثم الحمراء.. ويسعى لأن يقلب لهم ظهر المجنّ!
**
في كل عرس له أكثر من قرص..
يذهب والأبشيهي يدًا بيد.. وثالثهما "المستطرف في كل فن مستظرف"..
في الأعراس الأدبية ينزل الخيّال إلى الساحة.. فيصول ويجول في مختلف الجبهات الثقافية.. ويعتلي المنابر الأدبية.. ويأبى إلا أن تكون جعبته عامرة بما لذّ وطاب من الطرائف الأدبية الممتعة.
ويفرح الأبشيهي بالشيخ الجليل.. الذي أطلعه تراب الجليل..
**
وحيثما فتحت صفحة أدبية أو ثقافية في إحدى صحف هذا الوطن.. لا بد أن تجده أمامك..
إنه هنا.. في مقالة تطمح لأن تكون نقدًا لرواية أو ديوان شعر.. أو طرحًا لمسألة أو ظاهرة أدبية أو اجتماعية تثير جدلا واهتمامًا على الساحة الثقافية.
.. ليس صاحبنا صاحب مذهب أدبي في النقد العلمي الموضوعي.. وهو أكبر من أن يدّعي ذلك.. فطبيعته الإنسانية تحلق فوق حدود النقد العلمي الأكاديمي ومساطره الدقيقة الرصينة الحازمة.. إنها تأبى إلا أن تنحاز إلى النص الأدبي وتتعاطف معه وتضمه إلى صدرها وتطبع على جبينه قبلة عشق.
فصاحبنا ذواقة للأدب الجميل.. ويؤمن بالشعار الثوري الذي رفعه ماو تسي تونغ.. وحفره على رايته الشامخة.. دعوا جميع الأزهار تتفتح!
إن شرفات القلب مشرعة.. والقلب مفتوح على مصراعيه.. وينهض الحبيب أبًا حانيًا يفتح ذراعيه.. لاحتضان الأقلام التي يزخر بها المشهد الأدبي.. ولا سيما البراعم الواعدة التي تتوثب من باطن الأرض.. وتطل برأسها لمعانقة الشمس.. في هذه الأرض الطيبة.. أرض الخير والعطاء.. .
هذه البراعم.. تشقّ طريقها إلى ملعبه الأدبي.. فيستقبلها بحفاوة بالغة.. ويأخذ بيدها حتى تقف على قدميها ويصلبّ عودها.. وتكتسي أجنحة تحلق بها في سماء الإبداع..
فصاحبنا مورد عذب.. ولذا كان كثير الزحام.. فكم من قلم واعد ورده.. ولم يصدر عنه إلا وقد حمل في حقيبته "مقدمة" تصدرت الصفحة الأولى لذلك العمل الإبداعي.. وتكون فرحة الميلاد!
**
كان صديقًا لسيبويه.. ويحسب له ألف حساب.. إنه يملك ذائقة لُغوية ومعرفة نحوية لافتة.. في هذا الزمن الرمادي الذي أصبح فيه سيبويه يُستشهد آلاف المرات كل يوم.. وأصبح المتنبي يعيش فيه غربة قاتلة.. يتسكع على أرصفة اللغة.. ويجلس كالأيتام على مآدب "الآخرين"!.
كان صديقًا لمهيار الديلمي.. فجمع المجد من أطرافه.. ولم يترك حديقة تعتب عليه.. ولم يترك وردة جورية دون أن يوقظ العطر النائم في أوراقها المخملية.. ويملأ رئتيه من شذاها الذي يضيق به رحب الفضاء..
إسألوا العتابا والميجنا والمواويل التراثية التي تتدفق من حنجرة ذلك الراعي البطرسي.. لتروي أرض الشعر العطشى.. وتهيّج الحنين القاتل إلى أيام طوتها الأيام!
إسألوا الكمان عن العازف الماهر الذي يداعب أوتاره ويغازلها كل مساء.. تحت ضوء القمر العاشق!
إسألوا الخليل بن أحمد الفراهيدي: من الذي ركب البحر.. فاعتلى الموجة المشاغبة وحاول كبحها وترويضها.. وعاد من رحلته البحرية سالمًا غانمًا.. وقد خبّأ في جعبته قصائد ومقطوعات من الشعر الطريف.. والزجل الفولكلوري الظريف؟
فالأقبية المعتمة تغصّ بالخوابي الملأى نبيذًا.. وبنت الكرم تتوثب لمعانقة فتية دان الزمان لهم.. فما يصيبهم إلا بما شاؤوا!
إسألوا.. إذا اجتمع إخوان الصفا وخلان الوفا..
من ذلك النجم خفيف الظل.. وزينة المجلس الأدبي.. الذي يستل من كنانته.. الطرفة الأدبية الجميلة.. والنكتة التي تسترق الخُطى آتية من الدوائر النواسية المحرمة.. وبيت الشعر النادر.. معمّدًا بالمستطرف.. الذي تطل شرفاته على حدائق الفن المستظرف؟
واسألوا "ساحة" البلياردو الخضراء وكراتها الحمراء والبيضاء والسوداء.. التي تكرج على بساط مخملي أخضر.. إسألوها: من الفارس الذي أثار بينها الصراعات والنزاعات والصدامات.. التي تنتهي دون أن تسفك قطرة دم واحدة؟
إسألوا الأسماك التي تلعب مع أمواج البحر الأزرق.. مَن ذلك الصياد المراوغ.. الذي يجلس على الصخرة الرمادية حارسًا لشاطئ البحر.. ليعود بسمكة حمراء.. تصبح سيدة المائدة وزينتها.. وإلى جانبها ما تيسر من نؤاسيات.. في ذلك المساء..
**
لقد تعبت الأسئلة من أسئلتها.. وما تفنى العناقيد!
فيا حبيبنا أبا حسام.. نتمنى لك الصحة والعافية وطول العمر والمزيد من العطاء..
وليظل قلمك شابًّا أبدًا!
لقد عودتنا أن تختم مقالاتك بالدعاء الذي أصبح أيقونة بطرسية مميزة.. "لك الحياة"!
فاسمح لنا.. هذه المرة.. أن نردّ لك التحية.. بأحسن منها..
لك الحياة.. لك الحياة.. يا شيخ الشباب!
**
(حيفا)
* نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ فتحي فوراني في حفل التكريم للدكتور بطرس دلة
فتحي فوراني
السبت 28/6/2008