سميح القاسم، شاعرٌ عظيمٌ، بكل المقاييس العلمية والمعايير الأكاديمية النقدية والأدبية. نُقش اسمه على صفحات التاريخ. فهو قيثارة فلسطين. حمل لواء الشعر من مجموعته الشعرية الأولى"مواكب الشمس" سنة (1958) إلى "أغاني الدروب" مرورا بديوانه"دمي على كفي" عام(1967). و"دخان البراكين" وتدرج على مدارج الشعر في "سقوط الأقنعة" حتى وصل القمة في مجموعته الشعرية"ويكون أن يأتي طائرُ الرعد" عام(1979). محافظا على قمته منشدا على ايكة الشعر في "قرآن الموت والياسمين" متجددا في "ديوان الحماسة" وصولا في مجموعته الشعرية "إلى الجحيم أيها الليلك" عام(1978) قابعا في صومعة الشعر عابدا ،ناسكا له في ديوان "احبك كما يُشتهى الموت" عام (1980). متحدا مع الشعر مغردا في ديوانه "سأخرج من صورتي ذات يوم" عام (2000). وحتى الآن يُعطي ويتجدد ويُشعُ.
حمل سميح القاسم القضية على كتفيه، وتبلورت لديه الأفكار الثورية فأدرك واقع القضية الفلسطينية فتبنى فصول ملامحها. وصوّر تأثيرها في الإنسان الفلسطيني لأنه مؤمن بعدالة قضيته قضية الوطن والشعب وقد انطبعت كل ملامح القضية في ذاكرته الغضة فصوّر صورة الحقل والبيدر. والحصاد والزرع والزيتون والزرع الأخضر، وكانت علاقته مع الأرض علاقة الالتحام بالأرض والصمود والتمسك بالهوية والتراث والقومية وكانت قصيدتهُ تقوم بدور التوعية والتعبئة والانخراط في الهم الجماعي.
سميح القاسم في شعره مع المستضعفين، الكادحين، الفقراء الذين يغمسون لقمة عيشهم مع التراب. شعره ينادي بالمساواة والمحبة والسلام فكان يصرخ صرخة المسيح "الهي الهي لماذا قتلتني" وكان يحلم بالمدينة الفاضلة مدينة "ارم" المدينة الفاضلة التي رسمها على نهجه.
شعره بشّر بالانتصار. وبناء مجتمع حر، فهو ضد الظلم ومع الطبقة العاملة والفلاحين، وضد الاحتلال والاستعمار .وشعره يناصر الإنسان ضد القهر وضد الرأسمالية وضد العبثية، وضد الاستغلالية . في شعره يريد العدالة والرخاء والحرية. فهو يؤمن بالإنسان وحقوقه الاجتماعية والفردية، ويؤمن بتحرير الإنسان من الاحتلال والاستعمار والامبريالية .وتحرير البشر جميعهم من الاضطهاد والتعسف إلى الأبد. شعره ينادي بتعزيز القيم الإنسانية من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية ومحاربة الرجعية ومع التقدمية ،ومحاربة الظلم والتمييز وعيش الفرد بكرامته الإنسانية. سميح القاسم في شعره يريد لشعبه ومجتمعه البناء والتعمير والتغيير من اجل مستقبل أفضل من اجل الإنسانية جمعاء، ومن اجل السلام بين الشعوب من اجل العدل والمساواة بغض النظر عن الخصائص العرقية الجنس، اللون، اللغة والقومية.
سميح القاسم متنبي فلسطين، شاعر الشعب وشاعر العروبة، النابض بحبها القائل فيها:
"مثلما تغرس في الصحراء نخلة
مثلما تطبع أمي في جبيني الجهم قبلة
مثلما يلقي أبي عنه العباءة
ويهجي لأخي درس القراءة
مثلما تطرح عنها خوذ الحرب كتيبة
مثلما تنهض ساق القمح في الأرض الجديبة
مثلما تبسم للعاشق نجمة. مثلما تمسح وجه العامل المجهد نسمة
مثلما يشمخ بين الغيم مصنع.مثلما ينشد بعض الصحب مطلع
مثلما يبسم في ود غريب لغريب
مثلما يرجع عصفورٌ إلى العش الحبيب
مثلما يحمل تلميذ حقيبة
مثلما تعرف صحراء خصوبة
هكذا تنبض في قلبي العروبة!"
