*الحقيقة الساطعة هي أن اسرائيل في الواقع، ليست دولة يهودية فقط، ولم تكن كذلك في يوم من الايام، بما في ذلك وفق قرار التقسيم عام 1947. بل هي دولة فيها أكثرية يهودية واقلية قومية عربية أصيلة وكبيرة لا يمكن تعريف اسرائيل من خلال تجاهلها *
(من محاضرة قدمها في الهند - القسم الاول)
تتلخص الاستراتيجية الاسرائيلية في القضية الفلسطينية في السنوات الاخيرة بمحاولة الاحتلال الاسرائيلي، التخلص من الشعب الفلسطيني وهمومه بشكل منهجي، من دون ان يتخلص الشعب الفلسطيني من الاحتلال الاسرائيلي وكوارثه. ومؤخرا لم تتمالك المؤسسة الاسرائيلية ردة فعلها العصبية الموتورة والغاضبة على التزامن بين احيائها الذكرى الستين لقيام اسرائيل، وبين قيام الفلسطينيين، باحياء الذكرى الستين لنكبة الشعب الفلسطيني. وكانت وزيرة الخارجية الاسرائيلية الاكثر فظاظة حين أعلنت: "ان الفلسطينيين لن ينالوا استقلالهم يوما، ما لم يزيلوا كلمة "نكبة" من قاموسهم السياسي".
اننا حين ننظر الى السنوات الستين التي انقضت منذ تأسيس اسرائيل والعلاقة بين ما أريد له أن يكون "استقلال اسرائيل" من جهة، وبين النكبة من الجهة الاخرى، فأن هذه العلاقة هي أشبه ما تكون بالعلاقة بين توأمين سياميين: ولدا معا، وعاشا معا. يتحركان معا، ويكبران معا.
لقد حاولت اسرائيل على مدار السنوات الستين الماضية وبشكل منهجي لحوح التخلص من التوأم الملازم لها (نكبة الشعب الفلسطيني) من خلال اخفائه والقضاء عليه، لكن ذلك لم يكن ممكنا وليس ممكنا الآن ايضا.
وبات واضحا جليا، أن اسرائيل لا تستطيع ان تغسل ايديها من المسؤولية عن نكبة الشعب الفلسطيني من دون تحقيق الحل العادل لنتائج هذه النكبة التي نشأت عن اقامة اسرائيل.
ان كلا الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي لا يزالان يعيشان في ظل أزمة متواصلة وفي دوامة صراع دموي يستمد مقوماته من محاولات اسرائيل المنهجية القضاء على الحقوق القومية للشعب الفلسطيني. وفي سبيل انجاز هذا الهدف قامت اسرائيل بشن حروبها العدوانية، وبنت اسوار العزل العنصري وعمقت الاحتلال المتواصل- معتقدة ان ذلك سوف يساعد على ضمان استقلالها وشرعيتها.
وتبرز اليوم، على بعد ستين عاما، الحقيقة الساطعة بأن شرعية اسرائيل لا يمكن أن تكتمل ولا ان تتحقق من دون ضمان احقاق الحقوق الفلسطينية المشروعة، ومن دون ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير في دولته المستقلة بجانب اسرائيل. ان اسرائيل لن تكون مستقلة أو حرة حقا ما دام الشعب الفلسطيني محروما من استقلاله وحريته. وانجاز الحل العادل للصراع، ليس مصلحة للفلسطينيين وحدهم، بل هو المصلحة الحقيقية للشعب في اسرائيل ايضا. ان مستحقات الحل السلمي العادل واضحة ايضا: انسحاب اسرائيل الى حدود الرابع من حزيران 1967 (المعروفة بالخط الاخضر)، وممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير في دولته المستقلة ذات السيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة، على ان تقوم في مدينة القدس عاصمة الدولة الفلسطينية ايضا، وازالة جميع المستوطنات من المناطق الفلسطينية التي جرى احتلالها عام 1967، وتنفيذ الحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وفقا لقرارات الامم المتحدة. صحيح أن حدود حزيران 1967 ليست هي لب الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني ولكنها توفر فرصة معترفًا بها للحل.