أهم ملامح الفكر اليساري في شعر سميح القاسم هي:
*أولا: الالتزام*
لم يكن الخيار لدى الشاعر الكبير سميح القاسم غير"الالتزام" حيث يعتبر هذا "الالتزام" أداة من اجل الوقوف إلى جانب قضيته الفلسطينية، ومن اجل بناء الإنسان الفلسطيني. و"الالتزام الثوري" لديه هو محاربة الفكر الرجعي، ومحاولة تغيير الواقع والوقوف إلى جانب الجماهير الكادحة، وقد واجه سميح القاسم قضية مصيرية. فما كان عليه إلا أن يلتزم بموقف قضيته، ليبرز من خلال نصوصه العدل والحق ومحاربة العنصرية والمساواة والمحبة ، وقد تجاوز القاسم في شعره نظرية"الفن للفن" ،فنظم شعرا إنسانيا، عالميا ،أبديا، سرمديا ،ملتزما بقضايا شعبه.
وكان التزامه على ثلاثة محاور أو أبعاد:
البعد الوطني، البعد القومي، البعد الاممي العالمي.
الأول: البعد الوطني: التزم القاسم بالبعد الوطني من اجل قضيته الإنسانية ، حيث نهض بالحركة الوطنية ضد الامبريالية والرجعية، ليزيد من وعي الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل ويوقظها، وكونهم أقلية داخل إسرائيل، فيقوم الشاعر بدور التوعية والتعبئة، لذا القاسم يلتزم بهذا الموقف المرتبط بالخلفية الإيديولوجية ،لذا فموقفه مرتبط بالحاضر، وله أبعاد مستقبلية، وموقفه تقدمي يرفض الرجعية، وموقفه من العالم سليم. فسميح القاسم عاش التظاهرة والاعتقال والسجن وكانت معاناته صادقة، فألمه الم الشعب، وصرخته صرخة الشعب، لذا أعطت شعره الخصوصية والتفرد، فبرز لديه البطل الجماعي، حيث تذوب الأنا الفردية ليبرز الأنا الجماعية.
وكان التزام القاسم بالبعد الوطني من اجل إذكاء روح التعاون، وإذكاء الوعي الاجتماعي والوعي السياسي والوعي الثقافي، ولفت انتباه الجماهير، والمطالبة بحقوقهم، والدعوة إلى الوحدة الوطنية، وان يقفوا أمام التحديات التي خُططت لاقتلاعه من جذوره، فيقول في قصيدته:
"كل ما يسكنني من أعين الأطفال
في المنفى المدمى
كل ما اسكنه من وطني الغائب
اسما ومسمى
صرخةُ تجرشني أن أتحدى أن أتحدى"
الثاني: الالتزام بالبعد القومي: وجد القاسم نفسه كفلسطيني يقابل ثقافة سائدة كونه فلسطينيا في إطار أقلية عربية داخل إسرائيل وجد نفسه مهشما فنهض بالقومية من خلال التزامه بهذا البعد، فهو عربيٌ فلسطينيٌ لا يريدُ أن ينسلخ عن قوميته وفي الوقت نفسه هو مواطن إسرائيلي ونتيجة هذا الواقع يعيش سميح القاسم حالة من الاغتراب والتمزق والتناقض ومن هذا المنطلق يؤكد قوميته فيستخدم الرموز القومية ليبرز ويعمق عروبته ، ومن خلالها يبئر يساريته. فهو يمجد عروبته دون أن يمس عناصر قوميات أُخر، فمنذ ألف عام قام النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- وتبعه قومه من العرب ونطقوا باسم الله والقرآن، وفتحوا الفتوحات في مصر ودمشق وقرطاجنة ، وقد جسد القاسم انتماءه العربي في عدة قصائد وعلى سبيل العد لا الحصر قصيدة ليلى العدنية " ليلى التي ترمز إلى القومية العربية، إلى البلاد العربية، إلى الثورة العربية ضد الاستعمار ، وليلى ترمز إلى الصحراء، ليلى ترمز إلى حركات التحرر في العالم العربي، في مصر ، في سوريا، في العراق، في ليبيا، في الجزائر وفي اليمن.
الثالث: البعد الاممي العالمي: قرأ سميح القاسم لشعراء عالميين ثوريين، أمثال ناظم حكمت ، لوركا، نيرودا، مياكوفسكي، بابول ايلوار، فجاءت صرخته مدوية وهي صرخة الإنسان المضطهد لذا فهي صرخة إنسانية أممية عالمية ثورية،، يعالج من خلال شعره قضايا الإنسان المضطهد، الإنسان الكوني، الذي يريد من وراء صرخته تحطيم قوالب الاستبداد والاستغلال والطغيان والعبودية والظلم، والقاسم ناصر كل قضية من قضايا العالم، ووقف إلى جانب الشعوب المضطهدة ، فإذا انتصرت قضاياهم انتصرت قضيته ، لأنه يؤمن بحتمية انتصار قوى السلام والحق على قوى الظلم والاستغلال من اجل البناء والتعمير، وتضامن القاسم مع المغني الأسود بول روبنسون، وتضامن القاسم أيضا مع فيدل كاسترو، ومع بتريس لومومبا، وناصر الشاعر الاسباني لوركا، الذي قُتل من اجل حريته وحرية شعبه.
ومن أهم الملامح اليسارية في شعر سميح القاسم أيضا إذكاء روح التمرد والثورة في الشعر.
إن غضب القاسم وثورته نابعة من الواقع الاجتماعي من المرارة والتشريد والنفي والتهويد والاعتقال والتجويع ومصادرة ملكية الشعب المتمثلة في الأرض ، فشعره في الخمسينيات ثورة وهو ردٌ على النكبة، فشعره في الستينيات ثورة وهو ردٌ على النكسة ،ومنذ إطلالته الشعرية الأولى أكد القاسم وشدد على أن الشعر ينطلق يتحدى القيود والحدود، وشدد على استحالة خنقه، وهذا واضحٌ في مجموعته الشعرية "مواكب الشمس" عام (1958). إذ يقول في قصيدة "الشاعر السجين":
"سجنوك ولكن هل تقوى الجدران على خنق الشعر
هل تُكبت أرواح ثارت لتحطم أغلال الأسر"
*ثانيا: رفع شأن الطبقة العاملة*
كان لسميح القاسم دورٌ في رفع شأن الطبقة العاملة حيث قام في نشر الوعي لتمكين العمال الكادحين من اكتشاف واستكشاف بذور الاستغلال والاستبداد، فشعره ينتمي إلى "الواقعية الاشتراكية"، حيث تعكس الواقعية بحذافيرها وتنشأ على التفاؤل التاريخي، وتعكس أيضا الحقائق المتصلة بالكفاح العمالي، يناصر القاسم العمال والعاملين من موقف اجتماعي طبقي، إنساني، ويبعث سلاما لهم لأنه مؤمن أن هؤلاء العمال هم بناة المجتمع والاقتصاد فيقول:
"سلاما يا سواعد إخوتي العمال
سلاما يا مداخنهم
سلاما يا منازلهم
سلاما للجسور الشهل، للآلات، للأبراج، للأزهار، للأطفال"
آمن القاسم بالنضال والثورة من قبل العمال، حيث أن شعره كان خبزا في أيديهم ليعطيهم ويمنحهم القوة والصمود .فهو يثور باسم العمال والطلاب والشعراء، وقد التحم القاسم مع الطبقة العاملة، لأنه ينتمي إلى نفس الشريحة الاجتماعية، فيتحدث عن الأنا الفردية المتمثلة في الأنا الجماعية، حيث هو الكادح وهو الميلاد وهو النبع وهو العامل، بل هو ملمح من ملامح أرضه ووطنه ووجوده ، والقاسم مفعم بالتفاؤل والبعث الثوري، وبالتحرر والحياة ويأتي هذا عن طريق الأيدي العاملة في الأرض وفي المصنع، يبرز القاسم في شعره ظلم الطبقة الكادحة، لذا شعره شعر حر لا أنانية فيه، ولا حب المناصب، وإنما يريد به النضال ومساندة الفقراء، الكادحين، المستضعفين، والعمال المضطهدين.