*التخلي عن حل الدولتين تخل عن النضال لانهاء الاحتلال!*
مؤخرا، يقترح علينا بعض أصدقائنا من الفلسطينيين ومن نشطاء السلام والتضامن الدوليين المتعبين، الكف عن النضال من أجل انهاء الاحتلال وازالة المستوطنات وتحقيق حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة ذات سيادة، واستبدال ذلك بخطاب "حل الدولة الواحدة". ان مثل هذه الاقتراحات المغلّفة بلهجة "راديكالية" ليس بمقدورها خدمة القضية الفلسطينية ولا النضال الفلسطيني العادل. ان بمقدورها في افضل الحالات ان تخلّد الوضع الذي تقوم فيه دولة واحدة في فلسطين، تحت الاحتلال الاسرائيلي. ان تصعيد العدوان الاسرائيلي على المناطق الفلسطينية في السنوات الاخيرة لم يحدث لأن "حل الدولتين" لم يعد واقعيا، كما يدعي أصدقاؤنا المتعبون، وانما تماما على العكس، فقد صعّدت اسرائيل من عدوانها على الشعب الفلسطيني لأن حل الدولتين بات بشكل قاطع الحل الواقعي الوحيد، وفي محاولة أخيرة لاعاقة تطبيقه. واذا أخذنا بالاعتبار، حقيقة أن أسرائيل دولة قائمة منذ ستين عاما، بينما الدولة الفلسطينية لم تقم حتى الآن، يصبح الحديث- وظاهرة "الراديكالية"- عن حل "الدولة الواحدة" مجرد دعوة الى الشعب الفلسطيني للكف عن نضاله من أجل استقلاله، والمساومة على حقوقه القومية، بما فيها التنازل عن مطلب ممارسة حقه في تقرير المصير. لقد كان الشيوعيون تاريخيا، أصحاب مشروع حل الدولة الدمقراطية الواحدة في فلسطين حتى بداية العام 1948، حين كان طرح هذا الحل يعني تجسيد حق تقرير المصير للفلسطينيين وجميع سكان فلسطين، ولكننا لا نستطيع أن نقبل به اليوم حين أصبح يعني منع تجسيد حق تقرير المصير عن الشعب الفلسطيني، والتسليم بواقع الاحتلال الدائم.
واضح ان المجتمع الدولي لا يعمل بشكل جدي وكاف من اجل الاسهام في انجاز برنامج الحل العادل في المنطقة. والمشكلة لا تقتصر على الموقف الرسمي الاسرائيلي، بل على تقاعس المجتمع الدولي، الذي يمتنع عن تحمل مسؤولياته بالزام اسرائيل بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية المتتالية. ان الولايات المتحدة تثبت من جديد أنها ليست جزءا من الحل، بل جزءا أساسيا من المشكلة، وتشكّل سياساتها عقبة أساسية في طريق الشعبين للوصول الى السلام العادل.