*ثالثا: الصمود والالتحام بالأرض*
إن ثورة سميح القاسم نابعة من دعوته إلى الصمود والالتحام بالأرض من اجل البقاء، وثورته من اجل البقاء والهجرة والنفي، وثورته من اجل التمسك بالأرض والحفاظ على الهوية والتراث والحضارة، فكان دور القاسم بارزا في الدفاع عن الأرض وضد مصادرتها وكانت دعوته حث الجماهير على وحدة الصف فنلاحظ في شعره التفاؤل الثوري، وكانت ثورته ضد اليأس والإحباط رغم المعاناة الشديدة ، من منطلق الوجود على الأرض والثبات والكيان ضد الترحيل والهجرة والأبعاد، ويعطي القاسم للأرض أبعادا تقدمية ذات مضامين فكرية، اجتماعية، إنسانية من منطلقات أيديولوجية فيقول في قصيدة "الأرض من بعدي"
"ارضي التي... بعظام أجدادي
قلبتها...وجبلت أولادي
ارضي التي دللت تربتها
ورعيت طول العمر حنطتها".
*رابعا: الحفاظ على الهوية والتراث*
كانت ثورة سميح القاسم ضد استلاب العمل وضد طمس الهوية العربية والهوية الفلسطينية واستلابهما، وكانت ثورته على الحصار الثقافي الذي حاول الطرف الآخر أن يعزلهم عن أمته وعروبته، عن طريق طمس التراث والتجهيل وتفريغ الهوية وقد سعى القاسم بشعره على المحافظة بكل ما يملك من أدوات فكرية في بث الوعي لدى الجماهير العربية في الداخل، ليحول دون الانصهار والذوبان في البوتقة في العدمية واللاشيئية، بل كان على العكس يغرس في نفوسهم الإصرار والصمود، مما ساعد على الحفاظ على الملامح العربية والحفاظ على مقومات الوحدة الوطنية كاللغة والدين والتراث، لذا تشبث القاسم بكل ذرة من تراب وطنه وكافح وناضل من اجل هويته وفلسطينيته ووجوده وفي هذا السياق قال عنه الكاتب يحيى زكريا الآغا: "إن القاسم هو عنوان الوجود الفلسطيني لأنه بقي على أرضه البقاء الوجودي والأبدي.
لقد استوعب القاسم الظروف التي عاشتها الأقلية العربية الفلسطينية داخل إسرائيل، فكان له موقف تمثل في الحفاظ على الهوية القومية العربية الفلسطينية في الذاكرة التاريخية والذاكرة الوطنية، فكان بمثابة السور الداعم لهذه الأقلية بما قدمه من توعية وتعبئة ، يقول القاسم في قصيدة "من المدينة":
"عبثا تحفر الرياح جبيني عبثا ينهش اللهيب نخاعي
هذه نبرتي، وهذي ذراعي وثيابي.. وأحرفي.. ومتاعي
أنا باق.. باقٍ أنا حيث أمضي لم أبدل ملامحي بقناع"
*خامسا: رفض العنصرية*
كثيرا ما جسد الموقف العنصري في الأدبيات الإسرائيلية المؤدلجة بالفكر الصهيوني ولقد اتخذ سميح القاسم موقفا ثوريا، أيديولوجيا، موقفا اجتماعيا وايجابيا في الرد على ذلك من اجل الكرامة، من اجل البقاء، من اجل الصمود، من اجل تحرير الإنسان من الاضطهاد والعبودية والعنصرية، لقد تعامل القاسم في الرد في شعره على الفكر العنصري فتبنى النظرة المغايرة، نظرة يسارية محضة، نظرة إنسانية، تقدمية واضحة غير مشوشة بعيدة كل البعد عن العرقية والعنصرية، وخير مثال على ذلك قصيدته "في صف الأعداء" الذي يقول فيها:
"أمريكي أبيض مات
مات وفي شفتيه نداء
فليسقط كلمات
كُتبت بالدم وبالإحزان
فليسقط عارُ الإنسان
يرفعه الفاشست على وحل الرايات
"ممنوعٌ إدخال كلاب ويهود وزنوج"
(يمة- المثلث)
* نص الكلمة التي ألقيت في احتفالية تكريمية لمنح الشاعر سميح القاسم مواطنة شرف من قبل بلدية كفر قاسم وذلك يوم الخميس الموافق 5/6/2008.
د. رقية زيدان
السبت 28/6/2008