لقد حاول الرئيس بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس التستر على حقيقة الدور الامريكي بتصريحاتهما مؤخرا في القدس ورام الله بأنّ: "الولايات المتحدة لا تتدخل في المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية".. مضيفان: "ان دور الولايات المتحدة يقتصر على مساعدة الطرفين على الجلوس معا والتفاوض"!! ان هذا "التعفف" الامريكي عن "التدخل في المفاوضات" يأتي في وقت يواصل فيه ملايين الفلسطينيين العيش تحت الاحتلال الاسرائيلي والحصار المتواصل وراء اسوار العزل، والتوسع الاستيطاني، ومصادرة الاراضي، وعمليات الاغتيال وهدم البيوت. وبعد أن بات واضحا، ان لا طريق الى تحقيق تقدم سياسي حقيقي لانهاء الصراع الدموي، الا بالضغط على اسرائيل واجبارها على الامتثال لقرارات الامم المتحدة ومؤسسات الشرعية الدولية. ان مثل هذا الضغط غير قائم بل مغيّب بشكل تآمري، منذ زمن بعيد، سواء من قبل الولايات المتحدة التي تقدر على الضغط الفاعل على اسرائيل، لكنها لا ترغب في ذلك، أو من قبل بقية المجتمع الدولي التي ترغب عموما في الضغط على اسرائيل، لكنها لا تقدر على ذلك، بفعل الدعم الامريكي المتواصل وغير المشروط لسياسات اسرائيل الاحتلالية والعدوانية. وعلى الرغم من ان الولايات المتحدة تتكلم بصوت عال عن سياسة "عدم تدخلها" في المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين، فإنّ "عدم التدخل" هذا، ليس في حقيقة الامر سوى تدخل فظ في صالح الاحتلال والعدوان الاسرائيلي. لقد ذهبت الولايات المتحدة بعيدا وهي تعمل على مساعدة النخب الاسرائيلية الحاكمة على تجاهل التزاماتها التي قدمتها مؤخرا للبيت الابيض ذاته في اجتماع أنابوليس، بشأن "العملية السلمية" وتنفيذ "خارطة الطريق". وعندما يدور الحديث عن الحفاظ على الالتزامات، فان الادارة الامريكية " تدعو الاسرائيليين الى .." و"تحثهم على .." ولكنها "تطالب الفلسطينيين بـ..".
وكانت وزيرة الخارجية الامريكية رايس قد صرحت في زيارتها الاخيرة الى رام الله أنّ "القيادة الفلسطينية هي التي تتحمل المسؤولية الآن عن تحسين ظروف معيشة الفلسطينيين.."، وكأن "ظروف المعيشة" هذه، لا تمت بصلة الى واحد وأربعين عاما من الاحتلال المستمر والحصار والحواجز وأسوار العزل العنصري والقمع والاضطهاد. ان الولايات المتحدة واسرائيل تجهدان بشكل منهجي ومثابر على الانقلاب على مفاهيم الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني، واعادة صياغة مفهوم القضية الفلسطينية وتحويلها إلى قضية اسرائيلية. فالحقوق القومية للشعب الفلسطيني ليست هي المطروحة على جدول الأعمال، بل المخاوف الاسرائيلية الديمغرافية العنصرية، والقلق على ما يسمى "احتياجات اسرائيل الامنية". والحقيقة انني لا أجد غضاضة في توفير الاحتياجات الامنية للشعب في اسرائيل، شريطة ان يكون واضحا ان توفير الامن ليس مطلبا اسرائيليا من الفلسطينيين بقدر ما هو مطلب فلسطيني من الاسرائيليين.
وعندما تتظاهر اسرائيل أسوة بالادارة الامريكية بقبول "الحل على أساس دولتين" فان منطلقهما في ذلك هو الحفاظ على "يهودية الدولة". ان نظرة الى مسار جدار العزل في المناطق الفلسطينية المحتلة والقائم على مبدأ "أكثر ما يمكن من الارض.. وأقل ما يمكن من العرب.." كافية لتثبت ان أمريكا واسرائيل تتجاهلان قرارات الشرعية الدولية وتتنكران لاحقاق الحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني بما فيها حقه في اقامة دولته المستقلة ذات السيادة في اطار الحل على اساس دولتين.
ان الخطاب الامريكي- الاسرائيلي يحاول أن يرسخ ثنائية "احتياجات اسرائيل الامنية" مقابل "تحسين ظروف معيشة الفلسطينيين". الا ان هذه الثنائية تبقى مخادعة، ما لم يجر التمييز مسبقا بأن "تحسين شروط حياة الفلسطينيين" لا يأتي في اطار تحقيق الكماليات، وانما يتعلق أساسا بضمان "الاحتياجات الامنية للشعب الفلسطيني"، ويطال الحفاظ على أرواح الفلسطينيين، وأمنهم الشخصي وحرياتهم، التي يهددها الاحتلال في كل لحظة، بما فيها حرية الحركة والحق الاساسي بالعمل والتعليم.
ان احتجاز الاحتلال لحريات الفلسطينيين، ليس بمقدوره ان يوفر المزيد من الامن للمواطنين الاسرائيليين وانما العكس هو الصحيح.
ان أمن الاسرائيليين يجب ان ينبع عن تحقيق السلام العادل. ويجب ان يكون "النتيجة" التي تتحقق عن الاعتراف بالحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني وممارستها- وليست بديلا عنها أو شرطا لها.
*بين دجاجة الازمة وبيضة الفساد!*
تعاني أسرائيل اليوم، وعلى بعد ستين عاما على تأسيسها، من أزمة سياسية واخلاقية عميقة جدا، تهدد بمحو الملامح الدمقراطية فيها نهائيا. ويتساءل الناس في اسرائيل وخارجها، حول مستقبل رئيس الحكومة ايهود أولمرت، في ظل التحقيقات المتكررة التي تجريها الشرطة معه في قضايا الفساد. كما يتساءل الناس حول لائحة الاتهام المخزية التي يواجهها وزير المالية السابق في حكومة أولمرت الذي أدين بأبشع تهم الفساد أيضا. ويتساءل الجميع اذا ما كانت هذه التحقيقات سوف تؤثر على العملية السياسية؟
ان الانطباع هو أن أولمرت قد انتهى سياسيا، وأن اسرائيل ماضية نحو انتخابات مبكرة. الا أن هذه الازمة، ليست فقط ازمة أولمرت الشخصية، ولا مسألة تخص هذا السياسي الفاسد أو ذاك. إنّها في الحقيقة أزمة بنيوية تمتد جذورها في الواقع الاسرائيلي، على مدار واحد وأربعين عاما على الاقل، من الاحتلال والاستيطان والاستغلال للمناطق الفلسطينية المحتلة. ان النخب الاسرائيلية الحاكمة وعلى مدار سنوات طوال من التأسيس لمنهج يستند الى التحايل والغش، من أجل الحفاظ على الاحتلال، لم تتورع عن خداع الرأي العام العالمي، ولا عن خداع الرأي العام الاسرائيلي نفسه، واعتكفت على انتاج ثقافة سياسية كاملة تقوم على الغش والتضليل. فمع اقامة المستوطنات الاولى، وشق أول الشوارع الالتفافية الاستيطانية على أراض فلسطينية مصادرة في المناطق المحتلة، كانت المؤسسة الاسرائيلية تضع البنية التحتية الحقيقية، للالتفاف على القانون الدولي وعلى القانون الاسرائيلي نفسه سواء بسواء، وتطويع القانون والجهاز القضائي لخدمة الاحتلال والتستير على ممارساته، والالتفاف على القيم الانسانية والاخلاق والدمقراطية وحقوق الانسان. وفي أعقاب التشريع الاول الذي منحته محكمة العدل العليا في اسرائيل لعمليات الاغتيال التي ينفذها جيش الاحتلال في المناطق المحتلة، فان لبنة أخرى أضيفت في بناء ثقافة الفساد والخديعة وانتهاك العرف الدولي وحقوق الانسان.
ان المشروع الاستيطاني برمته، كان يهدف منذ البداية الى تعطيل أية فرصة لانهاء الاحتلال ومراكمة العقبات في طريق انهاء الصراع وتحقيق السلام العادل. وسرعان ما تحول هذا المشروع الاستيطاني غير المسبوق الى جهاز لممارسة الفساد والرشوة السياسية، ودفيئة للعلاقات المشبوهة بين رأس المال الكبير والنخب الحاكمة، العاكفة على اعادة توزيع الدخل القومي لصالح الشرائح الاكثر تورطا في المشروع الاحتلالي الاستيطاني في اسرائيل وفي أوساط الصهيونية العالمية.
ان أكثر ما يؤثر على التطورات والعمليات السياسية الجارية في اسرائيل حقيقة، ليس التحقيقات البوليسية التي يخضع لها رئيس الحكومة أولمرت في قضايا الفساد، وانما غياب أي حراك سياسي حقيقي، وغياب أي بديل سياسي حقيقي داخل المؤسسة الحاكمة في اسرائيل، أو لهذه المؤسسة ومشاريعها. أن مصدر الازمة الاخلاقية والاجتماعية- والتي تشكل الاساس لجميع فضائح الفساد التي طفت مؤخرا- هو مواصلة انشغال المؤسسة الاسرائيلية بالتخطيط لحروب جديدة في المنطقة، في خدمة استراتيجيات الولايات المتحدة الامريكية الشاملة في الشرق الاوسط. واذا كانت ادارة الرئيس بوش قد حاولت خلال السنوات القليلة الماضية، دفع مخططاتها الاستراتيجية في الشرق الاوسط، من خلال القفز فوق القضية الفلسطينية، فإنها الآن وبعد غوص هذه المخططات عميقا في الوحل العراقي، تحاول بالتعاون مع الحكومة الاسرائيلية انقاذ مخططاتها الاستراتيجية عن طريق المرور عبر القضية الفلسطينية، من دون الاضطرار الى لها.
والحقيقة أنه لا يوجد أمام اسرائيل مخرج من الازمة البنيوية الطاغية التي تواجهها، من دون حل سلمي عادل للصراع، يقوم على انهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات في المناطق الفلسطينية المحتلة. وتشير استطلاعات الرأي الى أن غالبية الجمهور الاسرائيلي (أكثر من 56%) تؤيّد تفكيك المستوطنات في الضفة الغربية. ان المشكلة ليست في موقف الرأي العام في اسرائيل، بل في المؤسسة السياسية الصهيونية الحاكمة. وحان الوقت بأن تقوم هذه المؤسسة بتذويت الحقيقة الساطعة بأنه لا مستقبل لاسرائيل ولشعبها، من دون الاعتراف بمستقبل للفلسطينيين أيضا في دولتهم الحرة المستقلة وذات السيادة.
وعلى الدول التي تدعم السياسة الاسرائيلية الرسمية، أن تعي أنها بدعمها هذا، لا تعمل ضد مصلحة الشعب الفلسطيني وحده، لكنها تعمل في الحقيقة ضد المصالح الحقيقية للشعب الاسرائيلي أيضا. فموضوعيا لا تخدم مواقف الادارة الامريكية ولا الاتحاد الاوروبي ولا الحكومة الهندية المصالح الحقيقية للشعب في اسرائيل.
*في جدلية النضال من أجل الدمقراطية الحقيقية والمساواة في الحقوق القومية والمدنية!*
يشكل العرب الفلسطينيون المواطنون في اسرائيل أقلية قومية. ان مليون وثلاثمائة ألف مواطن عربي في اسرائيل يشكلون نسبة عشرين بالمائة من سكانها، هم ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الذي صمد في وطنه برغم نكبة شعبه الفلسطيني في العام 1948. اننا جزء من الشعب الفلسطيني دون انتقاص، ولكننا نصر في الوقت نفسه على أن نكون جزءا غير منقوص الحقوق من مواطني إسرائيل. ان إصرارنا على حقنا في المواطنة غير المنقوصة، ليس نابعا عن اننا ظهرنا فجأة في اسرائيل، وانما لأن اسرائيل ظهرت فجأة في وطننا الذي لا وطن لنا سواه.
ان احدى الوسائل المركزية التي لجأت اليها المؤسسة الاسرائيلية للتخلص من التوأم السيامي الملازم لقيام اسرائيل، تمثلت في محاولتها محو الهوية القومية للمواطنين العرب في اسرائيل، ومحو انتمائهم كجزء من الشعب الفلسطيني، وافتعال هوية قومية جديدة للتعامل معهم كـ"عرب اسرائيل". لقد رفضنا هذه الهوية الهجينة، وانتزعنا الاعتراف بأننا أقلية قومية فلسطينية مواطنة في اسرائيل. واننا في الوقت ذاته جزء من الشعب الفلسطيني بلا تردد، وجزء من المواطنين في اسرائيل بلا تأتأة.
ان الاوضاع المركبة، تتطلب إجابات مركبة. لقد حدد الحزب الشيوعي الاسرائيلي استراتيجيته في القضية القومية تاريخيا، على أن المواطنين العرب في اسرائيل، هم جزء من الشعب الفلسطيني وجزء من النضال من أجل انتزاع حقوقه الوطنية وتحقيق السلام العادل، وفي الوقت ذاته هم جزء من المجتمع الاسرائيلي، وجزء حاسم من النضال من اجل احداث التغيير الدمقراطي العميق داخل هذا المجتمع. وان المواطنين العرب لوحدهم ليس بمقدورهم انجاز هذا التغيير. ولكن ليست هناك قوة أخرى في اسرائيل قادرة على احداث التغيير الدمقراطي العميق، من دون مشاركة الجماهير العربية أو في المواجهة معها.
وفي اطار المنظورالاستراتيجي الذي رسخه الحزب الشيوعي فان دور الاقلية القومية العربية، في اسرائيل، جنبا الى جنب مع القوى الدمقراطية اليهودية، ومع قوى السلام الاكثر التزاما في اسرائيل، هو تحويل المجتمع، والعقلية السائدة ونظام الحكم في اسرائيل تحويلا ثوريا، نحو دمقراطية حقيقية وسلام عادل ومجتمع تقدمي اشتراكي. ان الاقلية القومية العربية بقيامها بهذا الدور، وانخراطها في هذه النضالات، من موقعها المتميز في اسرائيل انما تقدم اكبر خدمة لقضية شعبها الفلسطيني.
لقد مرت أيام كانت المؤسسة الرسمية الاسرائيلية تنشط فيها لمحاربة المركب الفلسطيني في هوية المواطنين العرب في اسرائيل، مستندة الى الارهاب الفكري والسياسي للحيلولة دون تجرؤ الناس على استنهاض الوعي بانتمائهم الى الشعب الفلسطيني من جهة، ولمأسسة هوية "العربي الاسرائيلي" الهجينة، بديلا عن الهوية القومية الفلسطينية من الجهة الاخرى. لقد هزمت هذه السياسة وسقطت المراهنة عليها. ومنذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين باتت مخاوف المؤسسة الاسرائيلية وقلقها، لا تتمحور في المركب الفلسطيني في هوية المواطنين العرب، بل أخذ يقلقها أكثر من أي مركب آخر، المركب المدني "المواطني" في هويتهم كمواطنين في دولة اسرائيل.
ان المركب المدني في هوية العرب الفلسطينيين المواطنين في اسرائيل، ينعكس في اصرارهم على النضال من أجل تحقيق المساواة التامة في الحقوق المدنية كمواطنين، وفي الحقوق القومية كأقلية عربية فلسطينية داخل دولة اسرائيل. وينعكس أيضا، في اصرارهم على الالقاء بوزنهم السياسي المتميز من أجل التأثير على صورة المجتمع الاسرائيلي وسياساته ووجهة تطوره. ويبدو انه كلما زاد وعي المواطنين العرب في اسرائيل لوزن مواطنتهم، وكلما زاد اصرارهم على توظيف ثقلها لطرح بديل للاجماع القومي الصهيوني، الى جانب القوى الدمقراطية اليهودية، المعنية باحداث التغييرالجذري في اسرائيل، فان الوجه الاقصائي البشع "للمخاوف الديمغرافية" يتكشف بشكل سافر. ان أحزابا سياسية قوامها المطالبة بالتراسفير القسري للمواطنين العرب والتخلص من مواطنتهم، باتت جزءا شرعيا من الخطاب السياسي الرسمي السائد في اسرائيل.
لقد خاضت الاقلية القومية العربية في أسرائيل نضالا مريرا على مدى عقود من الزمن، بقيادة الحزب الشيوعي من أجل البقاء في وطنها والدفاع عن أراضيها وحقوقها، بعد ان نفضت عنها نفسية النكبة وطورت بديلا لها، هي نفسية النضال والتصدي لتكون نقيضا للنكبة ومخرجا منها.
على مدار ستة عقود طالبت المؤسسة الاسرائيلية المواطنين العرب باعلان ولائهم لدولة اسرائيل. وبشكل أساسي فان المواطنين العرب لم يخرجوا ضد دولة اسرائيل وضد وجودها. لكنهم ناضلوا دون هوادة من اجل الحق في اقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة أيضا.
ان المحاولات لجر النقاش بعد ستين عاما على اقامتها، الى مسألة حق اسرائيل في الوجود، هي محاولة اسرائيلية خطيرة لابعاد الانظار عن تنكرها لحق الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال ومواصلة احتجازها لحقه في اقامة دولته المستقلة. لقد حان الوقت لأن تعلن دولة اسرائيل ولاءها لشرعية مواطنيها العرب وشرعية مواطنتهم، ولتعلن ولاءها لمستحقات السلام العادل والاعتراف بالحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني.
ان المؤسسة الاسرائيلية لا تزال تتعامل مع ابناء الاقلية القومية العربية فيها كغرباء في وطنهم أو ضيوف عابرين. ان هذا التوجه، لاينحصر في نهج اليمين المتطرف الذي يطرح مشاريع الترانسفير والتبادل السكاني، فالمشكلة الحقيقية تتمثل في تجذر هذه الافكار في الخطاب السياسي السائد في مركز السايسة في اسرائيل. ان سياسة "الخطر الديمغرافي" العنصرية، والهجمة لتثبيت الطابع اليهودي لاسرائيل، (يهودية الدولة بدلا من اسرائيليتها)، ومشروع جدار الفصل العنصري، ليست حقيقة من صنع اليمين الاسرائيلي المتطرف، بل من صنع مدرسة حزب العمل، الذي يوفر البنية التحتية الفكرية لانفلات اليمين المتطرف. فعشية الذكرى الستين لقيام اسرائيل أعلنت وزيرة التربية والتعليم السابقة، اليمينية المتطرفة ليمور ليفنات، في برنامج تلفزيوني تناول الاخطار الاستراتيجية التي تواجه اسرائيل، ان "ليس هناك تهديد استراتيجي حقيقي على اسرائيل، من قبل ايران أو حزب الله أو حماس.. فان اسرائيل قادرة على مواجهة هذه الاخطار عسكريا "، "ان الخطر الاستراتيجي الحقيقي" أضافت، "ناتج عن الخطر الدموغرافي الذي يمثله مواطنو اسرائيل العرب"..
والحقيقة الساطعة هي أن اسرائيل في الواقع، ليست دولة يهودية فقط، ولم تكن كذلك في يوم من الايام، بما في ذلك وفق قرار التقسيم عام 1947. بل هي دولة فيها أكثرية يهودية واقلية قومية عربية أصيلة وكبيرة لا يمكن تعريف اسرائيل من خلال تجاهلها. ان محاولة المؤسسة الاسرائيلية أن تفرض تعريف اسرائيل كدولة "يهودية ودمقراطية" بقوة القانون وتحت طائلة العقاب، يضع علامة سؤال على طابعها الدمقراطي أيضا. ان نضال الاقلية القومية العربية من اجل المساواة الجوهرية في الحقوق ونضالها من اجل الدمقراطية العميقة، هما نضالان متداخلان. ان مساواة الجماهير العربية في اسرائيل، ممكنة فقط في اسرائيل دمقراطية أكثر، ولكن اسرائيل ليس بمقدورها أن تكون دمقراطية حقيقية ما دامت تواصل سياسة التمييز القومي والعنصرية.
في الصورة: الشاعر الهندي الكبير كوروب يقرأ قصيدته"طائر الفينيق" المهداة الى نضال الشعب الفلسطيني في اجتماع كيرالا.
عصام مخول
السبت 28/6/2008